من المسائل الصعبة جداً، اقتحام التاريخ، لأن معضلة التناقض، ووفرة التفسيرات الاجتهادية أخلت بكثير من الدراسات، بل وجعلت حتى الدراسات الأكاديمية خاضعة لمقاييس ومواصفات الوضع التاريخي الذي يكتب به هذا السفر أو ذاك..
والأمة العربية قد تكون تحررت أراضيها من النفوذ العسكري والسياسي المباشر، ولكنها ظلت غير متحررة عقلياً، لتأخذ بالاستقلال الطبيعي لأمة تبحث وسط علاقاتها المعقدة، وأرثها الكبير عن حلول إيجابية تصنع مستقبلها، وحاضرها..
فالتحولات الجذرية في خلق شخصية عربية سوية لها القدرة على الخلق والإبداع، تعددت الاجتهادات والدراسات في محاور أزماتها.. ولعل الذين يريدون تأكيد هذه الروح الانهزامية هم الذين جعلوا التاريخ العربي ميداناً لمحاكم غير عادلة، أو قد لا تكون منصفة..
ولسنا في موقف يريد إخضاع الأشياء حسب قوانينها الوضعية، وإنما المهم هو أن تكون الصلة مع التاريخ، في حدودها المنطقية، حتى ولو كانت في عصرها.. أي أن تتخذ من الجانب العقلي مساحة لحوارنا مهما تعددت المواقف السلبية بجانب المواقف الإيجابية..
لقد قيل إن التاريخ العربي لم يضع منهجاً فلسفياَ عقلانياً لتكون من نصيبه عصر المكتشفات والنهضة الأوربية التي قامت على أنقاض التاريخ العربي..
وقيل أيضاً، أنه بالرغم من الطابع الديني التتري للغزوات الصليبية فإن صراع الكنيسة مع الإسلام كان صراعاً حضارياً للجانب الأوروبي. ولكنه انقلب إلى عمل عنصري تجاه العالم كله.
وقد لا نختلف بأن أي نهضة حضارية تولد خصائصها معها، ولكن في الجانب الفكري نعتقد أن مؤثراته هي التي، عادة، تسبق المجال الحيوي للعناصر الحضارية الأخرى..
ومن هذا المنطق، فإنه لا خلاف على المؤثرات التي تلاحقت، وأوجدت فكراً إنسانياً حتى هذا التاريخ.. ولكن من هذه المقولة، أو الاتهام بأن العرب لم يضعوا فكراً تطورياً يبقى على عنصر حضارتهم، مسالة بغاية العمق والتعقيد…
فسوريا، كانت قبل الفتح الإسلامي – العربي دولة رومانية ذات تقاليد عريقة، ولكنها – على خلاف تلك الرؤية – أصبحت عربية بتقاليد، وفكر جديد إلى هذا العصر..
وبنفس القياس ينطبق هذا على فلسفات كثيرة، وحضارات ذات أسس لا تنكر..
فحضارة ما بين النهرين، وإن لم تكن حملت سجلها التاريخي مكتوباً بتكامل ما كان لحضارات اليونان والعرب، والهنود والصينيين، فإنها بعوامل ظروف تفككها حملت فناءها، ولم تستطع الاستمرار.. وهذا المثل ينطبق على العديد من الحضارات الانسانية، أو حتى ما سمي بحضارات الأباطرة والسلاطين، التي طبعت بشخصياتهم فقط، وخلدت لهذه الغاية دون أن يكون لتلك الشعوب سجل تاريخي يحمي حقهم في صنع تلك الأمجاد الكبرى.
ولو استنطقنا التاريخ القريب، فإننا سنواجه ثمانية قرون للخلافة العثمانية، ولكنها لم تكن على عطاء الخلافة الإسلامية في عصورها العربية المختلفة.. وتلك مسألة تستحق الوقوف والمحاورة..
فالعرب خرجوا من الجزيرة العربية، بدوافع عقائدية مخلصة ولم تكن حروب الردة، وغيرها، إلا بقايا الأزمة القبلية ذات الطموحات الآنية.. ولكن بعد انتصار الخلافة الأولى على تلك الحروب، كان التوجه رائعاً وعظيماً، وكان أسرع فتح في التاريخ يهزم حضارات قائمة..
وإذا ما أريد أن يحاكم ذلك التاريخ بأن فعل عسكري مغامر، فإن غزوات كثيرة أحاقت بحضارات تاريخية، ولم يكتب لها البقاء، وأقربها غزوات المغول والتتار التي هزت أركان آسيا كلها..
ولكن السؤال يظل قائماً، وهو أنه لماذا لم تكن الثمانية قرون للخلافة العثمانية ذات أثر حضاري، ولو على الأقطار القريبة من عاصمتها؟؟
إننا لا نفترض أن العنصر البشري وحده، هو الذي كون تلك الحضارة، لأنه بعد فتح بغداد، ودمشق لم يكن العنصر العربي هو المتفرد بشق قنوات جديدة على تلك التقاليد العريقة للفرس والروم، ولكننا لا نستطيع تجاهل دوره الأساسي وإن كان الأساس في ذلك التكوين الحديث قد انطلق من حقيقة العقيدة، واللغة، وتلازمهما في صنع الشخصية العربية الإسلامية التي طورت مفاهيمها من واقع انفتاحها على عصرها وصهر تلك الأجناس في كيان مشترك..
ودليل آخر أن الحرب التي قادها ملوك أوروبا على الخلافة الأموية في الأندلس كان الهدف الأول تفتيت شخصية اللغة العربية، وإنهاءها من تلك البيئة مهما كانت الشروط غير إنسانية، أو لائقة، لأن اللغة مكون طبيعي يستطيع أن يضع كيانات جديدة، وهذا ما يتمثل في قارة ضخمة كأمريكا الجنوبية التي تتكلم الإسبانية، أو البرتغالية، وهي سكاناً وأرضاً تزيد عشرات المرات عن منشأ تلك اللغات في أقطارها الأصلية..
وجانب مهم أن الفتح السلمي للدين الإسلامي، والذي حمل معه اللغة العربية في أقطار آسيوية كبيرة تزيد، بنفس الوقت، عن الوطن العربي كله، ظلت على علاقة وثيقة بتلك اللغة، لأن ذلك الفتح كان فتحاً ثقافياً، دينياً، وعقلانياً، ولم يكن عنصرياً، أو تفوقياً، كما هي العادة في فتوحات كثيرة.
وإذا كنا لا نريد الخوض في جوانب عديدة، أو الرد على اتهامات أخرى بأنه في زمن الفتح العربي – الإسلامي، نشأت مذاهب غير سلفية، أو بدافع جذورها القومية الأولى، وركوب مطية السياسة من خلف أسوار تلك الخلافة فإن موقفاً مغايراً نشأ حتى في الحضارة الأوروبية الحديثة، وهي التي تفتتت لغتها الأم (اللاتينية) إلى لغات أوجدت شخصيات قومية كانت أساس انفصالها عن هيمنة الكنيسة، وتسلطها..
وهذا الوضع مخالف أساساً للخلافة العربية الإسلامية وحضارتها.. لأن الانفصال – فيما عدا – الأندلس، وهو موقف تعسفي قسري، فهو لم يكن انفصالاً من نزاع في الأساسيات التي قامت عليها تلك الحضارة، وهي القصيدة واللغة..
كذلك إذا كان الامتداد الحضاري مربوطاً بكيان فلسفي أو فكري متنام، فإن عشرات الفلسفات والنظريات انحرفت عن مسارها الأصلي، أو حتى منشئها لتوجد وضعاً جديداً، بل وعدائياً مثلما كان للفلسفة الماركسية التي قامت أركانها في ألمانيا وبريطانيا ولكنها تحققت كمشروع أيديولوجي وسياسي في الاتحاد السوفياتي، وهو ما كان خارج نطاق تفكير ماركس نفسه، ولتصبح ذات عداوة عصرية لنظامين متغايرين.
وحتى في التقاليد الدينية الآسيوية.. فإن البوذية ولدت في الهند، وتحققت في الصين واليابان، ودول جنوب شرق أسيا، ورسخت كقوة عقائدية في (التيبت) وهو إقليم صيني بكل إرثه التاريخي..
إذن لا نستطيع أن نقول أن الوجه الفلسفي وحده قادر على قيادة أي حضارة وبقائها، ولكن عوامل مرادفة كثيرة هي التي تدفع بالثورات الإنسانية إلى البقاء والديمومة.. وينطبق هذا بشدة على أقطار أوروبية كانت تسود العالم قبل فترات قصيرة، ولكن العامل الزمني شكل وجوداً مغايراً ليفرز قوى، احتلت تلك المساحة على الأرض، وفرضت هيمنتها الاقتصادية والعسكرية، وحتي العقائدية، وهذا هو الأمر الذي شغل فكر ابن خلدون، ومن جاء بعده في دراسة الحضارات الإنسانية وعوامل نشوئها وسقوطها..
الحاضر العربي لا ينفصل عن هذا التعاقب الزمني، وإن كان الأكثر توتراً، وتصادماً مع جبهات عديدة في هذا العصر.. ولكن ليس من السهل أن نعتقد أن بناء أمة يأتي بقرار، أو بمشروع ينقل بواسطة الأقمار الصناعية إلى قارات العالم..
فهذا الوطن، مثلما هو في تناقض مع ماضيه، فإنه أشد قلقاً وضياعاً في داخله في الوقت الراهن، ولكن ليست كل المسلمات قانوناً أزلياً، وإلا لبقيت البشرية كلها في موقع واحد من التخلف أو التقدم، وهذا ما سيكون عليه المستقبل العربي كحلقة مهمة في الوضع البشري كله..
الكرت الذهبي!!
الكرت الذهبي!!
لم أغضب أو أحتج حين زحفت نظراته عليّ تقيسني عرضا، وطولا.. ولم أعرف أنه ربما يزن جيبي، وهل أتعاطى الطريقة الجديدة في مبايعات الأسواق الكبيرة في (الدانير كلاب)، أو...
0 تعليق