لم يفاجئنا من يقول إن عيني الفاروق العسليتين تتصلان بنسبه لجدته الرومية!!
وبنفس الوقت لن نعدم رأي هذا المدعى للتاريخ أن يجعل من أحد الزعماء العرب صورة لأجداده الأتراك، بصفات أخرى في الأنف والفكين!!.. الخ..
هذا القليل التاريخي سار طويلا في أي ترجمة لشخصية عربية أو غير عربية في العصور الماضية، وقد تكون الأسباب موروثة من الماضي البعيد بغية تأكيد هوية خاصة ومميزة لشاعر أو عالم أو فقيه، وقد تكون الأساسيات الأصيلة هو أن الشاعر كان صوت عصره، والأسباب التي رواها التاريخ العربي لا تحتاج إلى ترديد، لأن هذا الموضوع معروف ومكرور.. غير أن الأمر استغل بطرق كثيرة بعضها أراد أن يصل ارومنه بقريش لغاية دينية، بنفس الوقت استغلت هذه المصادر لوثائق حاول الغربيون ممن رافقوا التبشير، والحملات الصليبية، والاستعمار العسكري، جعلها طعنا للتاريخ العربي الإسلامي، مدعين أن كثيرا من العلماء، ورجال الفكر هم من أصول غير عربية وأن الدور الذي قام به الفتح العربي الإسلامي لم يكن إلا تسلطا عسكريا، استطاعت تلك الحضارات أن تستوعب تلك الأجناس في مدينتها، وتجعل منهم مجرد (حكواتيه) يرددون الأساطير ويعشقون تجميع الجواري والخصيان!!.
ولئلا نختلف على القاعدة التاريخية التي تقول بأن الفرضية الحقيقية للتطور الإنساني جاء متواترا وأنه صناعة بشرية لا يحتكرها جنس أو لون أو قارة ممطرة أو جافة.
كذلك فإن قنوات المعرفة التي هي أهم وسائل الاستدلال العقلي، ولدت بالشرق قبل الغرب حتى أن المؤرخين يعترفون إن كسر احتكار المعرفة وسلب الكنيسة من هذا الامتياز لم يأت إلا بعد نقل الورق من مصر إلى الغرب الذي كانت أدواته في الكتابة جلود الغزلان، والتي لا تتوفر احتكاراتها إلا بالأديرة وبين أيدي الخاصة من رجال الكنيسة!!
إذا ما عرفنا ذلك وأن قانون التغير في اي أمة يأتي من جملة ما تفرزه تناقضاتها، وأن تلك الممارسات هي التي تكسب المجتمع النمو الطبيعي، والثبات ومحاربة التيارات المضادة، والتواصل بين ماضيها وحاضرها وفق حياة العصر التي تقع فيه، فإننا بالتالي سنجد هذه العلاقة السببية لا تخرج عن مجمل الظروف التي تحيط بأي أمة كانت.
فالماضي الذي جعل علة خانقة في التحرك إلى الأمام هو أن معظم المؤرخين أساءوا بمصادرهم المشكوك فيها إلى كثير من الوقائع والأحداث لأنها كتبت بظروف تلك المرحلة، وخارجة عن الأمانة العلمية في الرواية لأسباب كثيرة وهي علة ذلك الماضي ومشكلته.. ولكن إذا كانت المصادر متعددة ومتوفرة فإن إعادة صياغة التاريخ بروح تستهدف الوصول إلى الحقيقة، لا تختلف إطلاقا بأن تكون قاعدة جديدة، في تطور الأفراد والأمة كلها، وتلك هي أحد المهام التي تطرح أمام الجيل العربي الحاضر، وهو كيف نستطيع أن نحلل الماضي بدون عقدة تفوق النوع، أو سلب تلك الأجيال من قيمة عطائها أيا كانت صلة رحمها أو جنسها.
وحقيقة لا يستطيع أن يماري فيها أي منصف للتاريخ أنه لولا خروج الإسلام من الجزيرة العربية بكل ما يحمله من مضامين رائعة لما أصبح لنا هذا الواقع التاريخي.. إذ أن الصدام المباشر مع حضارتين قائمتين بتراثهما وتقاليدهما الراسخة، ليس من السهولة أن تصل إلى العمق في نفسية تلك الشعوب وتحقيق التوازن الإيجابي بين تطلعها إلى الواقع الجديد، وموروثاتها الضخمة من مجموع الوقائع التاريخية..
وهذا معناه أن القيم الجوهرية في أي أمة لا تختلف من زمن لآخر، وتلك أحد الأسباب التي جعلت النهضة الأدبية تستمد حدسها التاريخي من ذلك الإرث اللاتيني بكل معطياته وإن جحدت كل التراث الحضاري الإنساني الذي عمق وسبق تلك الموروثات اللاتينية، وقدم لأوروبا الحديثة خلاصة تلك التجربة الرائدة.
الناحية الأخرى في الموضوع أنه لم يكن الحاضر مهما كانت إيجابياته، ليلغي الماضي، لأنه لو أبيد معظم البشرية في الوقت الحاضر بأي سلاح كان، فإن من يبقى سيخرج ببدائية جديدة قد لا تحمل أي مضمون للعصر الحاضر، وإن عاشت بين فواصله.. ذلك أن الصدمة ستكون أكبر من أن يميزها العقل، وقطعا ستضع أسلوبا جديدا قد يختلف تماما عن المرحلة التي تعيش فيها تلك البواقي من البشرية.
ومهما كان هذا التصور غير خاضع لتجربة مدروسة أو معقولة، فإن تفاوت الأمم بين عصور نهضتها أو انحدارها يحقق هذا التصور.
لندع هذا جانبا، ونقول أن الأمة العربية في وقتها الآني، لا تعاشر الحاضر بخط واضح يلغي الخشية من تناول التاريخ العربي بمجمل أسبابه السلبية والايجابية وتخرجه من تعصب القبيلة، والمذهبية والطائفية، وتزاوج حالة اللاوعي التي تسير عليها والانغلاق عن مضامينها في التراث والإنسان، بمعنى أن نفهم حقائقنا من داخل دائرة الوعي، ومن اليقين بأننا لم ننقطع عن مسيرتنا واتحادنا مع جذورنا العميقة في الماضي والحاضر.
نحن ندرك أن الحضارة بكليتها تتجه إلى الإنسان ولا تفرق بين طبيعته البشرية من حب التملك، والبحث عن السعادة، أو همومه الخاصة، ومجمل ما يؤثر به من محيطه الاجتماعي، وتطلعه إلى أن يتكون موقف وجودي في العالم فالانتصارات القديمة خرجت من درع البطل الفتي، إلى الأمة الرائدة التي تعيش عصرها ومدها الزمني في الحاضر والمستقبل.
فعصر المكتشفين الأوائل والمغامرين، وأصحاب الأساطير الشبيهة بالخيال، ألغى دورتها العصر التقني الحديث.. وترك أزمات جديدة انعكست على حالاتنا الفردية وأفرزت خلقنا الفكري وأصبح العصر يحمل هما متشابها لم تعد الحروب التقليدية تحل وضعه الاجتماعي على حساب وضع
آخر.
وهنا كان الدور الجديد لأجيال الأمة العربية يختلف تماما عن أي عصر مضى.
فغوغائية الشارع، ورفع الشعارات السلبية، يقابلها منطق متحد، هو منطق العقل والمصالح في الخارج وهنا كان أحد الأسباب المتردية في مسيرتنا هو النظر إلى الأشياء من كوة السياسة فقط.
وعلى أهمية هذه القضية، وعدم فصلها عن أي مناخ تولد به فإنه في حضرة الأمة العربية الحاضرة أغلقت مشاريع التنمية الذاتية بأن جعلت أمر السياسة محور الارتكاز.. وحتى هذه القضية تعاملنا معها بشخصية القبيلة الجديدة، أي انها انطبعت بأعرافنا التقليدية ولم تستطع أن تدخل الميدان بسلوك العصر ومداخلاته الحادة وحرية التصرف والتفكير.
فالمؤتمرات، والحوارات سواء بين أطراف عربية خالصة أو عربية وأجنبية تخرج الخلافات المقررة سلفا من حقيقة خلافنا السياسي.. وتأتي تلك على حساب التعليم، والغذاء.. وحتى الحرية الاجتماعية.
إن أقطارا عربية تقف نسبة أميتها على معدلات عالية في حين ترتفع بها طرديا نسبة المؤهلات العليا، لتهمل جانب التخطيط العلمي وهو الأهم في اقتصاد بشري هو أساس القوة الفاعلة في المستقبل بنفس الوقت نخفي (تراجيديا) صراعنا الأزلي مع مختلف السلبيات الكبيرة التي تعيش في مجتمعنا.
الماضي والحاضر لم يكونا حفلا تأبينيا في صراع الأجيال، لأن الأرض التي نقف عليها لم تختف بكواكب فضائية والإنسان لم تتبدل قواه العضلية والجسمانية ليبرز (السوبرمان) من قمقم على حساب قطيع المنبوذين.
والأمة العربية التي تعيش من بين عناصرها من يفسر المواقف والأشخاص، من خلال بروز الجبهة والعينين، يعيش أسر الجاهلية الحديثة، ويختفي وراء شخصية سلبية أو مريضة تخلى عنها حتى علماء الأجناس، أو من جعلوا رابطة التخلف، والتفوق، من أفق استعماري، تضليلا تاريخيا لأنها فشلت في تأصيل هذه الرؤية، وأنهى مدلولها بمجرد بروز حقائق العلم والإنسان وعلومه التي لا تقبل التشكيك أو النقض.
التاريخ: 24 – 11 – 1401 هـ
0 تعليق