في «حروف، وافكار» السبت قبل الماضي كان الزميل الدكتور «حمد المرزوقي» قد كتب عن «الأمريكي الذي يقرأ.. ولا يفهم» وهو حوار جاد عكس تصور كل من الدكتور حمد، وكذلك الأمريكي الذي استطاع أن يقرأ الشيء الكثير عن المجتمع العربي وخصوصياته، ولكنه صدم بالواقع حين أراد أن يصل إلى مخابئ الذات العربية!!
وبصرف النظر عن التوجهات التي ينشدانها.. إذ أن الدكتور، قد عالج الموضوع من طرف فطرته العربية وكيانه الذاتي داخل هذا الوطن.. في حين أن الأمريكي توجه بحدسية السياسي، أو الأكاديمي لتلك المسلمات من خارج تكوينها المعقد..
في المقدمة التي عالج بها الدكتور حمد من زاوية أكاديمية، أو من خلال طرح محوري بين نظرته الحذرة التي عاكس بها رغبات ذلك الدارس الأمريكي، قد لا تنطبق بكليتها على ما ذهب إليه الدكتور حمد حين قال: “وأسوق لك أمثلة منذ سنوات قرأت وثائق كتبت بعناية تامة عن بعض قبائل الجزيرة العربية، وقام بدراستها اخوان بذلوا جهودا مضنية في التحليل والتعليل، وجمع المعلومات.. وسألت نفسي.. هل فعلا هذا التشخيص يتماشى مع حقيقة القبائل التي أعرفها جيدا..
كذلك سبق هذا التمثيل، أو إيراد هذا المثل قول الدكتور “أن فهم التركيب الثقافي، والمزاج الحضاري لشعب ما يفترض المشاركة الوجدانية مع من حولك لكي يمكن لك فهم معاناة الأمة، وأحزانها وطموحاتها، واحباطاتها، وكيف تعبر عن هذه المعاناة، كأحداث وسلوك»..
هذه الافتراضات لا الحقائق، وغيرها ممن أورده الزميل قد تكون في تحليل الظواهر العامة تصدق بعض الشيء، لأن المخزون الكبير من المصادمات والعداوات التاريخية بين شخصية الغالب والمغلوب تجعل هذا الإحساس مركبا ويكون الحاجز الذي تظلله هذه الكراهية، أو النفور يخرج من صلب تلك المعاناة التاريخية، وإن كانت بمعناها الأشمل أن الأجنبي يظل يحمل هذه السمة حتى في البلدان التي ترسخت بها شخصيتها القومية، كالدول الأوروبية..
ولكن (المزاج) الذي يجب أن يفهمه هذا الأمريكي، وينفعل معه،، كما يقول الدكتور لم يكن في يوم من الأيام مانعا أصيلا في العثور على دلائل توصله إلى نفسية الشعب العربي، أو غيره..
ولو افترضنا ذلك حتى على مستوى الشخصية العربية المثقفة وهي التي أقرب إلى الحوار، والمماحكة وطرح المفاهيم المغلقة حتى بين تيارين مختلفين..
إنني لا أريد أن أتعرض لمجمل الاشارات أو التوضيحات التي تناولها الزميل، ولكني أريد أن أركز على جانب له أهمية في إطار الحوار الذي يتناول الحذر المشوب بالقلق من أي قادم أجنبي، ولو كان السبب الحقيقي من غاياته هو دراسة المجتمع العربي بكل خصائصه لغاية أكاديمية..
ولو أردنا أن نفرد الموضوع على مساحة أكبر.. أي تحليل بعض أنماط التاريخ العربي الحديث، وجوانب أخرى لمجتمعات مماثلة، فإننا قد نلتقي على درجة هامة من تلك المرحلة التاريخية..
فنحن نعرف أن هذا (المزاج) لم يكن محضا حتى في الوقت الذي كانت القبيلة شبه عصبة واحدة.. ذلك أن شخصيات كثيرة جدا لعبت دورا كبيرا، سواء في الجانب السياسي، أو حتى العسكري، في الوطن العربي، ومساره، وهي تحمل السمات والهوية الأجنبية..
فـ “لورنس” لم يكن تلك الشخصية العابرة التي لم تصل إلى دقائق الشخصية العربية، وتلعب دورا، مهما اختلفت عيه التحليلات السياسية، أو التاريخية..
لقد عرف دقائق شخصية المواطن الحضري والبدوي، ولم يكن بحاجة إلى أن يجمع ثيابه ومتاعه ويعود إلى لندن صفر اليدين.. وهي موهبة شخصية تحلى بها لورنس..
بنفس الدور لعب كذلك “قلوب باشا” لدرجة أن اسمه أصبح متوارثا بين أبناء القبائل العربية..
وغير ذلك الكثير ممن عكسوا أدق حياة النساء، والأطفال ومزاج العربي في تلك الحقبة الماضية..
وإذا كنا لا نريد الخلاف حول هذه القضية، فإن الذي يهمني هو أن لا تكون الأحكام تخضع للعموميات لتترك لنا ذلك التناغم من شبه الحقائق حول حاضرنا.
فهذا الأمر لم يكن لنا وحدنا، حتى وإن اختلفت الغايات من الأجانب في اي دولة نامية..
فهناك الكثير أيضا ممن فهموا هذه الشخصية العربية، وأخذوا بشعار الدفاع عنها من مفهوم أن لها إرثا حضاريا، أو تاريخيا، وأن موقفها الإنساني لا يتغير لمجرد تفوق ذاتي بين أمتين في زمن ولحظة تاريخية معينة..
ولقد كانت “بيرك باك” مثلا أصدق من عبرت عن شخصية الأسرة الصينية من خلال روايتها (الأرض الطيبة) وقد كان التوجه في سلوكها وأسلوبها، إنسانيا ومحايدا
ومن هذا المنطلق أرجو أن لا يفهم الزميل أنني أدافع عن موقف ما للأجنبي، ولكنني أريد أن أظهر أنه ليست هناك حواجز تفرض تلك الأحكام على تفرد الشخصية العربية بهذا الجفاء الذي يصل إلى المعتقد المنظم، كما هو الحال بالنسبة لشعوب متقدمة كاليابان التي يدخل في معتقدها الوطني أن أسرارها الذاتية هي سر تفوقها..
إن الموضوع الذي طرحه الدكتور جميل، لوجاء بأكثر شمولية، وكنت أتمنى، وربما أنني استعجلت قبل أن تتم الحلقات القادمة، أقول تمنيت أن يعالج هذا الموضوع من التأثيرات الثقافية، والسلوكية على الشخصية العربية التي تداخلت (بأمزجة مختلفة، انعكست آثارها السلبية على جوانب عديدة من التربية، والانشطار الاجتماعي، أو الغربة الوطنية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى..
إنني أتمنى أن تكون لي فرصة أخرى لبحث عدة جوانب، قد تساهم في طرح أشكال هذه المراحل التاريخية للوطن العربي، وإن كنت اريد أن يكون للدكتور رأي قد نساهم سوية في الوصول إلى طريق يتجه إلى قناة واحدة..
ورأي آخر..
وفي «هوامش صحفية» للزميلة جريدة «الجزيرة» الأسبوع الماضي كتب «حمد القاضي» بلهجة من يريد أن تجتمع لجان “اليونسكو” ومراكز التربية في جامعات العالم!! وأعلن تحذيره الخطير لأن أحدهم استطاع ان يحصل على شهادة الدكتوراة في «الفول المدمس»!!
وحمد تدفعه سذاجته الحبيبة جدا إلى أن يأخذ الأشياء من معيار شخصي، ووطني.. أي أنه يعتقد أن مثل هذا العمل خروج تام عن أي بديهة انسانية في أن يصرف رجل ما كل جهوده في سبيل الحصول على مثل هذا المؤهل، وبمثل هذا الموضوع..
من جانب آخر إن مسألة الكتابة تخصه شخصيا وهو الذي يدرك مدى فاعليتها.. ولكن هذا الحق الشخصي لا ينطبق كلية حين يكون حمد أحد الذين منحوا حق الإسهام في المجال الثقافي.. وتلك هي النقطة التي أريد أن أعالجها في هذا الموقف..
فالشخص الذي منح ذلك المؤهل، وإن كنت لا اعرف ماهي أساسيات رسالته، إلا أن الموضوع من منظار يخالف رؤية «حمد» هو أن «الفول» من أهم المواد الغذائية في البلدان الفقيرة، ولهذا السبب فإن البحث في خصوصيات هذا النبات و «فيزيولوجيته» تعني شيئا آخر غير ما يفكر به (حمد) من أنه جرة توزع على أيدي المشترين كل صباح في دكاكين الخبازين!!
إن هذا الجهل بأصول المعالجة قد يعني حمد القاضي من جهة، ولكننا لا نستطيع أن نجبره على أن يفكر أو يعطي مما هو غير قادر عليه، لأن هذا تكوينه الذاتي، أو الثقافي..
ولكن أن يصل إلى ان يكون شريكا في الإشراف الثقافي في مجال المجلة العربية، وعلى الشؤون الثقافية بصحيفة يومية، ويساهم في مجال آخر في التلفزيون، ومندوبا في مناقشات فكرية في الوطن العربي، تلك قضية أخرى!!
فالحدود التي يتعارف عليها أن تلك المنزلة الفكرية لا تعطى كوظيفة تدخل في شروطها، اكتساب صفات شخصية أو دعائية على حساب الشرط الحقيقي، وهو الأهلية الثقافية..
وأن هذه الشعوب السوداء في الرداء الأبيض جعلت الحساسية من أي كاتب ترتبط بذهن القارئ بتلك الملهاة التي لا تلف شرعيتها إلا بوجود شيء مثير وجاد..
لقد ذكرتني هذه القضية بتلك الأسطورة للأخوين اللذين يتناوبان الموت في فترة زمنية ضيقة.. وهذا هو وجه الحقيقة.. وإن كانت «الحقيقة ماتت»!!
التاريخ: 22 – 10 – 1401 هـ
0 تعليق