شيء من تجربتي
في حائل شمال المملكة العربية السعودية، وفي حيها الشهير “لبدة” ولدت عام 1359هـ الموافق 1940م.
بدأت الدراسة في المدرسة السعودية، وتخرجت من الابتدائية بالسبعينيات الهجرية، واصلت التعليم بالمتوسطة بالرياض، ثم واتتني الفرصة للدراسة بالمعهد السعودي الذي نقلني من المتوسطة الى الثانوية لتكون أبواب الوظائف مفتوحه، وخاصة عند نقل أجهزة الوزارات من المنطقة الغربية للرياض..
قرأت مبكرا سير الكتب الشعبية المتداولة، الزير سالم، وسيرة بني هلال، ونتف من ألف ليلة وليلة، ثم كانت الطفرة الثقافية وقت الانقلابات العسكرية لتسود الرواية والكتاب السياسي والأدبي والاقتصادي، ومعها كتب التيارات الأيديولوجية الأجنبية والعربية، وانقسام الدول والشعوب التي كانت بداية التدمير الذاتي للعقل العربي ووسائل التنمية من دول انقسمت بين شرق وغرب وأكثريتها كانت لتوها خارجة من الاستعمار، وآثاره..
شيء من تجربتي
في حائل شمال المملكة العربية السعودية، وفي حيها الشهير “لبدة” ولدت عام 1359هـ الموافق 1940م.
بدأت الدراسة في المدرسة السعودية، وتخرجت من الابتدائية بالسبعينيات الهجرية، واصلت التعليم بالمتوسطة بالرياض، ثم واتتني الفرصة للدراسة بالمعهد السعودي الذي نقلني من المتوسطة الى الثانوية لتكون أبواب الوظائف مفتوحه، وخاصة عند نقل أجهزة الوزارات من المنطقة الغربية للرياض..
قرأت مبكرا سير الكتب الشعبية المتداولة، الزير سالم، وسيرة بني هلال، ونتف من ألف ليلة وليلة، ثم كانت الطفرة الثقافية وقت الانقلابات العسكرية لتسود الرواية والكتاب السياسي والأدبي والاقتصادي، ومعها كتب التيارات الأيديولوجية الأجنبية والعربية، وانقسام الدول والشعوب التي كانت بداية التدمير الذاتي للعقل العربي ووسائل التنمية من دول انقسمت بين شرق وغرب وأكثريتها كانت لتوها خارجة من الاستعمار، وآثاره..
بداية عملت في وظيفة ببريد الرياض دامت عدة سنوات لأنتقل منها إلى وظيفة أعلى في مصلحة الإحصاءات العامة التي كانت تابعة لوزارة المالية، وبمسابقة على وظائف أكثر راتباً وأعلى سلماً انتظمت بوزارة المعارف “وزارة التعليم حاليا”، التي تقاعدت منها مبكراً..
وكشاب يحلم أن يرى سطوره على صفحة جريدة ما، كتبت مقالاً بعنوان “الوقت يصنع الحياة” وبصفة عملي في البريد غامرت ووضعته في درج جريدة القصيم التي تعد وقتها صحيفة جريئة من صحف الأفراد التي كان يملكها المرحوم “عبدالله العلي الصانع” ويرأس تحريرها الأستاذ “عبدالعزيز العبدالله التويجري” ..
يوم الثلاثاء 13 رمضان من عام 1380هـ الموافق 28 فبراير 1961م فوجئت بمقالي منشورا على الصفحة الأولى بالجريدة، وكمراهق صعقته المفاجأة، كنت خرجت من المدرسة المتوسطة بإذن لأرى عدد الجريدة وماذا حل بمقالي؟
وسط شكوك من أساتذتي بين مصدق و مكذب وحتى يخرجني من حيرتي معلم أزهري قدير وضع المقال على “السبورة”، وليبعد الإحراج عني، سألني إذا كان بقدرتي كتابة كلمات الافتتاحية للحفل المعتاد للمدرسة ليلة الجمعة القادمة، لكنني اشترطت أن لا ألقيها بنفسي، خشية مواجهه جمهور الأساتذة والطلبة، فوافق..
كتبت عدة سطور حسب ما طلبه مني المدرس، فجاء رد فعله رائعاً بالنسبة لي كمبتدئ بالكتابة، وقال للطلبة إنني سأحصل على الرقم الأعلى في أي موضوع لمادة “الإنشاء” متخطيا الجميع..
هذا الرجل كان النافذة الأولى التي أضاءت طريقي للقراءة والكتابة، لأتابع النشر في عدة صحف قبل صحف المؤسسات.
لأسباب خاصة انقطعت عن الكتابة، وواصلت القراءة، وكانت مصادفة أن التقي بالعزيز الأستاذ تركي العبد الله السديري بفندق “شيراتون” القاهرة وبصحبته الصديق سلمان العصيمي، الذي لم أكن وقتها أعرفه أو أحتك بالوسط الصحفي، إلا من كانت همومه رياضية، وخاصة الكتابة أو التعليق على كرة القدم بحكم عضويتي بنادي الهلال، وأخص وقتها الأستاذ عثمان العمير.
فاتحني الأستاذ تركي بطلب العودة للكتابة، وأن الظروف تغيرت لا بمستوى نهضة الصحافة، ولا بتشديد الرقابة وملاحقة الكاتب..
منحني صفحة كاملة باسم (آفاق) أكتبها كل يوم أربعاء بجريدة الرياض وحقيقة لم أكن أعرف الصعوبات التي ستواجهني باختيار الموضوع، والقاموس اللغوي الذي يطبع شخصيتي، فكانت المعاناة بالمواضيع الثلاثة الأولى التي نشرت غير جيدة، استدعت أن يكون خياري اعتزال الكتابة نهائياً، لولا موقف الرجل الكريم تركي، وبقية الزملاء لأجد أن الموضوع فقط يحتاج تمرين الذاكرة واستعادة نشاطها، والتعود على اختيار الموضوع ومعالجته من زواياه المختلفة، فكان التحدي صعبا أمام قارئ لا يرحم، وهنا تجاوزت العقبة وموقفي الخائف.
تتالت المقالات، وحظيت بما لم أكن أتوقعه من القارئ، ولم تقتصر الكتابة على الصفحة الخاصة بي، بل تعدتها إلى مقالات أخرى في صفحة “حروف وأفكار”، وأخرى بدون توقيع تبعاً لسياسة الجريدة، بما فيها الإصدار الأسبوعي الذي كان على شكل مجلة، أو ملحق خاص بمواضيع مختلفة عن النشرات اليومية ..
باتفاق مع الراحل نائب رئيس التحرير المغفور له الأستاذ محمد أبا حسين، اتفقنا على إنشاء زاوية ساخرة باسم “غرابيل” يساهم فيها معظم كتاب الجريدة ممن يجدون لقطة “كاريكاتورية” من صميم البيئة، وقد نجحت ولقيت صدى كبيراٌ لطرافتها وتنوع مواضيعها..
وبحكم نشاطي الرياضي الذي ودعته بمجرد الانخراط بالعمل الصحفي، كان الإخوة في القسم الرياضي يبحثون عن إنشاء زاوية تكون مثيرة وناقدة لا تتخطى أطراف النشر وإنما تعبر عن الرأي العام الرياضي، فاقترحت زاوية باسم “عواكيس” وبتوقيع “معوكس” على أن لا يكون لي أي مساهمه أو رأي بما يكتب بها، وبالفعل دخلت معترك عش الدبابير في محيط ليس لدية أنصاف الحلول أمام أي لوم أو نقد يتعرض له ناديه، وقد شاع أنني مهندسها وكاتبها والمروج لها، والحقيقة العكس، أن من بدأوا باختيار القفشات والمواضيع كانوا كتاب القسم الرياضي، وسرعان ما أصبحت الرسائل التي تصل إليهم تفوق بريد الجريدة كلة، وهنا غذى القارئ الخارجي هذه الزاوية بمواد أكثر سخرية، فصارت منتدى يساهم فيه من كان خارج الجريدة أكثر من المشرفين عليها ..
كانت المرحلة التي يمر بها الوطن العربي حساسة ومعقدة جداً وكان من يكتب بالمواضيع الساخنة كمن يركض خلف مجهول قد يؤثر على حياته ومستقبلة..
في هذه المعمعة، تفرغت كليا للعمل بالجريدة برغبة خاصة من الأستاذ تركي، على أن لا يقتصر عملي على الكتابة، بل المساهمة في الندوات والحوارات وحتى الدعوات الداخلية والخارجية مما ضاعف المهمة علي بمضاعفة المسئوليات، وضرورة جعل الوقت مسخرا لهذا العمل..
في مصادفة أخرى، انتقل الصديق فوزان الصالح الدبيبي للرياض وهو مؤسس ومساهم في صحافة الأفراد، وكان شجاعاً في مواقفه مما استدعى في الكثير من المواقف منعه من الكتابة، وكان مثل جيله قارئًا غير محدد الثقافة، ولكنه عروبي تعيش معه هموم عروبته في حياته كلها..
عرَّفته على الأستاذ تركي ليكون كاتباً في الجريدة، ضمن غيره، لم يتردد، وبالفعل صار واحداً من تلك الأسرة الكبيرة، لكن ما يميزه ليس ثقافته الكبيرة وإنما ظرافته وخفة دمه، مما جعله نجماً يوده كل زملائه وغيرهم..
ظل رأيه السياسي يتفوق على بقية معارفة لأن الهم العام، سياسياً بالدرجة الأولى لتشابك القضايا وسخونة المواقف العربية. ولأن الجريدة لم يكن لها رأي يمثلها في هذه المعمعة، فقد اتفقت أنا والمرحوم فوزان مفاتحة الأستاذ تركي، بأن يستبدل عمود صغير في الصفحة الأولى كان يكتبه أخ لبناني، وكان في الأصل مترجمًا للصحف العالمية، لتكون افتتاحية خاصة بالجريدة تمثل رأيها وتلتقي مع هم ورأي الدولة..
وافق على المقترح عن أن نتناوب فوزان وأنا على كتابة “كلمة الرياض” بالتناوب يومياً، وبدون اسم الكاتب، وبالفعل، وهنا صارت المواضيع تأخذ حجماً أكبر، وأكثر أهمية، ومسئولية شخصية وعامه..
لأهميتها صارت تذاع من الراديو، والتلفزيونات، ولاحقاً في محطات الفضاء، وتنال تعليقات من مراقبي الأحداث ونقلها لتأخذ بعداً مختلفاً عن الماضي مجسدة روح الرأي ودوره الصادر من المملكة..
لظروف صحية معقدة، توفى زميل المسئولية فوزان ومن قاسمني المهمات الصعبة، وهنا وقع الاختيار علي لأكون وحدي من يكتب هذه الكلمة يوميا وبدون انقطاع أي تفرغاً كاملاً من أي نشاط آخر، إلا مداولات محطات التلفزيون أو اللقاءات التي ترتبط بالجريدة كنشاط آخر. وبصدق تام لم تكن المسألة سهلة، خاصة أن هناك من فهمها على أنها مقالة الدولة تملى من مراكز صنع القرار حتى إن اهتمام السفارات بالمملكة بترجمتها وبعثها، وكذلك إذاعتها من محطات عربية ودولية جعلها في الواجهة، مما ضاعف مسئولياتي، وضرورة ان أكون دقيقاً ومحايداً في كل ما أكتب وأن أترك العواطف خارج سياق تلك المواضيع، وظلت المراقبة الذاتية الهم الأكبر، بالرغم من أن الدولة لم تمل في يوم ما أي موضوع أو فكرة على اعتبار أن الجريدة وحدها صاحبة الحق في الرأي والموضوع..
نلت ثناء ربما لا أستحقه، ولكنة تقدير أنا رهينة له سواء من كان معي على خلاف حاد، او توافق بالآراء أو بعضها، ونتيجة شيوع تلك الافتتاحيات صادف أن الجمعية العمومية بمؤسسة اليمامة الصحفية منعقدة، وقد نالت ثقة وثناء من الحضور كان امراً لازلت اعتبره ديناً علي لكل من عرفته صحفيا وكاتباً او عضو في المؤسسة الرائعة..
بعد اختتام تلك الجلسة، كلمني الأستاذ تركي، وفاجأني بسؤال، لماذا لا يكتب اسمك ككاتب للافتتاحية؟
قلت ان التقاليد العامة لمعظم الصحف عربية او خارجية، البعض منها يكتب اسم الكاتب، وبعضها تجتمع لجنة تختار الموضوع حسب طرحه وأهميته، ويكتبها أحد الأعضاء بدون توقيع..
قال: كحق طبيعي لا يشاركك أحد بالكتابة أن يسجل اسمك عليها، وقد اختار التوقيت ونشر الخبر، ليصبح للبعض مفاجأة، والآخرون ممن يعلمون في هذا الأمر يباركون، أو ليستغربوا من صاحب هذا الرأي الغامض لسنوات عديدة..
هذه مجرد سطور أفتتح بها جهد إنسان خاض معتركًا لم يخطط له وإنما ساقته الصدف إليه بعضها يحكمها رأيه الشخصي بزمنه وظروفه وتداعياته مثل الكثير من المقالات التي لها طابع شخصي، وأخرى وأعني بها (كلمة الرياض) فهي بنت لحظتها أي الحكم للظروف التي تكتب بها، وهنا كان العديد من الأحباب والأصدقاء يرون أن أختار بعض مواضيعها، وأنشره بأي وسيلة، لكنني عارضتهم، بأنها سجل يومي لتاريخ سياسي واجتماعي، تختلط فيه المتناقضات، فأنت مع هوى ورأي الزعيم العربي اليوم، وغدًا العكس، تبدأ الخلافات والحروب الإعلامية والنفسية، وبالتالي لابد أن يكون نشرها كلية للأمانة التاريخية وكل ما كان يرافقها من خلافات أو عداوات أو آراء موحده تجمعها لحظات الحاجة بكل تداعيتها وتناقضاتها ..
أكتب هذه السطور كصاحب تجربة فيها الكثير جدا من السعادة والمعاناة والأسف، وأيضا المسؤولية الأخلاقية والأمانة بما كتبت وهو ما أراه جزءًا من عمل جئته هاوياً فأصبحت محترفاً، وقلما تولد بشخصية تتزاحم فيها الآمال والعواطف والغضب والتي تشكل مسار حياتك ظروف تصادفها وتملي عليك فرض سلوكها، وهي وظيفة الإنسان التي تجعله عضواً في أسرة صغيرة وكبيرة، يتلاقى مع مصير ربما لم يخطط له، او يضعه في حساباته، لأن المصادفات وحدها حددت ما يريد، وبإرادة تتنازعها عوامل النجاح أو السقوط..
أعتذر من كل قارئ قد تصادفه حروفي وما كتب، ولكنني في النهاية قدمت شيئاً، أراني مسئولاً عنه، ومصادقة الآخرين بالحكم عليه، هو النتيجة التي لن تغضبني حيا او ميتا..