.. «اطحن طحين أمي، وخلي طحيني!!
يخف خطواته، وهو يدخل عليها، بقايا علب الخشب آخر ذكريات سعادتها مع جده..
الحمراء «للدخون»، والصفراء لعلك «المستكي»، والثالثة كانت خزانة الذهب والفضة..
سألها..
- «جدتي ضاع سمعك، ولكن هل تدرين أن (المرقوق جاء بقواطي) بالبقالة؟!
سمعها الثقيل يجعلها تهز رأسها. ولا تدري ما يقول.. تنسى وجوده معها.. تطوف بها ذكريات ما قبل السبعين عاماً.
الخيال الذي ينصب في وسط الزرع لطرد العصافير، والمقلاع الذي يحشوه زوجها بالحصي الصغيرة ليقذف به العصافير النهمة.. والرحى التي تتناوبها يداها تطحن ركام القمح.. تردد «اطحن طحين أمي وخلي طحيني!!
يمسك بطرف يدها المحناه.. العينان اللتان اختفي سوادهما بزرقة ملحوظة، وتجاعيد السنين، وانكماش جثتها..
يعيد روايتها عليها.. تصمت، تخفي جديلتها البيضاء.. تنصت لكلماته للمرة الثالثة.. تفهم ما يقول.. تتلمس كتف بحنان ترد.. - «يا ولدي زمانكم باض فيه الديك ذهب!! أنا حدودي هذا المصلى.. لكن إذا جاء من يقول أن (العجاح) يباع عند أهل التجارة فلا تكذب»!؟
- «وهل تذكرين «المطوع» صالح و «المسطعة والشتاء البارد وخلخال الضحلة المربوط برقبتها؟!
تدرك أن اليوم الخميس عطلة حفيدها الأكبر.. ومؤتمر الخميس الصغير على (الدلة) والتمر والذكريات تجري كل أسبوع بينهما.. الخيط الذي يربط بينهما ليس العصر، ولكن الجدة الكبيرة هي باقي الإرث الذي لا يقبل التوزيع، لأنها ستحمل جثتها الى المقبرة وحدها دون خلاف على تركة، أو أرض على ثلاثة شوارع قالت.. - (إن عليك ديناً لذلك المعلم الصالح.. تصدق.. أذبح أضحية له.. اسأل فيما إذا هناك بقية من أولاده يحتاج الى إعانتك.. لقد تخلت عني كل مصادر القوة، وبيني وبين معرفة الآخرين قضية طويلة، وأنت باقي أعمدة الأسرة التي تفهم ما يربطنا بالآخرين..
تنحدر دمعتها، ولأنه تعود على رؤية عاطفتها وعذاب تقاعد السنين على هذا الفراش الصغير، فإنه لم يرد إعادة تكثيف هذا العذاب الصامت..
• • •
ينسحب إلى داخل غرفته.. الخمسين عاماً التي تجاوزها لم تغير فيه شيئاً، ولم تحد من قوته أو وسامته.. تساءل في نفسه كيف يحل رموز هذه العجوز الصابرة.. إلى أي حد ستبقى على هذا الإيمان، والمعاملة الصارمة لنفسها؟!
يسحب الجريدة يقرأ.. «قالت الوكالة الهندية أن شيخاً عربياً ضبط متلبساً بزواج من القاصرات، وأن شيخوخته المسنة التي تربو على السبعين لم تمنعه من إعادة هذا الأمر لأكثر من مرة، وأن السلطات الهندية راقبت تصرفاته، وأودعته السجن، رهناً للتحقيق معه ومع الأطراف الأخرى التي أجازت هذا الزواج»!!
• • •
يفتح صفحة أخرى في مجلة عربية يقرأ إعلاناً مصوراً عليه شخصية خليجية واقفة أمام صقر، ودله.. الإعلان مزين بالصور الملونة يقول:
(يوجد من مصنوعات أوروبا حمام بمليون ريال.. «الدش»، والمقابض وعلاقات الملابس من الذهب.. مجهز بـ «ستريو»، وبخاخات للعطر، وكراسيه هزازة، إلى جانب مميز آخر هو تقنية المقاعد المتحركة)!!
ينتقل لصفحة أخرى.. (سفرة أكل من الشامواه، وغرفة نوم من جلد الغزال، السعر الإجمالي مع التخفيضات الموسمية فقط «۲6۰» ألف ريال.. زوروا معرضنا في الشارع المقابل للشارع.. رقم الهاتف (….) ص. ب (…..).
• • •
قال صديقه بالعمل..
(لقد شاهدته يدهن سيارته «بالنيفيا» وصدقني إنها أمريكية، وهو يعمل بالأجر الشهري، وقيمتها ما فوق الخمسين ألف ريال)!!
• • •
يعود لجدته يسألها.. - (جدتي.. هل صحيح أن رأس «الزنبور» الذي يوضع تحت نواقيط القرب يتحول إلى خرزة)؟!
تضحك الجدة.. تهم بالرد، لكن السعال يغالبها … تنكمش جثتها الصغيرة يناولها زجاجة الدواء..
تهدأ - (أليست هذه هي الوحيدة من خرافاتنا.. أنا الوحيدة التي لم أصدق بهذه الخزعبلات، ولكن هل نسيت كيف كانوا يصبون الرصاص على رأس المريض، لتتشكل صورة العفريت الذي يسكن عقله.. وهلا تتذكر تلك السدرة الكبيرة في بيتنا التي كانت تأوي إليها جيوش من «الحرابي» التي تتشكل ألوانها عند أي حركة، وكيف كان جدك يحذر من الاقتراب منها خشية من سطوتها، لأن الجن وحدهم القادرون على التصور، والتشكل..
وأنت يا ابني أنظر، إلى هذه الشامة الصغيرة في كتفك.. أمك الله يرحمها توحمت بحب الفلفل الأسود، وزرعت هذه الشامة لك)!!
• • •
مسكينة جدته التي يواجه بها سلواه كل خميس.. هي لم تدرك ما يدور حولها، ولذلك تعيش حالة انفصام مع عصرها، ولكنها لم تنشق عن إيمانها..
• • •
ابنه الصغير يصرخ.. يمزق دفاتره.. يتمتم بكلمات عنيفة.. قال لأبيه … - (الثانوية لم تعد مكاناً لي بأي طريق كان.. أريد أن أنتقل منها، أو أسافر للخارج للدراسة أو أعود معك أشتغل في البقالة)!!
يهدى ابنه.. يسأل. - (وهل سقطت للمرة الثانية)؟!
- (نعم.. ولكن ليس العيب أن أسقط، ولكن صدقني أن الأمر تجاوز حدود النجاح والسقوط.. تصور يا أبي أن زميلي يهدي قطع أراض يضع لها أسعاراً أدنى من أسعار السنين العشر الماضية، يوزعها بالمدرسة بطريقة جعلته ينجح بتفوق)!!
- (ولكنك تدافع عن نفسك بطريقة اتهام الآخرين.. وهذه دعوى باطلة لأن قضية النجاح لم تكن محجوزة برقم وشهادة لشخص لا يستحق؟!
- (وما تقول في أن كل المسئولين بالتعليم أولادهم بالمدارس الخاصة، ليبتعدوا عن إحراج أنفسهم في رقابة المدارس)؟!
- (وهذه كذبة أخرى تدونها لتبرير سقوطك، ورغبتك بالانتقال إلى مدرسة خاصة)؟!
• • •
الأب تخنقه المفاجأة.. المدرسة دخلت في حيز التصنيف التجاري!! الأم تعاود أساليب التدخل لتهدئة الضدين المتنافرين..
في العشرين، ولم يتجاوز الثانية الثانوية.. ترد.. - (ابحث عن طريقة أخرى تنطوي على حل أخر حتى لا يصاب بصدمة من المدرسة!!
- (ولكن ما يقوله كلام خطير، أكبر من حجمه)؟!
- (وهل أنت ضابط سوابق للقبض على الآخرين بتهم غير واضحة)؟!
- (الدعوى ليست كما تتصورين، لقد راقبت سلوكه، وليس عليه أي ملاحظة، وسألت في المدرسة عن حالته الطبيعية وعلاقاته مع زملائه، وسبب تردي مستواه أثناء الامتحان فقط، في حين أن علاماته السنوية مقبولة تؤهله للنجاح.. لم أجد الجواب الصحيح)!!
- (إذن المسألة حالة خاصة بابنك.. ولذلك أبحث عن البديل)!!
• • •
«الوكاد أن ولدك مولود بالصفرة، ولاسمي عليه أحد» !! قال ذلك جاره …
يسأل هذا الجار الساخر. - (وتظن أن مواليد هذا البرج أغبياء، ولا ينجحون)؟!
- (لا.. دور لك مطوع يقرأه.. والظاهر أنك نسيت دواك الأول.. لكن كيف تنسى ومرارة التيس هي اللي عالجت صفار عيونك)!
• • •
جاره كجدته.. نفس الملامح والتفكير.. لكن تصوره للأشياء يمزجه بعقيدة الخرافة..
حكى له مرة عن البنت التي طارت على طرف عسيب نخل، وأنقذها ساحر، وجدها على شكل أرنب.. فك سحرها، وأعادها إلى أهلها.
• • •
التصفير بدار (الأزرق) ينزع البركة.. والتزمير بالصفرة يحرك جن (الأتل)..
هذا الجار هو الوحيد الذي يجده على طبيعته.. الأمور كلها مسلمات لا تقبل الجدل ولذلك كانت حكاياته وجبة الصداقة الطويلة التي لم تتغير..
صدق مرة أن داء الكلب لا يعالج إلا بدم من أحد رجال قبيلة «الهمزان» ولكن جار له أكثر عناداً منه.. استفتاه فيما إذا كانت علب الحليب التي تعطي للأولاد تجعل أمهم بقرة، ولا يصح تزاوجهم من بعض، لأنهم أولاد رضاعة.
من يومها صارت الماعز، وبقرة جلبها من القصيم هي الغذاء الوحيد لصغاره حين يجف لبن الأم..
• • •
فض الخطاب المختوم (بمستعجل وهام للغاية)!!
سيدي …
لقد تركت الوظيفة بعد خدمة الثلاثين عاماً.. لا أعرف ماذا ستتخذه الإدارة من قرار، لأنني أعتقد أنني استوفيت نصيبي من الخدمة، وبقيت في سنواتي الأخيرة بلا عمل.
سكنت شقة على البحر.. أولادي كما تفهم، خرجوا من دار رعايتي إلى اكتمال رجولتهم، وأخذ مسئولياتهم.. البنت الوحيدة تزوجت قبل سفري بأشهر..
قد تقول لماذا لم أشعرك بقرار هجرتي.. أنني أفهم أنك مرتبط بنوازع، وأفكار تبقيك كأحكام التقاليد على خلق الله.. أنا وجدت حياتي من جديد.. تراكم تلك الأحمال سقطت لمجرد أن عشت عزلتي الجديدة..
صباحاً أخرج من شقتي الصغيرة.. وعلى كراسي المقهى العامر بالمتقاعدين والشباب الضائعين، والعاملين ممن جاءوا يقضون ساعة إجازة وسط النهار، وجدت بهم عالماً رائعاً، ومناقضاً لكل ما كنت أراه عندكم..
بعد الظهر أتناول غدائي، وأهجع ساعة، ومن ثم أقرا إلى ما بعد العصر، وأعاود الكرة في المشي على البحر..
شاهدت هذا اليوم مسرحية أجنبية تحكي عهد (الرايخ).. هتلر ووضعه الكاتب والمخرج في مصاف الأبطال.. قيل إنها نفس جديد لبروز النازية في أوروبا، ولكن الضجة التي أثيرت ماتت في وقتها..
ألم أقل أن سوسة السياسة تأكل في عظامنا!! إنني أدرك أنك تستغرب أن يكون الخطاب موضوعاً بطريقة (المستعجل الهام) والمفاجأة ليست بأحداث المسرحية كما تستغرب، ولكنني فوجئت بقرار بطي قيدي لغيابي، وحرماني من رواتب إجازاتي الماضية.. تكرم واسال عن السبب، وإذا كانت هناك أي عوارض ولو غير قانونية فاترك الموضوع حتى لا تعكر هدوءي بمداخلات مشاكل الوظيفة..
أحر تحياتي
«……….»
• • •
قال، وهو يطوي الرسالة لقد أسقط قانون العلاقة، ورغم أنني أعتقد أن رحلته ستكون مؤقتة وحنانه لهذه الأرض سيجبره على العودة. إلا أنه فوجئ بمكالمة خارجية تقول: - (بيت محمد)؟!
- (نعم)
- (لقد مات صديقك في الغربة.. ووجدت دائرة الشرطة وصية منه تقول إنك القائم على أملاكه، وأن المكتبة الكبيرة قد تبرع بها لدار خيرية بهذا البلد.. هل تتكرمون بإرسال (بوليصات) شحن الكتب لتتسلمها مندوبة الدار، ولتسدد الحساب لإدارة النقل بطرفكم)؟!
• • •
الكتاب، والأموال والغربة.. والموت..
صفق بالباب الخارجي لفلته حاملاً شنطة صغيرة بها ملابس السفر ليحضر جنازة الصديق الغريب!!
• • •
في محنة الصحافة..
العامل بالصحافة (كطباخ العروس) نسي التذوق والرائحة، وبقي يمارس مهنته يحسد الآخرين كيف يأكلون هذا الطبخ!!
الصحافة تسحب كل مشاريعك الخاصة، تجفف كل يوم عرقك، وتضع قراراً جاداً بالانسحاب من حقل ألغامها، ولكنك تجد أن عقوبة الفراغ بالخارج ستسحقك هي الأخرى..
أصدقاء كثيرون قالوا إننا أفرغنا تماماً من أن نكون كتاباً، ولا صحافيين.. تلك الشكوى مبنية على حقيقة أن الكاتب يجب أن يبقى كما هو، وإلا أخلف القاعدة التي حجزت له كرسياً في هذا المركز..
المجتمع والكتاب أصحاب العلاقة الدائمة للكاتب، وهذه محرقة على من يريد إحراق يومه بين الأخبار، ووكالات الأنباء، وملاحقة الصحافة الوافدة الى الجريدة.
لقد أدار كثير من الناس ظهورهم إلى الوظائف التي لا تعطي شيئاً يذكر من الطموح، ولكن بقي الصحافيون هم أصحاب الثبات على هذه الوظيفة الخطيرة..
إنني لا أستطيع أن أعلن انسحابي الكلى من الصحافة ولكنني لا أجد الرغبة في الاستمرار، وتلك قضية ليست شخصية ولكنها حقيقة أن يبقي الإنسان أسير ما يعتقد أنه الصحيح، والواجب..
لقد شاهدت الكثيرين ممن يجاملونك، ويضعون لك الصفات الحسنة، وآخرون ناقمون لأنك لا تعجل، أو تضع رغبات يطالبون بها.. وأنت قد تشعر بالكبرياء، والروعة أن تكون على هذين الخطين المتجاوبين في السلب والإيجاب، ولكنك حين تتحقق من فراغ كل ذلك، وأنك تصور الأشياء بغير احتمالاتها تشعر أنك المخطئ الوحيد مع نفسه ومع الآخرين وتلك هي تجربة الصحافة موت بطيء على طريقة زهاد السيخ
أرجو أن أستطيع اتخاذ قرار يصحح هذا الواقع الذي لا أريده..
صحيفة الرياض / 12-2-1402هـ
0 تعليق