في حمى تفريغ أذهاننا من كل معنى يتصل بماضينا، وركضنا على مسافة أطول من خطواتنا يخرج الأستاذ «عبد الكريم الجهيمان»» بحياء ليطعم أطفالنا شيئاً من وجبات الماضي بكل معاناتها ومرارتها..
ولأن هذا الأستاذ عاش معلماً، وأباً، فإنه يبحث عن رابط جميل لا يضيع هوية هذا المواطن بسحبه من ماضيه في غفلة التصاعد السريع لكل شيء.. حتى أصبح المنزل مستودعاً لمصانع العالم الحديثة كلها.
مسألة التزامن ليست عقدة، ولم تكن الصلة الرحمية بين الماضي والحاضر، انقلاب في المعايير والقيم.. ولو كان هذا هدفاً أو غاية لما كان «ديجول» رجلاً يخلي فرنسا من جيوشها ليدخلها الألمان، ولكن كانت غاية ذلك الزعيم هو أن تظل لفرنسا تلك المآثر والتاريخ في الفن والمعمار والتقاليد التي هي شاهد عصورها المليئة بالمفاجآت والابتكارات..
لقد خرج الجهيمان – وكعادته – بدون ضجيج ليهدينا عشرين قصة للأطفال.. هذا العمل مر على عيوننا، أو عيون أطفالنا منذ عام ۱۳۹۹هـ تاريخ الطبقة الأولى لهذه الأعمال، وإلى يومنا هذا، إلا من خبر على طرف أحد أعمدة صحفنا لتقول بهذا الخبر الموجز.
سألته مرة فيما إذا كان يؤلمه هذا الجحود والتنكر، وكيف لا يكون ذلك مبرراً لأن يترك هذه المتاعب، خاصة وأنه يعاني ظروف الشيخوخة، ومسئوليات الحياة المعاصرة المعقدة.. ولكنه ببساطته التي لم يصطنعها قال: «إنني حين شرعت بهذا العمل البسيط لم أضع بحسابي أن أطوع الناس على شكري.. ولا أعتقد أنني أنتظر ذلك لقناعتي أن هذا واجب أرد به بعض الدين لهذا الوطن»..
إذا كان هذا الكلام يصدر من عفوية القروي البسيط، فإننا لا ننسى أننا لا نعلل تقصيرنا، أمامه وأمام شخصيات رائدة في بلدنا، إلا بالغفلة المفتعلة، أو التناسي المقصود، وذلك هو العصر الذي لم ينصف الكثيرين ممن يعيشون مرض الثقافة والفكر..
لست أدرى إن كان ما يجعلني أرى في قصص الأستاذ الجهيمان أول محاولة من نوعها في ربط أساطيرنا الشعبية لتأخذ مداراً كونياً في عالم الطفل.. وإن كان هذا يدعونا إلى افتراضات أن الأسطورة -كما يقول بذلك كل دارسي التراث الشعبي- يجب أن تظل على شكلها ومضمونها مهما تعاقب الزمن، وأن محاولة تطويعها لفرضية العصر لا يحميها من التشويه، أو حتى مراعاة التقاليد التي لم تكن الأساطير تجدها قيداً أبدياً على هذا المصدر المجهول الشخصية التي أبدعته..
لنترك هذا لموضوع أخر ولكن المشكل في أدب الطفل من المسائل المعقدة جداً، وهي مجال بحث أكاديمي طويل.. ولكن الأستاذ الجهيمان تميز بأن يجعل لغته وأسلوبه ينجحان في جذب حساسية الطفل للقراءة، لا لأنه وضع ابتكاراً جديداً في اللغة، ولكنه تغلب على عقدة طبيعة الكاتب صاحب الخط المعين في الأسلوب والفكر ليصل إلى ما يسمى باللغة الثالثة التي هي أقرب للنطق منها إلى الكتابة الثقافية.
في القصص العشر الأولى تتنازع شخصيات أبطالها الحيوانات والإنسان وعالم الجن، لمحاولة جعل هذه المحاور تفترض أن الحياة لا تخرج عن الخير، وأن هذا البناء الإنساني مفطور، وصفة ملازمة للحياة..
فملوك الجن، والوحوش، والطيور الجارحة تأخذ بالمعنى المتسامي للبطولة، أي أن العدل حقيقة تبقى ضرورية لخلق توازن بين الأقوياء والضعفاء، وهو نوع من الافتراض أن الطفل يجعل رموز أبطاله عوالم خارقة، وإذا كانت تخيفه فإنها تملأ عليه فراغاته في التعامل مع الحياة بدون قانون خاص.. أو أن المتغيرات السريعة هي التي تستهويه لأن المفاجأة بالانتصار، ولو لم يكن يتعامل مع القاعدة الإنسانية الطبيعية، فإنه يميل إلى هذا السلوك، ولذلك كان الجهيمان يجسد هذا الفعل القوي بشخصيات مسيطرة وقوية..
وطريق أخر لجأ إليه الاستاذ عبد الكريم، وهو أن يجعل من بعض الضعف قدرة على الابتكار كسلوك طبيعي للدفاع عن النفس، وهو سلاح الحيلة، والذي اتضح أكثر بشخصية الثعلب كرمز للمكر والخديعة، كذلك تجد أن الغراب والبوم، وهما يوصفان بالشؤم فإنهما عناصر تفاؤل مشحونة بصفات قريبة إلى حقائقها كحيوانات بريئة من هذه الصفات التقليدية…
يبقى شيء مهم في الموضوع، وهو أن، الأستاذ اقتبس من كليلة ودمنة بعض القصص، وهو الأمر الذي درج عليه قصاصون قبله، ومعنى ذلك أن هناك ازدواجية في العمل أبرئ الأستاذ من تعمدها للربح أو الشهرة، وإن كان من يعترف أن التراث الانساني ملك طبيعي لكل أجيال العالم، ولكن طالما أن الجهيمان يملك الابتكار والخلق، وبالتالي تملك الأسلوب الذي يقدر على هذا العطاء، فان اللجوء إلى حالة كهذه تضعف المجهود الجيد الذي بذله في القصص الأخرى..
هناك بعض الأعراض التي لا تغير من قيمة هذا العمل، ولكنها أيضاً قابلة للتعديل في المستقبل.. أو في طبعات قادمة..
ففي استخدامه للنهر والطاووس، والبط وهي خارج جغرافية الجزيرة العربية قد يكون الهدف من وضعها أن هذه القصص تخاطب الطفل العربي بعموم جغرافية الوطن العربي، وهو ما جعل الأستاذ في قصته «الطاووس وابن آدم» يلجأ إلى الحوار بين الشبل والحمار، ليقول الأخير: «إنني لا أخشى من القتل لأن لحمي حرام عليه ولكن عنده شيء يسميه البرذعة فيجعلها على ظهري وشيء يسميه الحزام فيشده على بطني.. وشيء يسميه الثغر فيجعله تحت ذنبي.. وشيء يسميه اللجام فيجعله في فمي.. ويعمل منخاساً ينخسني به إذا تباطأت»!! وهو أن الحمار قد يكون بعيداً على كثير من البيئات العربية، ولكنه أراد -كما قلت- استغلال هذه الجغرافية في خلق نسق واحد يستطيع جعلها تجربة عربية للحياة..
هناك بعض الثغرات وهو أن مجمل الرسوم لا تطابق شخوص القصص، وخاصة ما يتصل منها في الأسطورة الشعبية هنا..
فالمظاهر عربية ولكنها لا تمثل الشكل الحقيقي، حتى أنك تجد في بعض تلك الرسوم أن (الجمل) بعيد جداً عن الصورة التي يشاهده عليها بالواقع المعاش طفل الجزيرة العربية، وكذلك الثوب الذي يتوسطه الحزام، وهو ما لم يكن في تقاليد لبس الثوب، أو العقال الذي يعلو فوق الرأس ولكنه على الشعر، وبدون غترة أو عقال، وأشياء أخرى هو تجسيد الصورة التاريخية التي ابتكرتها السينما العربية، ودرجنا على أخذها مسلمة في حين أن التاريخ العربي يظهر لنا الشكل العربي، وخاصة في ملبسه وسلوكه عكس ذلك التصوير الذي أخرجه لجوجا يزعق في مناسبة أو بدونها ..
ومع أنني أجزم أن الأستاذ الجهيمان لم يتوصل إلى إقناع أحد الرسامين في المملكة ليستطيع عكس الشكل الحقيقي لهذه البيئة التي ولدت فيها القصص المذكورة، فإنه مطالب بتحقيقها لتكامل العملية الفنية بكامل أهدافها..
كلمة أخيرة على هامش الموضوع، وهو أن الذين يهتمون بتراثنا الشعبي قلة نادرة، وهم مجال إهمال كامل من الجامعات التي تريد أن تؤسس دراسات لهذا التراث، ولأن (الروتين) طبع أسلوب هذه الجامعات بأن المؤهل لجعل هذه الدراسات تصل إلى مستواها العلمي، لا تكون إلا بمؤهل قادر على إتباع النهج الأكاديمي، أقول إن هؤلاء يمكن تحقيق مكاسب كبيرة من وجودهم في صفوف الجامعة بأية كلية تفترضها الإدارة، لأننا ندرك أن تحقيق هذا التراث أصبح يشكل صعوبة كبيرة أمام سرعة طمس معالمه.. وأن هؤلاء الذين عايشوا طرفاً من تلك الحياة، قادرون على وضع
تجربتهم وأسلوبهم أمام أي طالب.. وهذا أمر نعيشه الآن باختفاء عشرات الحرف، واختفاء لغتها معها، وهو ما يهدد بانقراض كثير من هذا التراث.
• • •
مقاول من الباطن!!
لم يهتم أن يكون له ساعة للزمان، لأن ارتباطه بالحياة لم يكن في يوم ما منظماً.. ولم يخط بأمتار قليلة في المكان ليصبح واحداً ممن تضلهم هذه الضيافة الكبيرة على الأرض!!
يعجبه سماع النشرة الجوية لأنها الأصلح من كل نشرات الأخبار فهي تتكهن وبطبيعة الحال لا تكون بجانب الصدق، طالما أن الميدان يفترض وجود المتصارعين على الطبيعة وحياتها، ويقيسون ذلك وفق طقوس الزمان والمكان..
(مثلث) المصادفات جعله رأساً له، ولأنه كائن طبيعي استطاع الوقوف على عظام قدميه، فإنه اختزن تجاربه، ولكنه حافظ على وضوح الرؤية وتفسير الأشياء بقيمها العقلية، لا بتقاليدها الاجتماعية..
كان – مثلاً- يحفظ تلك المخاوف التي زرعت في أزقة قريته، وقد طارد الأشباح في منامه، وحتى صغار القطط والعصافير حين يمزقها، فإنه يرى فيها تجاوزاً لتلك الصور الرهيبة التي تنتقم منه في المنام.. حين كان صغيراً..
فالظفر الطويل الذي كان يشكل واحداً من تلك الرموز العنيدة التي لم تقبل بها ذاكرته.. ولو كان – كما تقول جدته- أنه سكاكين «إبليس»، فإنه بحقيقته غير تلك الصفة وكيف يقبل بهذا التعليل، وهو الذي شاهد رساماً هندياً على قارعة الطريق في تلك القارة الكبيرة يقف الناس عنده طوابير بين من يريد أن يرسم له صورة بذلك الأظفر الطويل، أو من دفعه الفضول لمشاهدة هذا الفنان العجيب الذي جعل الأظفر ريشة فنان قادر على تحوير الأشياء أو نقلها مباشرة للمشاهد؟!
• • •
تجمهر أصدقاؤه حوله، وهو يحرق آخر صورة لشهادته الجامعية.. قال أحدهم: «إنها إحدى النوبات العصبية، وسوف يعود عن هذا الجنون بمجرد أن يشعر بحاجة إلى هذه الشهادة، وسيكون أول المتقاطرين على الجامعة يحمل إعلاناً مقروناً بخطاب طلب «بدل فاقد»..
استل من أعماقه تلك الابتسامة اللامبالية رد بجفاء..
- «هذا البدل الذي تنشدون يذكرني بجدول الرواتب.. بدل ميدان.. بدل خطر بدل.. إلخ.. أنتم محتاجون إلى بدل «صخنة»، وبدل شراشف، ولحف»!!
المسألة غير ما يضحككم الآن.. إن معظم الذين يصلون إلى معرفة أن الثقافة هي وسيلة فهم العالم، جعل هؤلاء أتعس المخلوقات في المغامرة واقتحام الحياة بدون شروط مسبقة، أو خلق محاذير وتبريرات..
أنتم جعلتم أنفسكم في معتقل افترضته إرادتكم الضعيفة لكم.. أطعموا الفقراء شعراً، ونثراً، وأغزلوا من جدائل الثريا بساطاً ينام عليه الأطفال الجائعون.. كل ما تقولونه يأتي بعد أن أشبع!! وحتى تصدقون هذه المقولة فإن المكتبات، وصور الزينة لكبار الفنانين، والمتوسطين منهم، وحتى أشرطة الأغاني، لا توجد إلا في بيوت الأغنياء، أو الميسورين.. الكذبة الكبيرة التي أقنعنا بها أنفسنا أننا المخلوقات العظيمة، ونحن مجرد طواويس تعجبنا خيالاتنا ونحتفل بها معاً كل مرة نلتقي على هذا الطريق..
• • •
نسيي ذلك الصديق القديم كل هذه المعارف، والذكريات، ولكنه لم ينس أن ينط على سيارته «القلاب» ليفرغ شحنة من التراب.. ويقول إنه يملك أسطولاً من السيارات، لمجرد أن نسيي عروض الخليل، ودخل في عروض الشركات العاملة.. وأنه الآن يحمل شهادة مقاول من الباطن!!
صحيفة الرياض / 22-1- 1402هـ
0 تعليق