وسط عاصفة التهجين والتدجين، وإفراغنا من شخصيتنا، وأعني بالأساس شخصيتنا اللغوية بكل ما تحمل من موروث حضاري وعقائدي تضع إنسان المنطقة العربية كوحدة مميزة لها خصائص يعيشها كأي فرد في أمة قادرة على الحفاظ على كيانها ووجودها..
وحين أعني باللغة، لا أقصد فيها مشتقاتها، وتصاريفها، ولكن ما صار رابطاً تاريخياً وحد تلك الكيانات والقبائل في حظيرة انسانية، استطاعت أن تجعل من تلك الرموز، والإشارات قوة في القانون، والإدارة، والتشريع..
لننسى تلك الصفات الكثيرة التي عاشها جنس عربي يلتحم بهذه اللغة بكل مشاعره ووجدانه ليطرحها نموذجاً (للغة الشاعرة واللغة ذات الاشتقاقات الثرية إلى آخر الأوصاف التي تجمع حولها أعضاء المجامع وغيرهم من الأفراد الذين أطربتهم موسيقاها وكلماتها الرنانة..
نحن لا نقدر على نسيان هذا الواقع، ولكن هذا الطرب الذي أعطته اللغة العربية بإيقاعها، صارت عورة أمام الأجيال الحاضرة بكل ما تحمل هذه الكلمة من قسوة، وبنفس الوقت اتخذت حقيقة مأساوية حين تفقد توازنها، وتنطوي على نفسها رغم كل الوسائل الميسرة الحديثة في علم الأصوات ووضع تقنية للغة لتعيش في حضور دائم مع متغيرات الحياة وتقدمها.
كم كان محزناً ان نتقدم «اليونسكو»، قبل أكثر من عشر سنوات في مشروع قالت إنها قادرة على المساهمة به بكل ما تملك من إمكانات وتجارب في جعل اللغة السواحلية الأفريقية لغة مكتوبة ومقروءة بالحروف العربية، لأن خبراء اليونسكو وجدوا أنها أقرب اللغات القديمة، والحديثة في الدلالة والصوت إلى اللغة العربية.. ولكن المجامع والمؤسسات العربية نامت على هذا المشروع بالغفوة المعتادة، وخسرنا قوة جبارة يمكنها مع تواتر الأجيال أن تفرز مستقبلاً عربياً للقارة الافريقية كلها، ولكن تلك القبائل دفعها حسها وظرفها إلى الانخراط في مدارس اللغات الأوروبية، لتضاف إلى معسكرهم الثقافي والاجتماعي بدوافع الحاجة والرعاية الأفضل من قبل تلك المؤسسات.
•• وخسارة ثانية، ولكن هذه للمرة من داخل العربي نفسه، أي من أصحاب العلاقة والدم واللغة الواحدة.
قبل سنوات كنا نقرأ أشعار المهاجر العربية، وتلك القافلة من الرواد من سوريا ولبنان وفلسطين، عاشوا مرارة الغربة بكل ضغوطها النفسية والاجتماعية، ولكنهم رفضوا الغربة الأصلية لإذابة الكيان في تلك المجتمعات الغريبة، وقد حاولوا بجهود جبارة أن يفتحوا نافذة على الوطن الأصلي ليضعهم في اهتماماته ورغم قسوة الأيام فإنهم كانوا يبررون ذلك الجحود بأن الأمة العربية قوة مستضعفة ومسحوقة بالجهل والضغط الاستعماري، ومحاربة أية نفس عربية، وتلك مبررات نتركها لجيلها ولا نستطيع فرض حساب قاس عليها.
لكن وفي حساب هذه الأيام يضاف إلى رصيد المأساة العربية أن الملايين من العرب تناثروا على قارات الأرض، سواء من كان مهاجراً بفعل الحاجة إلى فرص العمل المتاحة في أوروبا، وبالأخص من كانت تستعمرهم الدول الغربية في شمال إفريقيا من الأقطار العربية، أو من هاجر بفعل ضغوط الوضع العربي وخاصة من دفعته مصائره إلى أستراليا وكندا، ومعظمهم من الشعب العربي في مصر.. وقد دفعتهم الهجرة، وهم القوى المؤهلة علمياً إلى الحالة التي عليها الأمة العربية عموماً.
هذه المجاميع الكبيرة أفرزت أجيالاً جديدة من المواليد ستتحول إلى طاقات جديدة، أو أرقام في دائرة المغتربين كقطاع مشرد عن العمل وعن اللغة والوطن..
وإذا كنا لا نستطيع اقحام الجامعة العربية كمؤسسة ذات شخصية معنوية، لم تكتسب حق الوجود لتنافر أعضائها، فإنها اجتهدت في تجميع اللجان والمتخصصين ورسم الحقائق أمام كل بلد عربي له شراكة في هذه المسئولية الضخمة، وكانت بعض النتائج كما يلي:
•• في فرنسا أكبر جالية عربية هي خليط من مغاربة، وجزائريين، وتونسيين، وهؤلاء يعيش معظمهم في حي (باريس) في باريس مع مجموعات من الأفارقة وخليط من دول أخرى وقد قيل إن من بنود الاهتمامات في تلك القطاعات أن يتعهد كل بلد عربي بجاليته في فتح المدارس والمعاهد، ومراكز التدريب، وربطهم بالوطن الأم.. وقيل إن فرنسا ترفض المعاملة إلا بالمثل، وتلك لم تكن ذريعة قياساً بمجتمع حضاري لا تؤثر عليه تلك القوائم الصغيرة من السكان في طمس معالم اللغة الفرنسية، ولكن وراء هذا دوافع وطنية وقومية أكبر من دولة ذات أهداف واهتمامات في لغتها خاصية بلد كفرنسا.
ثم إنه ما من بلد عربي إلا ما ندر إلا وتوجد به جالية فرنسية، وسمح بتعليم أبناء تلك الجاليات، وفي مدارس خاصة اللغة الأصلية لفرنسا مع إعطائهم كافة التسهيلات.
وأما إذا كانت الذريعة الثانية هي أن فرنسا تعاني مشكلة البطالة، وأن هذه العمالة إذا ما قدر لها أن تتدرب وتدرس ستصبح عبئا اقتصادياً فان فرنسا في رقبتها ديناً تاريخياً للعرب، لأن تلك الفئات المهاجرة قد تكونت بفعل ظروف خلقتها فرنسا نفسها.
إذن ما هو الموقف العربي – وبشخصية الجامعة العربية – كممثل عربي في هذه القضية؟!
إن المواجهة حتمية إذا أردنا صيانة قطاع بشري لا ينفصل عنا إلا بفعل تخاذلنا، ولسنا نعفي تلك الدول العربية التي يحمل هويتها أولئك المواطنون العرب لأنهم الوحيدون الذين لهم النفوذ في التحدث عن مواطنيهم.
أما إذا كان الأمر يتعلق بمشاكل مادية أو إمكانات بشرية مؤهلة لتعليمهم وتدريبهم فإن هذا قابل للحديث عنه في إطار الجامعة العربية.
بنفس الوقت يصدق هذا الوضع على الجاليات الأخرى ذات التراكمات العددية الكبيرة في كندا، واستراليا، وأمريكا، وهي في هذه المواقع تشكل نمطا ًفريداً في التعامل، لأنها هاجرت وهي تملك إمكانات علمية جيدة، ولكن إذا ما تقادم الزمن والإهمال على أجيالهم الطالعة، فإن قوة المجتمع الذي يعيشون فيه ستفرض نمط العيش والحياة، وبالتالي نسيان الوطن والهوية، وحتى التعاطف معنا ومع قضايانا مستقبلاً.
وإذا كنا لا نطمح أن يكون لنا بتلك القوى صوت وفعل في الأرض التي يقيمون عليها فإنه من أبسط الواجبات والحقوق أن نرعى مصالح تلك الفئات من التشريد والقتل، كما حصل في اندونيسيا
وزنجبار مما دفع ببعض الأنظمة العربية أن تبارك إبادتهم وتشريدهم بدعوى أنهم فئات طفيلية خلقت مكوناتها (البرجوازية) وصارت قوة مرادفة للاستعمار.. أي أن مبرر تلك التصرفات مأخوذ بإذن مسبق من جهلنا وتعاطفنا مع أنظمة، لا مع واقعنا العربي، وهذه مأساة ثانية تضاف إلى مآسينا وآلامنا الطويلة!!
•• الحالة الثانية أننا نعرف أن الحروف العربية كانت تكتب باللغات التركية، والأردية والفارسية وفي دول إفريقية غير عربية وبعض هذه البلدان، فرضت الحرف اللاتيني الأكثر تطوراً وتسابقاً مع العصر.. لماذا؟!
لنترك المد العربي ودولته الكبيرة، ونأخذ بقياس الحاضر، رغم تنامي التعليم، وتعدد الجامعات والمدارس على امتداد خارطة الوطن العربي بأجمعه.
فالذين كانوا يتكلمون العربية في المواقع الإسلامية من الاتحاد السوفيتي إلى أقاصي أفريقيا، صاروا يواجهون حملة مضادة أيدلوجياً وقومياً، وبالتالي تمت تصفية تلك القواعد الرئيسية التي تعلم في المساجد والمدارس الخاصة حفاظاً على لغة القرآن الذي يدينون به لأن القوة المساندة في بلدان هذه اللغة هم الذين تناسوا وجودهم والحفاظ عليهم.. وتلك هي المأساة الثالثة في قائمة المشكلة العربية مع نفسها.
•• الحالة الثالثة هي تراجع اللغة العربية في الداخل، وهي ليست ظاهرة صحية بالقياس إلى الآثار السلبية التي صارت تستقل بكيانها تلك اللغات الوافدة.
فاللغة الانجليزية – مثلاً – تحولت الى ضرورة، لا بالحدود التي تفرضها مقتضيات الفروع العلمية ومصطلحاتها التي تحتاجها الجامعات والمدارس العليا في بحوثها وتجاربها، ولكنها أصبحت ضرورة للتكيف مع العناصر الوافدة التي عجزنا عن جعلها تتكلم العربية، وقد تكون هذه الحالة تصدق كثيراً على دول الخليج العربي أكثر منها في الدول العربية الأخرى.
كذلك هناك مد كبير في المنهج الدراسي في تعليم اللغات الاجنبية في حين أن تراجع الفكر واللغة داخلياً وضرورة ربط كثير من المبادلات الاقتصادية والثقافية مع مؤسسات وحكومات أجنبية عديدة جعلنا لا نستغل هذه الفرصة، وحتى المراكز المتواضعة التي تبنيها بعض الدول العربية بجهود خاصة، تعتمد الرعاية الإقليمية والجانب السياسي، لا بغاية المراكز التي تبنيها الدول الغربية لأهداف منظمة محسوبة بمنظار قومي ووطني..
•• حالة أكثر خطورة هي أن الدراسات الجامعية العليا، ولو كانت تخص شخصية معاصرة أو في حقل من حقول اللغة العربية نجد معظم الأطروحات والشهادات تمنح من جامعات قد لا يتكلم اللغة العربية فيها إلا قلة من المستشرقين.. ودعوى توفر المراجع وحرية البحث ليست حجة مقنعة، إلا إذا التزمنا بأن شعوراً خاصاً فرض علينا هذا الموقف.
نحن ندرك أن الجامعات لا تمانع بدافع تجاري أولاً، وثانياً بإضافة حصيلة علمية أو أدبية في مجالات اللغة العربية وآدابها تضاف إلى مكتبتها أن تستمر وتقوى لأنها لا تهددها ولكن تمنحها إعانات علمية ومادية إليها..
فمسألة المصادر يسرتها سبل التصوير للمحفوظات وتكاثر الأطروحات المشابهة عربياً بين الجامعات لدرجة سوء التنسيق، وأحياناً، السطو على بعض الرسائل أو البحوث لكثير من المؤرخين والعلماء في فقه اللغة وآدابها، وهي ما تطفح به فضائح السرقات دائماً يجعلنا لا نبرر هذه الدراسات في الخارج.
وفي هذه الحالة نتساءل ما هو موقف المؤسسات العربية من هذا الوضع الخانق، وما هو دور الجامعات في تحصين ذاتها والإبقاء على الأدنى من تراثنا في جامعاتنا؟!
إن الحديث في هذه المواضيع طويل وخانق، وعلينا أن نفهم أن عشرات الجامعات العربية لم تقدم في عصرنا الحاضر أية قيمة فكرية عالمية تذكر إلا بعض طلقات صغيرة من أفراد موهوبين في الرواية والقصة القصيرة، وهم في الطريق إلى الانحسار أو التجمد.
وأخيراً هل يبقى العرب في غربتين داخلية وخارجية، ونعيش مأساة تلك المسرحية التي لا أدري إن كانت مثلت، وهو أن عبد الرحمن الفاتح (صقر قريش) يطوف على موانئ ومطارات المدن العربية كلها، ولا يجد من يُؤْوِيه.. وأخيراً يستدعي السفير الإسباني في احدى الدول العربية ليستلم مواطنه المشرد!!
لست أدري فالليالي من الزمان حبالي!!
صحيفة الرياض / 6-2-1402هـ
0 تعليق