ليس بالموضوع بفعل احتمال همجي بالرقص على الموضوعية، أو تبديدا لكلمات، وإطلاقها خارج تكوينها.. وإنما الأمر يتصل – بداهة – بتشرذم الفكر العربي الذي أصبح يأكل الطفيليات من خارج مزرعته وأرضه!!
لقد افترضنا – بحسن نية – أن طفولة الشعارات، واحتكار المراهقة الذهنية فترة، التقت معها الأمة العربية كنوع من التيار العاصف لتلك المرحلة، وأن التسليم النهائي لحل قضية تلك الشعارات هو جملة المواقف والتجارب التي لا بد أن تنجب التوقف عن تلك السلبيات لمحاكمة الماضي بالأقل من العصبية والأكثر عقلانية..
في الماضي القريب، توزعت دور النشر العربية إلى مراكز الفئة غير المنظورة، والتي تبثها كل من أوروبا وأمريكا، كتيار متضامن.. والقوة اليسارية كمعاكس طبيعي لنفوذ هذه القوة، وتلك كانت بداية الحرب الفكرية على الوطن العربي..
اليمين لا ينطق إلا بدثار الحرية (المزعومة) ويترجم هوامش الفكر الدعائي عبر عدة مؤسسات وشركات شديدة الاتصال بقواعد السلطة في أوروبا وأمريكا.
وعلى الطرف الآخر تحركت قوى اليسار لتجعل من (ماركس ولينين، وماو) أكثر صلة رحمية من أي بطل قومي عربي!!
أما في الوسط فأصبحت الشرائح القومية هي التي لا تحمل فكرا واضحا، أو منهجا يلغي هذا الصراع الحاد أو يذيبه في اتجاه عربي موحد.. وتلك كانت أزمة الفكر العربي مع نفسه في السنوات العشرين الماضية.
وإذا كنا نريد الانطلاق من ذلك الأسر المضروب بتفاعلات الأحداث، وتوسيع قاعدة الصراع والدخول إلى التناقضات التي وجدت فراغات عديدة في العقل العربي، فإن أحد أهم هذه الغزوات هي (الشعوبية الحديثة.. أو الشعوبية التقدمية)!!.
ونحن نعرف – سلفا – أن القومية في نظر الفكر الماركسي «شوفینیة وأنها لا تمللك أسس بقائها» وإذ أن المستقبل البشرى سيكون للأممية العالمية.. وأن القومية مرحلة الطفولة المراهقة للفكر السياسي..
إلى أخر تلك النظرية المشمولة بأفكار الماركسيين جميعا.
من هذا المنظور البعيد للاتجاه السياسي صار الخط التقدمي هو المشفوع ببركة الاتجاه اليساري.. أي كان هذا النوع، ولو كان محصورا بشعارات الماضي المحقونة إلى الجذور بالعموميات الطفولية.. إذ أن مسألة (تقدمية) تحاط بذات الأساليب الغامضة والأفكار العائمة.. وصارت تمتلك أشياء كثيرة تحت رداء هذا المفهوم الكبير.
القصد هنا ليس محاكمة مبادئ، بقدر ما هو خلط هذه المفاهيم بانتهاكات خطيرة على المستوى الوطني والمستوى القومي.
فالبراءة التي يحصل عليها هذا القومي حين يشتم علانية الأمة العربية، أو الجنس العربي، فإنه لا يخرج بهذا الشعور العدائي من أي تفكير أو أسلوب أي فئة أخرى قد تنزع إلى اليمين المتطرف تحت ستار القومية قرأت كتاب «سليم بركات.. الجندب الحديدي – السيرة الناقصة لطفل لم ير إلا أرضا هاربة فصاح: هذه فخاخي أيها القط”.
الكتاب تداعيات لمذكرات طفل يحطم الأشياء بفعل حقد تكون تلقائيا.. يحرق المزارع، يعذب أفراخ العصافير.. أي أنه بهذا الفعل يحقق “مشروع وجوده” من خلال حالة الانفصام التي أقعده داخلها المجتمع.. يقول بركات: “تنظر بدورك إلى أطفال البدو شزرا في المدرسة، تسخر من الحلاقة الغربية لشعورهم، ومن الوشم الأزرق الذي يغطي انوفهم وخدودهم وأيديهم من بدائيتهم المفرطة لكنك لا تعرف لماذا يفضلونهم عليك، ولذا تنتظرهم بعد الانصراف من المدرسة، وتختلق أي سبب للمشاجرة.. يعاقبك الناظر في اليوم التالي.. بيد أنك تستمر على المشاجرة يوما بعد يوم.. يطلب الناظر ان نجلب ولي أمرك، فيأتي والدك إلى المدرسة.. يحتقره الناظر للكنته الأعجمية.. ولكن والدك عنيف ذو كبرياء، يقول الناظر: «من أنت لتخاطبني هكذا؟.. يقول الناظر “……..» (عفوا هذه جملة تخرج عن قواعد السلوك الأخلاقي) يتابع الكاتب..
“يذهب أبي غاضبا، وفي اليوم ذاته يقف عتالان في الشارع الذي يضم بيت الناظر ويسحبانه على الأرض من قدميه.. يشتكي الناظر إلى الشرطة.. تأتي الشرطة فرفض والدي المضي معهم.. تجتمع القبضايات والأقرباء أجمعين في غضب كاسح.. يصل الأمر إلى مدير المنطقة، وهو برتبة مقدم.. يأتي المقدم في سيارة فخمة، فيخرج إليه حسين آغا صارخا: «سأدوس قبعتك إذا أخذت هذا الرجل”.. ويسوى الأمر في هدوء.. وفي هدوء يتخلى الناظر عن عدائيته، لكن المسألة لا تنتهي، فتصبح الطفولة جحيما، وكذلك البداية التي لوحت فيها بيديك الصغيرتين للرئيس»!!
وفي مقطع اخر يقول صاحب الجندب الحديدي “ضجت الناس من البطش اليومي، ومن هؤلاء الذين يرتدون حطات حمراء، ولا يدفعون ايجارات بيوتهم.. ضجت من الذين يأخذون رغيفها الصباحي، ويقتحمون البيوت إذا تشاجر طفلان.. وحين أدركوا أن هؤلاء جاءوا ليمحوا الأسئلة في الأفواه، نصبوا لهم الفخاخ الليلية. ونثروا بالرفوش والمناجل أعضاءهم.. ولما تفاقم الأمر حمل “الهجانة” أحلامهم الصحراوية الممتزجة بـ “البعر” إلى البادية ثانية، ولم يعودوا بعد ذلك قط”!!
هناك عدا هذا التصريح النافر، العشرات من الهمس المدسوس والاستعارات التي تخفي عمقا من الكراهية..
المؤلف قد يكون من وجهة نظره الذاتية يطرح المشكلة الكردية من زاوية سياسية بحتة وهو يجسد الموقف بأنه صراع عرقي تاريخي، وإن كان يحاول أن يتجنب المضمون القومي خشية السقوط في المفاهيم المضادة للأيدولوجية الماركسية.. أي أنه أخذ المنظور العام كقضية جدلية بين انتمائين حضاريين يختلفان في الأسس التي ينطلقان منها.. وهو الحق الذي جعله مرتكزا لشتيمة عرب الشمال في سوريا وهم “الهجانة الذين حملوا أحلامهم الصحراوية الممتزجة بالبعر”!!
تلك هي النقطة للمنطلق الشعوبي التقدمي الأممي.. إلى آخر شعارات الحداثة الجديدة في المفاهيم السياسية الحاضرة!!
إن تأهيل الحقد التاريخي مفهوم سطحي، وغير واقعي ولا يستند إلى أي موقع أو حادثة تربط حدثا مضادا لمعايشة العرب مع مختلف الأجناس أو الاقليات الأخرى، وأن اختلاف هذا الحدث جاء من مفاصل التبعية الفكرية والأيدلوجية، التي لم تستطع أن تستوعب الأفق الوطني والقومي من خلال تراثه الإنساني.. وهنا – حقيقة – لا يختلف أن تلتقي فئات اليمين واليسار على جعل الأمة العربية حلقة صراع مفقودة الهوية، أو الأصالة، وادخالها ضمن التوابع السياسية الحاضرة، كما حاول عشرات المفكرين من الغربيين إدخالها في حيز أضيق في الحضارات الإنسانية كوسيط في النقل لا الإبداع لحضارة الرومان واليونان.
فالصلة الجذرية للشعوبية متجسدة ليس عبر اتفاق شخصيات تاريخية، ولكنها الآن تتسربل وراء المنطلقات الأيدلوجية العصرية بكل ثقلها السياسي الدولي، أي أن الأمة العربية في محور الارتكاز كهدف أصيل لقتل أي طموح قومي، وإلا بماذا نفسر الحقد الأسود على الشعب العربي برمته؟!
إن العداءات قد تنبت بين الأشخاص، ولكنها لا تدوم حتى بين أمة غالبة ومغلوبة، لأن هذه الفرضية الجدلية لو وجدت، فإنها تلغي معنى الطرق المتواصلة للحضارة والتفاعل الثقافي، وبهذا يريدون منا أصحاب التقدمية العصرية أن نلغي وجودا تاريخية وإرثا انسانيا، وعقائديا في سبيل تهجين أصالتنا، وتلك هي المنابع الخصبة التي تريد أن تنفذ منها قوي التعارض المحلية في إطلاق سراحنا – كما يزعمون – إلى الكونية والأممية.
يبقى الفاصل الحقيقي في الموضوع، أننا سنحارب على جبهات عديدة، لأن تجريد الوطن العربي من ميراث اللغة كان أول الأهداف المعلنة، ولكن الغايات الحقيقية هي جعل ظاهرة الصراع ينتقل إلى تحريك القوى المضادة من عنصرية، ومذهبية ليسهل حصر العرب، كما يقول أحد المفكرين الصهاينة، في جزيرتهم العربية فقط.
التاريخ: 02 – 11 – 1401 هـ
0 تعليق