التقابل.. والتضاد!!

آفاق | 0 تعليقات

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور “عبد الله التركي” مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف الجديدة».
والمقال، بحق يطرح مجموعة أفكار في غاية الأهمية خاصة في هذه الفترة من حياتنا المعاصرة، ولعل القياسات في معرض الحديث الذي تناوله الدكتور يعطي الأسباب لنتائج بعيدة العمق والغور، هذا إذا ما أخذت بالترجمة الصحيحة لحاصل نشاطنا الاجتماعي، الفكري، والعملي.. ومن خلال تركيبتنا الخاصة التي تنزع إلى تجديد ذاتها بتكاليف أقل من الذين سبقونا..
وفي هذه المناسبة أريد أن ألخص بعض النقاط التي وردت بالمقال، لإلقاء الضوء عليها من وجهة نظر اجتهادية قد تساهم بتوسيع دائرة الموضوع إلى ما هو أشمل..
يبدأ الدكتور بالقول “هناك فن تنظيم معاني العلم والاستخدام، والتنويع، وهناك تعامل، وهو اشتقاق مشبع بدلالات الحيوية والإيجابية، والاحتكاك والتفاعل والتجارب”.. ثم يستطرد.. “إذن فهو موقف اجتماعي، ذو مدلول ثقافي واقتصادي وسياسي، وتاريخي أيضا.. إلى أن ينتهي على القول: «ومن هنا أستطيع أن أقول: إن هذا الموضوع أو اتقان هذا الفن يلخص قدرتنا على الحياة بطريقة منظمة مبرمجة لا مجال فيها للتطير من الأحداث أو من نشأة وقائع جديدة، ولا مجال فيها للارتجال، ولا للاسترسال العشوائي مع الأحداث”.
الميزان الاجتماعي الذي يريد معالي الدكتور العبور منه يقع في دائرة التوتر، ولكنه يزن الأشياء من خلال تطور الحياة والأحداث من حولنا.. وهنا كان التعامل معها يحتاج الى بصيرة نافذة..
نحن لم نختر عصرنا، ولكن “فن التعامل معه” يأتي من قدرتنا على تصنيف أفعالنا، وايجابيات نشاطنا المنتج.. والموقف الصحيح هو كيف نختار هذه اللحظة لنطور بها ذاتنا، لا بمعزل عن العالم، ولكن من خلال تطوير أدواتنا وشخصيتنا، وتصور مستقبلنا بطريقة منظمة مبرمجة لا مجال فيها للتطير من الأحداث أو من نشأة قانون جديد، كما سبق أن أورده معالي الدكتور..

بهذا المنطق نقول إن ترتيب الأولويات لا يخضع لمقاييس التعاطف مع الواقع دون اثرائه، والتفاعل معه، ومن ثم حصد الناتج العام الذي يتطور وفق قانون التضاد، والتصالح، وحتمية التطور الذي لا يتوقف..
لقد كانت هناك نظريات تقول بموت حضارات وعودتها من جديد من رحم عصرها الحديث، والحقيقة أن الحضارات لا تموت أو تتوقف ولكنها تنتقل بفعل تطورها إلى إنسان آخر أكثر استعدادا للاستجابة والتطور.. وهنا كان حتما علينا أن نفهم جدلية الماضي مع الحاضر وترتيب بيتنا على هذا الأساس.

فإذا ما قبل بسيادة القوة في الماضي والحاضر، وتبعية السياسة والاقتصاد، والنفوذ العام، أو ما اصطلح عليه بالاستعمار المباشر، فإننا لم نجابه هذا التصادم، ولذلك ظل النقاء الطبيعي متوفرا إلى أبعد الحدود في حياتنا المعاصرة، ولم نجابه خلل التوازن، كما كانت تجربة كثير من الدول العربية، أو العالم الثالث.. لكن الخلل يأتي دائما من رابط العلاقة العميقة بالعالم الذي أصبح الآن قرية صغيرة، وصار المؤثر الثقافي واحدا من منهج التأثير المضاد على البناء الوطني والقومي وهنا كان لتحديد الهوية الثقافية والوطنية هو المواجهة الحقيقية مع تيار الحياة، لا سيما وأن الاتباعية أو التقليدية صارت لا تشكل الحافز المتطور مع مفهوم استيعاب العصر ونقل مؤثراته الإيجابية..
ولو طرحنا أبعاد اجهزة التأثير الثقافية، وأعني بالدرجة الأولى الجامعات كمطبخ تتفاعل داخله تيارات الوعي، وتتداخل فيه العصور والأزمنة. وصراع الأجيال بثقلها التاريخي، وتطلعها إلى نمط جديد في الحياة، لتوارت النظرة داخل أزمة ما أعتقد أنه يدخل في ضعف العلاقة بين الأستاذ وتلميذه، وبين الجامعة كمؤسسة كبرى، وبين المجتمع..
وهنا كان الدكتور عبد الله موفقا حين قال عن التعليم “ضمن أسباب نجاح أي حركة تعليمية قدرتها على استيعاب الحقائق الجديدة، والحاجات المتجددة، وهذا يقتضي التقويم الدوري للخطط التعليمية، والترشيد المتتابع للمناهج وطرق التدريس وبرامج إعداد الأساتذة والمدرسين”

وعن سر الحركة المتجددة “القدرة على استيعاب المتغيرات وهذه القدرة ترتكز إلى مقومات من أهمها:
أ‌. الارتباط الوثيق بالأحداث والقضايا المحلية والعالمية..
ب‌. سلامة جهاز الهضم والتمثل الفكري …
ج. استقلال الرؤية..
د. فهم المتغيرات في ضوء الثوابت»..
من هذه النقاط يحق لنا أن نتساءل كيف لنا أن نتصور الظروف الراهنة والقادمة مع واقع ما يطرحه الفكر الصادق؟!
إن الذي نشاهده في مواقع ثقافتنا المعاصرة لا يتعدى الماضي ولم يتخلص من أسره.. وهنا تصادف أن نلحظ بين كل الذين يؤلفون داخل مؤسساتنا الأكاديمية يحطون على أرضية العصر الأموي والعباسي – وكأن مؤثرات العصر، وانتقالنا من موقع راكد إلى موقع مشحون إلى حد التصادم مع منجزات العصر التقنية، أصبحت تشكل فجوة كبيرة غير قابلة للتضييق وتقريب المسافة. وهنا كانت العلة السببية لعدم فهم المتغيرات في ضوء الثوابت، وخلق المجال الحيوي لأطر جديدة لا تخل بتوازن خطواتنا، وترتيب القاعدة الاجتماعية التي تريد أن تكسب من العصر العلاقة المتطورة، ولا تنفسخ أو ترتد إلى الوراء بحكم متعسف على منظور الأشياء وحركتها، وإلغاء اللحظة الراهنة والوقوف ضد تيار الحياة لنمارس عادة الانبهار وإهمال “فن التعامل مع الظروف الجديدة”!!
إن الدكتور التركي استطاع أن يفك كثيرا من عقد التشابك في حياتنا المعاصرة، ولهذا لم أتطرق إلى نواح كثيرة جديرة بالمناقشة، سواء ما يدخل في إطار الظروف الاقتصادية، وموقفنا منها على ضوء المتغيرات الحديثة، أو الوضع الدولي وصراع القيم مع السياسة وحدود المنافع في النظام الدولي..
لقد قصرت الموضوع على “استقلال الرؤية”.. وأعني بها بالدرجة الأولى تلك التي تتناول البنية العليا في فكرنا، وموقعها من هذا الصدام المستمر مع الواقع، العالمي، أو المحلى، وهي المجال الذي وجد موقعا لهذه الأفكار.
أما الأشياء الأخرى في الموضوع، وهي جوهرية بالفعل فإن غيري ربما يكون أقدر على مناقشتها، وتناولها من عمق الأفكار التي طرحها معالي الدكتور التركي..


التاريخ: 02 – 07 – 1403 هـ

مقالات مشابههة

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *