من حق أي انسان في الوجود أن يكون له الحس الفني، وأن يوظف هذا الحس الجمالي لمتعة رؤية أو سماع الفنون التاريخية العظيمة..
السوق الخليجية التي ابتلعت المجوهرات الثمينة، وصراعات (الماركات) العالمية.. وبدأت تنافس دولا غربية عريقة في التفنن في معارض الكتاب. واستيراد المغنين العالميين.. اتجاه لا نراه ضارا إذا ما قيس بالدور الذي تلعبه هذه الأشياء في الحياة العامة، أو إغناء الثقافة بمناهج وأطر حديثة..
ومثلما البنت الخليجية لها الحق أن تقلد تسريحة “ديانا” فإن الشاب أيضا له ألف حق أن يحاكي شياكة (ديستان) أو (خليو)!!
المسألة هنا غير ذلك كله، ولا تدخل في دراسة ظاهرة الشخصية الخليجية.. أسلوب عيشها وتطور مساراتها.. عفويتها وصدقها إلى حد الجهل..
الشكل الذي نريد أن نتحاور داخله، ونعمق مفاهيمنا حوله هو قضية الفن التشكيلي.. هذا الطارئ الجديد علينا الذي لم يوضع قيد قوانين وحقوق تحفظ لأطراف كثيرة قضية الغش التجاري، وتحمي البائع والمشتري من سلطان التفضيل والضحك على الآخرين..
نحن بدأنا متواضعين جدا بمجموعة من الفنانين لازالت أعمالهم صغيرة جدا، ولكنها ضمن تقاليد ومسارات نرسمها حتى تستطيع أن تثبت شخصيتها، وهويتها.. الذي حصل، حتى الآن، أن البعض، ولا نقول الكل، حتى لا يصدق علينا وعليهم جور التعميم، أدرك الجانب التجاري البحت من هذه المهنة الجمالية العظيمة ليأخذ بأسلوب الترويج، والمبالغة بالأسعار، لتحقيق أرقام هائلة من الأرباح.. ولكن قبل الخوض في هذا الأمر، دعونا نلقي نظرة عامة على القوانين والتقاليد التي تحكم هذه المسألة عالميا، حتى لا نقع في اشكالية جديدة..
قبل سنوات قليلة جدا، ظلت أعمال المستشرقين الذين زاروا بلدانا عربية وإسلامية، وتأثروا بفلسفة حياتها.. أقول ظلت أعمال هؤلاء في المتاحف العالمية ودور العرض مهملة كأي قطع كرتون عادي لا تلفت لها أنظار المارة من العاديين من الناس، وبقدرة قادر نفاجأ بهذه الأعمال انطرح بأسواقنا كرموز لأعمال عظيمة وهائلة.. وبدأنا نشاهد في دور العرض التجارية هذه الأعمال المجهولة بجانب أعمال، يداخلنا الشك في صحة وجودها لــ “بينوار ودافنشي، وروبنز، ومونیه” وغيرهم.. وهي عملية احتيال مفضوحة إلا بالنسبة لمن يريد أن يزين جدران صالونه، أو غرفة نومه بلوحات لا يعرف أو يفرق بين اللون والظل، ولكنه يدري أن هذا الاسم العالمي متداول، ويقرأ على لوحة الأسعار العالمية لهذه الأعمال أن (الملياردير) الأمريكي اشتري لوحة فلان بمبلغ كذا، وآخر اقتنى عمل آخر بمبلغ مضاعف.. الخ.. وهنا جاء دورنا لندخل المعمعة، ولكن بأسلحة وأفكار ضعيفة جدا..
الذي نفهمه جيدا أن لوحات الفنانين الكبار، والتي أخذت شهرتها التاريخية الكبيرة أصبحت جزءا من مقتنيات لا تقبل أي دولة التفريط بها أو حتى خروجها من صالاتها الخاصة إلا بشروط تصل إلى حد التعجيز مهما كان الشخص المشتري قادرا على الدفع والانفاق..
أما إذا قدر أن تعرض لوحة أو عمل ما، فإنه لا يتم إلا بواسطة «كاليريهات» عالمية لها تقاليدها وأصولها التاريخية القديمة.. ومثل هذه «الكاليريهات» تسيطر عليها مؤسسات أو شركات كبيرة، وبواسطة هذه العروض تحصل على مبالغ طائلة، حتى أصبحت فروعها في معظم بلدان العالم..
مثلا «كاليري فندلي»، في نيويورك صارت شهرتها سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو بلدان عريقة كباريس، ولندن تصنف من أعظم دور العرض في العالم..
أما لو أرادت أي «كاليري» أن تبيع عملا ما، فإن ذلك يتم بواسطة مزادات خاصة يتركز زبائنها على المتاحف، وأصحاب المجموعات الفنية ذات الاحتكارات المعروفة.. وتخضع هذه الأعمال لسلطة الخبراء في تاريخ الفنون الذين يقيسون مرحلة تطور كل فنان ويوم وتاريخ هذه اللوحة وأسلوب العمل الذي انتهجه الرسام، وبالتالي تصدر شهادة من أحد المتاحف أو الجهات المعتمدة في صدق هذا العمل الفني وفق أسلوب معقد يفحص الألوان وتركيبها، وقدمها والأسلوب الذي استعمله هذا المبدع في مراحله الأولى والمتعاقبة.. ذلك واحد من الظروف التي تنهجها التقاليد الفنية العالمية المشهورة.
من جهة ثانية، هناك أعمال لفنانين مشهورين تقاس بقيمتها التاريخية وتوقيع الفنان فقط، لا قيمتها الجمالية الكبيرة.. وهذه بالتالي هي التي تتداولها أيدي الباعة والمشترين، لأن سعر اللوحة يخضع إلى تقييم طويل يمر بسلسلة من الآراء لكبار النقاد، وهنا تبقى المسألة متعلقة بعملية طويلة خاضعة لقياسات فنية وجمالية وخبرة رائدة في هذا المجال..
هناك اعتبار آخر، لقد وجدت لوحات هائلة لفنانين عظماء مجهولين، ولأن هذه الأعمال لم تتسم بشخصية مبدعها فإنها ظلت عملا كبيرا. ولكنها لم تكسب الشهرة التي تؤهلها لأن يكون تسلسلها التاريخي، وطبيعة الظروف التي خلقت بها، لذلك أتت هذه الأعمال كأي رمز طمست أصله عوامل كثيرة خلقتها الظروف التي أنتجتها، ومع ذلك أصبحت قيد الاحتكار الفني في المتاحف الدولية..
نعود إلى السوق الخليجية التي بدأت تكتنز لوحات فنية بولغ في أسعارها، وتزامن الجهل بنوعيتها وطبيعتها مع السيولة النقدية التي أفرزت هذه المباهات، والحلم بأسطورة الفن والفنانين لأعمالهم الحقيقية.
وإذا كنا نقرا ونسمع كل يوم عن شبكة أو عصابة تقلد أعمال العباقرة في أوروبا، ومع ذلك يصعب فرزها والتأكد من صحتها بين بلدان قادرة على التمييز، فإننا لضعف إمكاناتنا الأدبية والفنية غير قادرين على أبعاد اللعبة التي بدأت تدخل أسواقنا بشكل أقرب إلى الغش التجاري منه الممارسة الفنية ومتعتها الجمالية..
إننا قادمون على التفاعل مع ثقافات كبيرة ولكن ذلك يجب أن يخضع إلى نوع من الرقابة الصارمة خاصة في مجال الفن التشكيلي، وعلينا أن نعترف مقدما أن المشترين هم طبقة يغلب عليها سلوك المقلد العادي، ولذلك يسهل استغلالهم فقط بطرح الأسعار الخيالية لتكون اللوحة أو العمل الفني مجالا للمزايدة والشراء، فقط من أجل هذا الغرض.
فتطبيق نمط الرقابة، وطلب شهادة المنشأ وفق القوانين المتبعة عالميا قد يرفع الحرج عن الذين يقعون ضحية هذا الابتزاز الجديد، والذي أصبح تشويها صادقا لنا لأننا نشتري مجموعة أصباغ وقطع من الكرتون والقماش فقط بدعوى اسم المستشرق الذي عرض له لوحات “باللوفر” وهو لا يشكل إلا رقما متواضعا في أجنحة الفنون الكبيرة..
الهجمة على السوق الخليجية حالة غرام بين عاشق ومعشوقة لا تربطهما إلا أحلام مترسبة، وسيولة نقدية يجهل التعرف بها.. ولذلك جاء البيع عشوائيا خاليا من أي منطق له أهداف مقبولة.. وصارت القضية مجرد ابتزاز أموال بطرق غير قانونية تحت دعاوى كثيرة..
وإذا كنا لا نريد أن نتهم طرفا بعينه، فإننا، بنفس الوقت، لا نرغب أن نكون ضحية وحشية التاجر والغبي لنمارس عادة التخزين لقطع تدخل في تصنيف أعمال المبتدئين من الفنانين، أو المحتالين..
إنني أضع هذا التصور أمام كل من يدخل في المسئولية أو يستطيع الحد من هذا الغزو الجديد.. وأدرك أن الفنانين ممن وصلوا إلى براءة الفنان المحترف أن يقاوموا هذه التصرفات ويفضحوا هذه السوق الجديدة.. والخطيرة، حتى ينقذوا البقية الباقية ممن انطلت عليهم هذه الحيل..
التاريخ: 25 – 06 – 1403 هـ
0 تعليق