التنوع في الغذاء، والملبس وغيره من الوسائل المادية المحسوسة هي التي تترابط مع الشعور بالحب وبسماع الموسيقى، والتلذذ بنكهة الشاي، أو لواذع التوابل، هذه القابليات والمشاعر، والانطواء خلف عوامل الطبيعة هي ذاتها التجديد والتحول في مجالات وعي الانسان وإدراكه لمحيطه الكبير، وهو ما جعل العلماء والفلاسفة ورجال الفكر يضعون الإنسان في موقف يطور حركة كل القوى الجامدة ويحدد مساره منها
ولو أن حركة المد والجزر متغيرة بشكل لا يستطيع الإنسان معه وضع قياسات صحيحة للبحر لما استطاعت المدن الساحلية أن تتقدم وتتدعم، ويصير لها تكويناتها المادية والانسانية.. ذلك أن الاشياء تولد بقوانينها، وهي التي تحتل القيم المادية أو الجمالية، وتخضع لتفسيرات قد تكون متلاقية، أو هو ما يسمى بالقانون الطبيعي..
ومن هنا كان الافتراض بأن الحرية عمل مكتسب، يلغي بشكل حاد وقسري معنى الوجود العاقل للإنسان.. فكل تصرف داخلي متعارف عليه وفي بيئة واحدة، هو تصرف من داخل هذا التناقض الاجتماعي، وهو نوع من الاحتجاج على قيم باطلة، أو اكتشاف لسلوك جديد في الحياة..
وهذا لا يلغي القيمة التي من أجلها يتعايش الإنسان بهذا المستوي.. ولكن يبقى أن هذا التعارض ليس اخلالا بالعلاقات المشتركة بين الجماعات أو الأفراد، فكل قيمة معنوية متساوية مع موضوعية البيئة التي ينشأ بها.
فالحديث الجديد لأي تغير سياسيي في بلد ما، لا تكون النظرة إليه متوافقة والأغراض التي نشأ منها هذا التغير.
فالأوروبي يريد أن تمارس الحريات العامة والانتخابات والبرلمانات في بلد تصل الأمية فيه إلى 70% وميزانيته العامة لا تصل إلى تكاليف النظافة في أربع مدن في أحد الأقطار المتمدنة..
ويريدونه يعرف التخطيط للأسرة والمجتمع، وحتى أسلوب (الجنتل مان) الذي يعرف كيف تناسق (الشراب) مع ربطة العنق، والمكان الذي صنع فيه الطقم الكامل لساعته وأزاريره.. وإلا فإنه إنسان منسلخ من محيط غير بشري، وهذه هي النظرة المنحرفة في سلوك الشعوب والتي بات معها النظر إلى الشعوب الأدنى تعليما أو اقتصادا إلى نظرة مربوطة للنفس الاستعماري القديم..
فليس معقولا الحكم على بيئة ما يتوالد شعبها على الأرصفة ومثقل بالظروف الصعبة التي هي ميراث كبير لأوضاع تاريخية أو اجتماعية، ونطالبه بسماع موسيقى (تشايكوفسكي، أو موزارت) والرقص على أنغام (الفالس) وإلا فإن هذا الشعب لا يحمل حسا واعيا للروح الفنية المطلقة، لا يدرك القيمة الرائعة التي تختزنها الطبيعة، وهذا تجريد للعطاء الإنساني، ونسف تقاليده وتراثه التاريخي أو امتداده لأي عصر بشري مشرق..
الحرية هنا مزاولة للجوع والألم، وحين ينفلت القانون لشعب يملك الإمكانات العسكرية والمادية والتطور التقني ويفسر هذه الحرية بالإرادة القاهرة وتوزيع هذه القوة بتدمير أي شبر من الكرة الأرضية، فإن معنى هذا التعريف للحرية يغلق الشرعية الإنسانية بالتعايش السلمي..
لقد تصور دارسوا المجتمع البدائي بأنه عاش بدون دولة ولا قوانین أو نظام متعارف عليه، ولكنه تكون بحكم الصلات الانسانية ذات الفصيلة الواحدة والتي يهمها بالدرجة الأولى اقتسام معيشتها تبعا لمحصولها المادي.. وأن نظام الحروب بين هذه المجتمعات تكونت بأسباب الطمع الاقتصادي، وهي النظرة التي يقول بها الماديون التاريخيون..
ومهما يكن من اجتهادات في تفسير العدوانية عند الإنسان فإنها قد لا تخضع بالدرجة الأولى الحالة اقتصادية بحتة..
فقد أثيرت حروب دينية، وقبلية، بل إن (ألمانيا) وقف على روضة أطفال (برشاشه) وحصد عشرات الأجساد الصغيرة.. وهذه القابلية العدوانية في توارث من بيئة وعلاقات، وتربية اجتماعية ومنزلية، وأن هذا المرض لا يخرج من مباركات حددتها تنافسات في المستوى المادي والقانوني عند أفراد المجتمع الواحد، وهو الذي يغذي هذه الروح الحاقدة..
وإذا ما تطابقت هذه الحالات في بيئة معززة بالسلطة العسكرية، او بأي قوة مستعدة للتحرك تبعا لقانون السلطة السياسية، فإن هذا ما يجعل المحيط الإنساني غير قادر على تحديد شرعية أخلاقية تمارس حدودها الدنيا من العيش بسلام..
لقد أثيرت ضجة عالمية بأن الأمريكان استخدموا القوى الطبيعية في حربها بالهند الصينية، وأنها استطاعت تجفيف مناطق ضخمة في منطقة الغابات في فيتنام، واستطاعت إغراق المحاصيل الزراعية في تغيير مجالات الطبقات الجوية.. ولو أننا لا نغرق في مجال الخيال ونعتقد أن هذه ليست رواية خيالية صالحة لمخرج سينمائي قدير، فإنه لو تم هذا العبث في تغيير الحالات الطبيعية على هذا الكوكب فإن حربا قادمة ستدمر كل بنيات الوجود، وهذا ما جعل قوانین مثل حقوق الإنسان وصيانة البيئات والدراسات الجادة لتلوث الجو والأرض والبحر وسائل تهديد حقيقية للكائن الحي على هذه الأرض..
المصلحون الذين تقاسموا فترات من التاريخ وأضاءوا واجهات رائعة من الإنسانية ليست لهم الآن قوة التوجيه وسط مستحدثات التقنية الفكرية الميسرة والمسيرة بارتباطات قانون الاضطهاد البشري.. وحتى العودة لفضيلة الشرائع السماوية أصبحت في الميدان الأكثر تقدما في إنسان هذه الحضارة المعاصرة يواجه حالات من الحصار المادي والتفتت الداخلي لنزعاته الروحانية..
إن هذا العصر يطبع إنسانه بنصف حيوان متوحش، فإذا كان هذا الواقع هو الرؤية الواضحة، أو النعش المتفرد للإنسان الذي طعنته ساعات العمل والبحث في كيفية ساعاته في اللحاق بدينامية الآلة، وجداول إنتاجها، وما تبلغه من حالات البهجة، فإن التورط في البؤس البشري واحدا من أكثر الرموز انغلاقا على حمايته من التورط في الأشياء التي صورها كتاب ما بعد الحرب العالمية الثانية وهو أن أشد الكائنات تهديدا للوجود عامة هو الإنسان المأزوم بالحرب..
فمحاكمة عصر بكامله لا تخضع لموازين رياضية، ولو أن لها افتراضات غريبة من الصحة.. فالإنسان هو صاحب هذه الفرضية، ولكن لا يجوز أن تكون أحكاما على صحته النفسية بجموع ما يصنعه، وتحويل مستحدثاته إلى أدوات قهر وتحديد لحرياته العامة، وإلا فإن المصحات لحالات الصرع والجنون تكون ميدانا ثقيلا على التراث الحديث للإنسان
إن صورة (الموناليزا) لیست أرقى ابتسامة خطتها ريشة مبدع، ولا عبقريات الأسطورة اليونانية في باب استحدثته المدرسة النفسية (الفرويدية)..
وماذا لو لم يفك حجر رشيد هل ستكون الحضارة القديمة لمصر صنعت بأقوام غير الكائنات البشرية العادية، كما يعلم لكاتب مروج للإشاعة الحديثة؟ أو لسابق عليها خليط من التفسيرات الغريبة، كما هو الحال بالبحوث في أصل اللغات السامية، وأصل الإنسان، والوجود الخ..
(هيوز) المليونير المجنون، وصاحب الامبراطورية المالية الكبيرة، سجل باختفائه حالة محيرة للصحافة ووسائل النشر كلها، ولكنها بالمقابل كانت أرضية جيدة لاختيار كل الخرافات الحديثة، وهو الذي اشتهر في أكبر مغامرات الطيران واللعب مع عصابات (المافيا) ومع هذا كان حالة عصرية عظيمة بينما انكسارات البشرية اليومية وحالات التشرد هي الصورة المهملة في أرشيف الوقائع التي تحتاج الى معالجة..
إن المطلوب هو تحرير الإنسان من القبضة الفكرية العدوانية وتصحيح أصلها اللفظي، أو القاموسي ومنهجها السلوكي حلى يقتات على حالات تصحيحية لمساره العقلي والنفسي..
فالحكيم الصيني الذي قال (ابق على طرف هذا النهر فسيمر العالم من أمامك) ليس واقعيا في نظرته إلى قوة التكاتف البشري في الصين كقوة عظمى ورادعة، وإلا لما كان لهولندا السيطرة الاستعمارية على ما يقارب من ثلث العالم، وهي الدولة المحدودة العدد، والصورة مماثلة تماما (سيروزا) تلك التي لا ترى شيئا إلا وتحول إلى حجر..
العالم الفقير، والصغير لا يحمل أدوات الثأر فصلوات عبدة النار في الهند لم تفك الحصار الاقتصادي لتلك القارة البائسة، ومحاربة نوع من العصافير الصغيرة في الصين لاستهلاكها كميات كبيرة من الانتاج الزراعي، فجرت مشكلة انتشار دودة كانت الوسيلة لمحاربتها تلك العصافير النهمة وحتى انسلاخ شاعر ووجيه مثل (التل) ومعايشته (للنور) ما هي إلا صدمات في قاع كبير، أو هي فلسفات احتجاج طافحة في تصيد عالم يحمل ود الحرية، ونسق الإنسان الشفاف..
كثيرون هم أولئك الخارجون عما يسمى بالقانون الطبيعي للمسلك الإنساني، ولكنهم حالات نابعة من أصل الأزمة التي فجرها هذا الجنس الواحد..
آسيا أمة المآسي صدرت خرافاتها (للهيبز) ولعالم الصرعات الدينية، وصدرت معها للعالم المتقدم كل أدوات التهديم العقلي.. وكأن التاريخ يعيد نفسه..
الإنسان في حصاره العنيف له عودة لتراثه الروحاني فهل سيكون الحسم الحقيقي لهذه المأساة؟
تلك هي العتبات الأولى في درج السلم الطويل..
والبحث عن مستحدث جديد، ربما يأتي من مجنون في العرف الإنساني الحديث، فلقد صار للخرافة قداسة ماهرة ودخلت عالم الفن وعلم النفس والطب.. وربما يخترع للبشرية صاحب (مقهى) يجمع مجانين العالم في مؤتمر يبحث صحة النفس البشرية.. أو ربما أن نقف في صفوف عادية أمام (سوبر ماركت) يوزع لحوما بشرية، توضع عليها تسعيرات حسب اللون والجنس.. وو.. قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
مخارج للصوت الواهن
احمليني بين ذاكرتك وقلبك.. بين حركات شرايينك وتلافيف أعصابك.. ضعي أقيسة افراز اعصابك كموجات ارتدادية لتوخز غارات عواطفي.. واقرني عالمي بعالمك المليء بالدوار والسأم والحلم.. قاضيني في ساحات العتب والفراغ، وجزئيني بين حاراتك وشوارعك الخيالية.. بحصار خلاياك الساقطة في حرماني.. قولي إن الشموس وبيوت الأشباح وغرزات الخياط في مفاصلي وجمجمتي هي الصفقات العارية في دفتر افلاسي.. شكيني بالدبابيس والأشواك (بكبلات) الشعر الساري على كتفيك. واطعني بخل حبي بكرم سماحتك.. ضعي مهماتك في تصفية مواريث خطئي، وحرريني من معارك سلوك أخطائي، رصي بين عيني وأنفي وأذني مخارج مزارع أحلامي فوق أرضك. وشيعي كل أخطاري وشوك سلمي.. إلى آمال حمايتك السلمية.. طولي ساعاتي، ومديها.. مديها أبعادا وسلالما بين فتنة جهادي الطويل اليائس وأركانك المعتمدة على الأمل الكبير..
قولي إنني عطار بين جثث الموتى.. أو غارة مستشهدة بين عهد مضيء.. وعالم مظلم.. توارثي مني هذا الموت المقسط في مسرح عتابك الدائم.. قلمي غضبي بين سطحات طموحك.. حرري طقسي، ولوني قبحي من غزو (تتار) جمالك ومحاكم تفتيش بوليسك السري الغازي لداخلي لفهمي ولخيالي، أقصى عناصر قواي وافرجيها بتعابيرك المتناقضة.. وسلسلي إرادتي في سلوك محموم.. لأكون مرآة فحم أسود في سجن عناكبك وقيود عشقك الممدود لشطآني فإنني حامل الذاكرة المعطوبة في فقدك ومشيع آخر فواصل قواسم العزاء في شموع ظلمتي السحيقة..
للشاعر (حسين سرحان)..
دائن جاء يبتغي ايجاره
بعد أن أسبل الدجى أستاره
ومضى العام – شر عام- وقد
ذقنا الزرايا في حارة بعد حارة
كل عام يزيد عما مضى في
أجرة الدار كالرياح المثارة
رب (كوخ) أركانه مائلات
وهو في سمره كدار (السفارة)
المئات المئات ماذا؟ أترمي الــ
أهل من رأس شاهق أو منارة؟
أم ترانا نعود كالعرب الرحل
والناس هرولوا للحضارة؟
بين رسم عفا ونؤى تبدي
وبعير شمردل وحمارة؟
التاريخ: 24 – 03 – 1399 هـ
0 تعليق