حين نقف على حافة الخوف من المفاجآت، فإن هذا الخوف يتحول إلى مقدمة سريعة لعدم الاختيار، أو حتى التحليل خاصة في المواقف السياسية، فإن التفصيلات تأخذ حالة التردد والغثيان، أو الانبهار، والضياع في تخريجات المواقف تبعا لجرعات التلقين الاعلامي، أو الصحفي..
لقد وقف المواطن العربي من هذه الحالة في لقاءات كثيرة فرق نطاق أمله.. حول فحولته إلى طلب خرافي إلى سحرة أو منجمين يتعاطون توليد أسرار العدم والانحسار وتعريب معنى الخيانة.. أي سحب كل القناعات الذاتية وتحويلها إلى تابع أبكم في تسديد ميزة انخذاله وتجميد كل معنى يضاف الى إعادة عقله..
النظام عورة والمنظمون يختلسون العقول، ويبولون في الذاكرة، ويمسحون كل طريق يمكن أن يؤدي إلى علامة إصلاح وجودة.. والمواطن ملحق في دفتر الاحتياطي من التفكير في أسباب تخلفه.. الشرط في بقائه هو أن يعرف التحكم في الأساليب غير الأخلاقية ووضع الصيغ السخيفة والمنحطة في تعليل بقائه ووجوده
الخلاف مع الأشياء ليس له جوهر أصلي. أي ليس هناك تجاوز للمحنة وإنما ترسيب لأثرها وتوزيعها كعقدة أزلية.. المعقولات هو أن يتصور ويقابل كل الكوارث والمواقف بإرادة مسلوبة..
…
ذلك القروي الذي حمل نعشا وهميا ليقبره بين الأموات البشرية ويختلق له اسم «شهيد الصدق» لم يكن يعبر عن حالة مرضية في قريته، وإنما يضع نموذجا صادقا لحالة اجتماعية يمزقها النفاق الاجتماعي ويفسرها بأنها عملية تراض بين الكذب وشطب الكمال الأخلاقي..
لقد وقف المواطن العربي ثلاثين عاما على الأرصفة والميادين يلقن كذب الإذاعة «ومايكروفونات» الخطباء ويلوح بالمناديل المعطرة يمسح بها عرق ساسته، أصبحت كبرياؤه هو أن يميز ألوان الأحذية التي تطأ رقبته، وأصبحت خطواته موزعة بين التطويق الأبدي أو السجن الاختياري.. والبحث في هذه العلة ليس شرطا مطلوبا ومعقولا ولكن لا بد من البحث عن سبب هذا الانشطار والتآمر حتى على وجوده الفردي والداخلي.
إن الأسباب التي تجعلنا دائما في حفلة تأبين نجتر مواويلنا الحزينة هو هذا التركيب غير المتراص في الشخصية العربية ذاتها.. أي أن مجمل مصنوعات تاريخه الاجتماعي هو توريث الخوف والجبن وتوزيع أدوار القمع على كل حالات سلوكه، ولهذا فإن العودة إلى المجرى الطبيعي لهذه النفسية المأزومة تحتاج إلى مقاومة طويلة وصعبة.
لسنا أحسن الأمم ولا أسوأها، ولكن القبول بنرجسية أننا محاضرة دائمة تتلى عن البشرية بعنصر التفوق التاريخي لنا، هو ما يعزي أننا نعايش كل حالات الانفصام والعدم..
والاستعمار الذي نصيغ وجهه كل يوم بالسواد هو مركب نفسي وعقلي مجزوء منا ومغلف بذاكرتنا وسلوكنا والتربية على عدم القبول بالنظام أو احترامه هو واحد من أهم حالات الخلل النفسي في حياتنا.
حين تقوم المبادرة ويتم الصلح الانفرادي بين مصر واسرائيل، لا يعني أن هذا الموقف سهل ولكنه ليس خطيرا لو أن شيئا واحدا قبلناه هو أن نحلل الأسباب والقناعات التي أوصلتنا هذه الحالة من عدم التوازن
خرجت المبادرة من صلب حياتنا العامة ومذيلة بتوقيع غير معلن منا جميعا.. أو هي مجموع صرفيات بنوك تهريجنا الطويل، وانفعالاتنا أمام الأحداث، واسباغ عليها صورة مأتمنا وخيبتنا.. وحشوها بتآمر العالم علينا وتعطيل عقولنا..
لو سألنا ما هي الدروب التي أوصلت عدونا إلى قناعة بعضنا بهذا الحل وما هي الشروط لديمومته وبقائه وردود الفعل الحالية والتاريخية؟!
لقلنا أن حساباته – أي عدونا – لا تنطلق من وهم عام ، أو تدبير عشوائي، بدليل أن انطلاقات المباحثات من خيمة الكيلو”۱۰۱” إلى الزيارات الشهيرة لزعماء مصر واسرائيل وأمريكا للعواصم الثلاث وتوقيع الاتفاقية أخيرا كلها خرجت من جيب الانتصار الوهمي لحرب رمضان، أو هي مقايضة للقبول بأن تحريك قوة هذا الحل بصرف النظر عن نتائجه الحاضرة أو في المستقبل هي رحلة مدروسة بين مختلف الواجهات السياسية الكبيرة في العالم.
إن دوامة الحرب الصينية الفيتنامية وأحداث إيران ولعبة الشركات العالمية في رفع أسعار البترول، وانتخابات الرئاسة في أمريكا إلى جانب الحرب الأهلية في لبنان، هي اطارات عاجلة للإسراع في تنفيذ الاتفاقية.. لكن الذي يسير باتجاه مغاير هو هل ستستمر المعاهدة وتسريبها إلى العقل العربي كقناعة أزلية ودائمة؟!.
لا نتصور أن الشروط التي وضعت للمواطن العربي ودراسة سبل التوجه إلى تطويقه بالتنويم أو التهويل ورضوخه في النهاية إلى قبول المصير المحتوم هو الذي سيكون عليه هذا التخطيط على المدى البعيد، ولا نجد صراحة ما ينفي أن يحول إلى مستودع أحلام لمشجعي المبادرة بأنها ستحول له الطلح والقثاء إلى عنب وزيتون، وتحويل سكن المقابر إلى عمارات تطرز شرفاتها بكل أنواع الورود.
البحث عن حل في الزعيم، وإطلاق كل الصفات عليه جربها المواطن العربي كقبول ذاتي ونفسي بأنه شيخ قبيلة متطور ربما يأتي بمعجزات خرافية..
وحتى التنظيمات السياسية هي واجهة لقبيلة متعددة الأذرع، إذ إن بناءها أساسا هو حصيلة تلقين عشوائي أو ملاذ للاستزلام في حماية حياته وعيشه من التدهور بدليل أن الصنعة العامة للتفسخ السياسي العربي على كل الأصعدة هو السبب في تجويد وترتيل الهتافات أكثر من قبول الجدلية الاجتماعية القائلة بأن التناقض هو وسيلة للتماثل وبأنه حتمية البناء السوي وغير التابع لأي تنجيم سياسي.
كيف نصل إلى مواجهة المواطن العربي بكل تناقضاته؟
وما هي الطرق التي ترتكز عليها إعادة وعيه العاقل لهذه المرحلة؟!
الطريق واحد هو قبوله كمواطن وعلى أرضه وهذا شيء لم يدخل أي مقررات أو لجان سياسية من تاريخ تأسيس الجامعة العربية مرورا بكل الوجوه التي وقعت كل المقررات القديمة والحديثة.
هنا نقول إن هذا هو بداية الخروج من التابوت ولكن هل هناك من يصل إلى قناعة أن المواطن أداة واعية ويمكن استغلالها وتحريرها من هذه القيود؟!
لنترك هذا في البداية ونعود إلى الآثار التي ستنعكس على المبادرة فإذا كانت هي حزام من الأزمات المرسومة فإنها بصورة أخرى تحديد لهوية المستقبل أي يجب أن ندرك أننا سنرى تبدلات كثيرة في أخطر مناطق تزييف الإنسان العربي وهو التسلط الفكري وتحويل أو التخطيط إلى نزع الصفة السياسية عن الاقتصاد العربي وبأنه قادر على تدوير الأزمة إلى منطلقات ايجابية تحاكي العصر غير أنه إذا تمادى التزييف والوصول بالمفكر نفسه إلى محطة التخريب فإن مستقبلا مجهولا سيحصر العربي في إطار الوحشة والترتيب الدوني من البشرية وجعل مستخلصات حياته سواء في التاريخ القديم أو الحديث بأنه مجرد تعبئة اسطورية صاغها هو بنفسه في مرحلة كان الإنسان منعزلا عن أحداثه أو اهتماماته..
إن التبشير أو الإنذار بأن قطرا عربيا كبيرا عرف الأسلوب الحضاري ومارسه كدلالة على عظمته ونسف كل ما هو عربي، لهو دليل تبدل خطير ريما في إحياء لغة تلك الحضارة وبعثها كأسلوب تجديد لمرحلة قادمة وربما يتم صياغة حتى المعتقدات الروحية والسياسية بهذه اللغة العامرة بالإنجازات العظيمة بزعم أن هناك الكثير من سكان العالم يتكلم لغته وينتمي إلى معتقد ديني لا يعرف من لغته إلا ما يترتب على الممارسات غير الواعية لتلك المعتقدات..
“لقد نادي الكثيرون من أمثال سعيد عقل وغيره بتحويل الحرف العربي إلى حرف لاتيني، وكانت تلك الرؤية تنطلق من تصميم اللغة عالميا، وهي دعوى ظهر من خلالها سعيد عقل بأنه جزء من تربية موحشة ضد كل ما هو عربي، بل وقاتل وعنصري وإلى أبعد ما تحمله هذه الكلمات..
وإذا كان الخطر الثاني لا يقل أهمية، وهو محاولة تحويل الاقتصاد العربي برمته إلى اقتصاد هامشي وراء المؤسسات الصهيونية، أو الأمريكية الداعمة لإسرائيل ومن أفق قطر عربي كمصر، فإن المخاطر لا تأتي فقط من تعجيم هذا الاقتصاد.. وإنما تحريك الأفق الداخلي لأصحاب المصالح الشخصية في ذلك وإعادة تطويق المواطن بمجموعة مظاهر طفيلية، وخلق توابع من الموظفين، والصحفيين وتنفيذ كل الأوامر العليا لأصحاب التطويق العربي..
شيء مهم، إن البكاء على ممرات هذه الأزمة، أو تعقيل العقل العربي بمجموعه من إظهار اللقاء العربي في بغداد وكأنه الغاية النهائية، وهو الرد الفعلي على كل المخططات التي ستمرر على الوطن العربي برمته فإن هذا النوع من الإظهار غير المتعادل مع حجم الأزمة.
العودة إلى المواطن العربي وبحث أسس أزمته مع نفسه ومع العالم، والتربية التي عايشها، والتدمير الداخلي له، هي الأشياء التي يجب أن يفتح لها العيادات النفسية لتصحيح مساره في الحياة.
إن هذا الاتهام لا أقوله من محطة العدم والبؤس أو الاسترسال في التشاؤم، ولكن من مجموعة العقوبات التي نتناقلها من سطوية الأسرة والمدرسة والمجتمع الخ. الخ … ومن ترك الأشياء تمر، وكأننا محكومون بالنسيان، وعدم الجدية في صناعة أي مرحلة تاريخية لنا..
الشعوب العظيمة هي التي لا تعاقب مواقفها بالنزوات العاطفية وتتجرد من أزماتها، إنها تضع الأزمة كنوع من المناظرة والدراسة وبحث شروط الخروج بحلول جديدة، وانسان يحمل مهابة وطنه وكأنه مجند جديد يحمل الصحة الجسمانية والعقلية. “
المطلوب هو تلازم إعطاء العقل العربي حريته المطلوبة في سبيل خلق مناخ علمي وتربوي.. ومطلوب أيضا أن لا يغلبنا التشريح المسلط على عقولنا بأننا مجموعة من المستهلكين لهوامش الفكر العالمي، وانتاجاته للتدليل على أننا نعيش العصر..
لقد فشلنا على مدى عشرات السنين في إقامة دورة رياضية على المستوى العربي بأكمله، فكيف سنتفق على الأساسيات الكبيرة للاستراتيجيات البعيدة المدى لتخطيط مجتمع عربي واحد؟!
إن المعجزة لن تأتي من البحر أو الصحراء “إنها منا” وإلا فإن القادمين إلينا سيشربون على قبورنا كل نخب الانتصارات الآتية، أو سنصبح الأمة التي تستحق عقاب العالم..
ومرة أخرى إن علينا أن لا نخاف من أنفسنا، وإن المرحلة القادمة ستكون مريرة وساحقة، وعالم تحضير الأرواح لن يكسبنا دورة جديدة في الحياة، بل إننا نملك كل الحلول متى ما كان صدقنا مع أنفسنا ووطننا هو المثل الأعلى ولن تكون لنا صورة مثلى إلا في الوصول إلى العالم بقوة ذاتنا فقط، والحوار مع العصر بكل جدلياته.
افتتاحية الموت
في كل يوم تنسحب من ذاكرتنا آلاف الذكريات والمواقف، وربما انه لو احتفظ الإنسان بنسبة منها دائمة أحداثها وحضورها في نفسه لربما اختلف في الإنسان أشياء كثيرة. وطبيعي أنه قد قيل أن لحظات السعادة هي اختزان أو تجديد إلى مراحل الشباب في الإنسان.
لقد مرت أيام الطفولة كانفلات من كل أساليب الحياة ولكن انفرزت أيام الشباب كرحلة صعبة في متاهات دورة التاريخ الذاتي، وستصبح الكهولة والشيخوخة حسرة دائمة في ظل تلك الساعات الطيبة.
سألني ببراءة:
- إنني مستعد للتنازل عن ثلثي ثروتي في سبيل إعطائي عشر سنوات من شبابي!!.. قلت:
- ولكن هذا الشيء هو الذي لم يدخل بورصات المبايعات العامة؟.. رد:
- وهل تحرمني من الأماني؟!
لقد حققت ثروتي بهذه السن التي لم تسمح لي بمعرفة أن الثروة مجرد قشرة لا تغطي عجزي الجسماني.. وأصبحت جزءا من مخانق متعددة في سبيل هذه الثروة
صدقني لقد عشت أيام قريتي وكمال شبابي تحت نور القمر أو في ظل النخيل أسعد ألف مرة من هذه الساعات التي أملك فيها الملايين؟.. قلت: - ولكن غيرك يحلم بأن يملك جزءا من هذه الملايين ويعطيك هذا الخيال الرومانسي، أو يبيعك ذكرياته.
ابتسم، ومسح على رأسه الأشيب ثم سحب نفسا عميقا من الهواء.. وقال: - هذه هي حالات التعويض، ولا تنسي أنني أشعر بخيبة أمل كلما تذكرت أن هذه الثروة لا تعطيني أي احساس بالوجود أو التلاؤم مع الناس والحياة..
سألته: وهل يعني هذا أنك تحسد أولادك أن يجنوا متعة بعض أتعابك في جني هذه المبالغ؟
رد: شاعر العربية صحيح في قوله «إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر»!! ونفسي هي أكبر الأشياء التي أملكها ولكنها ليست مثالا للقبول بأن يتمتع غيري بما جنيت حتى ولو كانوا أولادي، وهذا منتهي الصدق مع نفسي، وإلا ماذا تقول؟!
ضحكت وقلت له: - ليكن ترتيب حياتك هو القبول بالأمر الواقع، وكل وسائل محاولة كسب منطق جديد لك هو عبث، وعليك أن تفهم أن الانتظام مع جيل أبنائك هو البديل لراحتك النفسية.
ودعني وعلى شفتيه ضحكة صفراء.
لحظة:
للشاعر أيوب طه
أنا أعيش لحظة حبيبة
يدي على يد التي أحب
سرحت في عينيك تهت
…
الله يا عراش الأمان والنخيل
موجي علي بالظلال
وخيمي على الفتى الغريب
…
لا تطلبيني أن أقول
صمتي كلام..
ورب صمت يا حبيبتي
أبلغ من الكلام
سرحت في عينيك.. تهت
ولذت تحت الهدب بالجفون
التاريخ: 14 – 05 – 1399 هـ
0 تعليق