من أي الأنفاق ستعبر بنا الجامعة؟

آفاق | 0 تعليقات

ليس فرضا – بطبيعة الحال – أن تتحدد الاتجاهات الاجتماعية بفعل العامل الواقعي المحلي وحده، دون النظر إلى التأثير الخارجي، وما يحمله من روح التجديد للواقع الإنساني بأكمله.. إنه لا يوجد على سطح الكرة الأرضية في الوقت الحاضر، مجتمع منطو على ذاته، ومنغلق الحدود عن العالم، حتى القبائل البدائية في افريقيا وآسيا و(النیام نیام) أو ما عرف بقبائل أكلة لحوم البشر، استطاعت حركة الحياة وقوانين الحضارة الحديثة أن تغير من كثير من استعمالاتهم لأدوات حياتهم اليومية.
إن الأرض هي (بيت الإنسانية) وإن تلك الإرساليات التي تبعثها الأقمار الصناعية الأمريكية بلغة الأرض الى الأكوان المجهولة عن مبدأ السلام لهو شعور مبدأي بوحدة مصير الإنسان على هذا الكوكب المتفرد تكوينه عن سائر الكواكب الأخرى، وإن هذا الشعور بالخوف، وإن كان حتى الآن، شعور (ميتافيزيقي)، أي انه احساس بالحاجة الى الأمن الإنساني من خطر ما قد سيكون من العوالم المجهولة.. لكن هذا في الواقع لم يفر من أن نزعة الأقوى هي التي تسود على هذه الأرض وهي الشرط القائم حاليا بتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ مقسومة – ولو نظريا – إلى تبعية الدولتين الأعظم..
من هنا أصبح اكتساب الخبرة والنزوع الى ربط الإنسان بتقنية الوقت لتتكون الفعالية الانتاجية بتخطيط من الدولة صاحبة الشأن هو أعلى المواقف التي ترتبط بها أي خطة طموحة..
لقد ترك الاستعمار الغربي على العالم سلبيات ضخمة قادته الى انتهاج سلوك مغاير لطبيعة الإنسانية، وكون انشطارا عجيبا داخل المجتمع الواحد، وكثف تلك (البيروقراطية) في التعامل في السلم الإداري.. ـأو خلق ما يسمى بمجتمع السيد والمسود ۰۰ لقد أوجدت العمارة الانجليزية في مستعمراتها ما يسمى (بسلالم الخدم) وهي في واقع الحال كانت سلالم أمنية عند حدوث أي خطر في عمارة ما.. ولكن مع الأيام بقي هذا السلم جزء من تخطيط هندسة العمارة في هذه الأقطار وأخذ مفهوما مأساويا داخل المجتمع الواحد.. ومن هنا جاءت المعاناة نتيجة شعور قسري، فرضته رؤيا غير متوازنة مع طموح ابناء هذه الأقطار..
إن التواجد في حضرة المجتمع ليست استهلاك عيوبه والوقوف أمامها موقف الناقد السلبي، إنه التصاق إلى جدار جليدي.. فكون نظام السير خطأ، وطريقة المحادثة في المجتمع الشرقي تبرز الحركات العشوائية وروح العاطفة المتسرعة، وأن الإسراف في الإنجاب لا يتناسب والدخل العام للعائلة، حتى الأزياء الرجالية ليست عملية لإدارة الأجهزة الآلية.. وإذا كانت هذه جزء من العيوب الواضحة والصريحة فإن تجاوزها لا يكون بالخيال أو التصور المقرون بالأماني، أو اقتران هذه الحالات السلوكية أنها حيوات فوضوية واعطاء حكم قسري غير قابل للنقض..
إن امريكا عاشت حروبا أهلية طوال حقبة من تاريخها رغم ما دار من جدل طويل حولها، بأنها لا تركن إلى أي أسس حضارية تاريخية، وهو قول يحمل مجادلات طويلة.. فأمريكا بنيت بقدرات الأوربيين، وكل فرد كان يحمل جذوره التاريخية والحضارية، أي أنه حمل كل مؤثراته الأولى من بلده الأصلي الى العالم الجديد.. وأنه لم يكن مقطوع الجذور.. وبذلك ينتفي ذلك الزعم بالحقائق التاريخية الأصيلة.. اللهم إلا إذا أخذنا بأن المجتمع المتواجد في بيئة واحدة، له تاريخ ولغة مشتركة، أو ما هو معروف بالترجمة للبناء القومي صاحب الأسس المذكورة.. لكن على الرغم من هذه الحقائق، فإن تقدم امريكا وسيطرتها حضاريا على معظم مجريات التاريخ الحديث، حسم ذلك المنطق، وأعطى مدلولا جديدا في الكيفية العجيبة التي أدت إلى انصهار عدة شعوب مختلفة القوميات في شعب واحد وصار نمطا منفردا في التاريخ الحديث..
وأن الهند صاحبة الحضارات الانسانية العديدة لازالت تعيش في القرن العشرين بأعظم مواجهة بالتغلب على مشكلة المجاعة، والتي تهدد قارة كاملة رغم وجود ما يزيد عن أربعين مليون رأس من البقر تسرح بحرية تامة ولا يستطيع أحد الاستفادة منها نتيجة معتقدات دينية راسخة في التكوين الهندي..
وفي الوطن العربي.. رغم كل المؤهلات التي تعطيه حق بناء قوة محسوبة في العالم – فإن التآكل السياسي صار يحفر في ذهنية المواطن العربي ذلك التصور العدمي واليائس بأن القدرة العربية وحدها لا تستطيع من خلال ذاتها أن تتواجد في العالم بصورة أكثر احتراما، وأكثر يقينية بحتمية بقائها وتناميها.. إن الخوض في هذه المشاكل، ولو كانت بحيادية تامة، ودون التفرد في موقف ما، فإن قوة الإقناع لن تكون سهلة، ونحن لم نتوصل عربيا بصنع منهج موحد للعلوم على الأقل دون الخوض في المشاكل التاريخية أو الدينية والسياسية..
وهنا يجرنا سؤال حاد.. فإلى أي حد استفادت الأقطار العربية من قدراتها العلمية والفكرية.. ولماذا هجرة الأدمغة العربية إلى أقطار العالم الواسع.. إنني لا أستطيع إعطاء جواب كامل، رغم الدراسات والمؤتمرات التي عقدت وستعقد.. وإنني سأحصرها على وضعنا نحن ومن خلال تصورات خاصة فقط..
إن أعدادا لا بأس بها من الدارسين على مختلف التخصصات والمستويات يعيش بيننا الآن.. لكن ما هو التأثير الذي أعطته لنا هذه الأعداد.. وما هي الأسس التي تطرحها في مرحلة نحن أشد الناس إليها بالاستفادة من كل كفاءة أو خبرة جيدة.. ليسمح لي الجميع بهذه المناقشة أن أقول.. إن الأغلب من هذه الجموع لاتزال متواطئة مع عالم الأحلام أو أنهم في غياب هذه الأحلام يبحثون عن مجتمع مركب وجاهز لاستقبال السلوك الجديد لذلك العالم الخارجي رغم اختلاف كل الامور وتنافرها بين شعب وشعب.. ومن هنا يبدأ الخطر السلبي في هذه الرحلة الطويلة..
وإن الفوقية في التفكير والسلوك ومحاولة الانعزال – ولو حسيا – عن اللغة الأصلية، واستعمال لغة بديلة، أو لغة الثقافة الجديدة في المناقشات اليومية هي محاولة تعويض بأنه يعيش العصر، ولو أنه في الواقع شخصية لا تطرح جدلية موسعة ومثرية.. أو غير حاضر أصلا في الوجدان الاجتماعي.. إن هذا الانفصال او ما يتخيله البعض بالعقلانية التي لا تتوافق والمنطق اليومي لهو اختلاف في ميزان التربية الأصلية، وانه ظاهرة خيالية للتعويض عن عالم لا يتواجد في الواقع وإنما هو صورة غير واضحة المعالم إلا في خياله..
لقد بنيت المدرسة والادارة بإمكانات متواضعة في البدايات الأولى ومن مفهوم الحالة الواقعية وللتفوق على الحالة الراهنة في ذلك الوقت، مع التصور بأن المستقبل يبدأ كما هو معروف بالخطوة الأولى، لكن المصاحبة الطويلة للنمو في كل المفاهيم، أعطي بعض الابتكارات في التنظيم، وتحسين الحالة الادارية..
إن أعلى المراحل في البناء التعليمي في الجامعة.. لكن واقعنا مع نظم الجامعة، ومع مناهجها، وتلك الأساليب الروتينية القائمة يجعل من السهل التعرف على المناحي التي تتجه إليها هذه الجامعات.. إن الصورة العامة أو الرائجة.. أن الجامعة لازالت قيد ذلك التحفظ على سمعتها، وعلى احتراف تلك المنهجية القاسية والحادة في استعمال الأساليب القمعية، أو على أساليب الأكاديمية الجافة، التي ورثها أكثر المنظرين في الجامعة من الجامعات العربية، أو بعض الجامعات المعقدة في اوروبا.. لماذا لا يكون البحث العلمي مثلا أساسا قائما ويحمل مؤشرات صحيحة في التخطيط لاستخراج كفاءات تدرس كل امكاناتنا البيئية وتعطي تصورا كاملا لإمكاناتنا الزراعية والمعدنية، ومشكلة التغلب على عوامل بيئية صارمة كزحف الرمال، أو تخطيط المدن والقرى، ورصد العوامل الجغرافية ومتغيراتها.. أو بمعنى أدق لماذا لا تكون الجامعة هي أعلى الكفاءات وأغلاها في مجتمعنا.
إن من ينظر إلى التطور من خلال الحركة البطيئة والسكون إلى عوامل الزمن المتغيرة، خاصة في مرافق جامعية ينظر إليها أنها أقوى العوامل في تأسيس خارطة المستقبل، لا يرى تجديدا تصحيحيا في خلق بنية الجامعة أو خلق الحوافز في البحث العلمي التلقائي، والخارج عن الوطنية المنهجية.. لقد تخرج أعداد كبيرة، ولكنهم وهم في الصفوف الجامعية يشعر كل منهم أن مستقبله مرهون بالوظيفة العادية.. أي أن متخرج العلوم لا يتصور أنه بعد التخرج سيذهب إلى مصانع الأدوية \، ولا يشعر المهندس الزراعي أو الجيولوجي أن ميدانهما الارض تربتها وصخورها وطبقاتها.. أو أعماق البحار يدرس هجرة الأسماك والتيارات البحرية أو مصادر البحر من معادن أو طاقات سائلة كالبترول والغاز..
إن هذا الجو المسيطر على عقلية الطالب الجامعي جاء وراثة لنظم الجامعة وللأساليب المستعملة من قبل كل هيئات التدريس.. والتي كثيرا ما تنظر إلى أن وظيفة أستاذ أو عميد أو معيد هي وظائف عادية ولا تحتل المركز المرموق في السلم الوظيفي العام.. بينما الحقيقة أن الأستاذ الجامعي هو الذي يصر على بقاء كرسيه، حتى ولو وصل إلى أعلى وظائف المجتمع الذي يعيش في إطاره باقيا باسمه في الجامعة.. لكن الواقع هو الصحيح.. إن محاولة هجر الجامعة إلى الوظائف ذات الأضواء الإعلامية أو الهيبة الاجتماعية، هي حالة قائمة فعلا وممارسة.. أو هي أماني مطلوب تحقيقها، وهذا بخلاف المنطق السائد في العالم المتحضر..
إن الشعور بهذا التدني مسألة تدعو الى التفكير، وفي تحضير كافة المشاكل، ودراسة مبدأ هذه الهجرة من واقع عيوب الروتين الجامعي، وبحث الحالات المريحة في السكن والأجور، والتأمين الصحي والمستقبلي عند الشيخوخة أو العجز الطارئ، ومن ثم دراسة الجو الجامعي وعدم الشعور بأن أي دراسة ميدانية، أو نظرية جيدة سيكون مصيرها رفوف الأرشيف، وخلق مصاعب ادارية أو تعجيزية لمشروع يمكن أن يكون رائدا نتيجة تصور في تفكير سلطة الجامعة، أو مزاعم أن تحقيق مشروع كهذا هو حد من هذه السلطة، وتفكيك لإرادتها في تنفيذ ما تريد لا ما هو مطلوب ، لتبقى المصلحة الوطنية قضية ثانوية ويبقى معها استهلاك هذه القوى الخلاقة مسلوبة بفعل نظام غير متطور.. ثم عن ربط الكفاءة بالنظام، وتحديد صلاحياتها، رغم عدم كفاءة النظام وتجدده لهو اهدار كبير لهذه القوي وسلبها من تنمية امكاناتها في صنع شيء يعود على الانتاجية العامة في بلد كبلدنا وهو أمر مطلوب، بل ومفروض بقاؤه في أعلى الصور المنظورة..
إنه جزء من تنمية المجتمع في مرحلة حساسة يبحث فيها عن وجوده، وعن مصيره.. وإن الإنفاق الضخم على أعلى مراحل التعليم لابد أن يقابله في المنظور القريب أو البعيد مردود لهذا الإنفاق، ولو على مراحل طويلة الأجل.. ثم إنه لابد أن يكون لسياسة الجامعة تلك المرونة التي لا تخل بمسارها، ولا تجعلها أسيرة قوالب متشككة وخائفة، أو مترددة من خوف عدم الاعتراف بمؤهلاتها في المجال العالمي.
إن التخطيط الصحيح هو ما ينبع من الإمكانيات المتاحة وفي ضوء الحقيقة التي لا تقبل السير وراء المجهول.. وأن الإمكانات التي تطرحها أرقام ميزانية الجامعات لكل عام تجعلنا مشدودين لما ستحققه هذه الأرقام على المدى البعيد والقريب..
مرة أخرى.. أقول.. إن شبابنا الجامعي موزع بين عامل تحت ادارة يشعر أنه جزء منها ومن تطويرها، وآخر لازال في منطقة الحلم، وعالم تحضير الأرواح لم يتفق واقعه مع أحلامه وهم شباب بحاجة الى استدراك بأن الخروج من كهوف العزلة الاختيارية لا يأتي من الإطلالة على المجتمع من خلال وهم التعليم في الخارج الذي لا تهضمه إلا الإدارة المتطورة في تلك المجتمعات.. أو أكثر تحديدا أن يكون الخلاف اراديا وذاتيا..
وشيء مهم.. أن الجامعة هي البوابة التي نرصد من خلال دخولنا إليها، أو خروجنا منها خطواتنا إلى الحياة الحديثة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من مترادفات ومعان.. وبقدر ما تتطور وتنجب يكون حلمنا واقعا.. أو بقدر ما تأخذ وتعطى بإيجابية سخية، فإننا سنقف في
طابور الصفوف الأولى لما سيكون عليه أملنا، وأمل أجيال ستولد على رقعة هذه الأرض..

خواطر عن الصحراء

برغم كل وسائل الحياة الحديثة فإن الحنان إلى الطبيعة شيء أصيل في الانسان، إنه نزوع الى معايشة الوحدة الساكنة الهادئة، والتي لم تدخل بعد مركبات العقل المعقد، إنه الانتشاء بالعودة الى المنبت الأصلي..
أو الأرض الأم، يستلهم مكنوناتها ويسألها عن شئ مفقود في يومه وماضيه.. أليس شاعر المعرة قال:
خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
إن الرحلة إلى عالم الصحراء شيء دائم فينا، وموال تجذب أصواتنا.. لأنها الأساس في تكوين طبائعنا، وجزء من رحلة دامت ملايين السنين.. إنها مجال مغامراتنا وبطولتنا عشناها كجزء من نمو بقائنا.. إنها تفوق وصف جحيم (دانتي) و- الياذة – هوميروس لقد كانت طبعا أصيلا للعربي، لحبه، ومغامراته.. لقد كان الملك الضليل (امرىء القيس) واحدا عاش رسومها وليلها، وحركات نجومها ورياحها:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراه لم يعف رسمها
ما نسجتها من جنوب وشمال

ترى بحر الارام في عرصاتها
وقيعانها كأنه حب فلفل

وفارس (عبس) الفارس المتيم – بعبله -:

أعياك رسم الدار لم يتكلم
حتى تكلم كالأصم الأعجم

يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحا دار عبلة واسلمي

إنها رغم قسوتها.. حرارة صيفها وطول نهاره وبرد الشتاء وزمهريره لازالت رمزا للحب الذي لا تجدبه المواسم.. إنها سفر الأجيال
أو هي القامة الممدودة في الزمن لا تفنى، وتضل المجال اللا محدود لرؤيتنا.. المطر.. عنصر الحياة، وتفتح زهور الربيع، وموعد التلاقح والمواليد الجديدة.. أو هو النماء والخصب للموسم الذي تشب فيه (المغاتير) و (المجاهيم) ومن ورائها “حشوانها” رمز المعاصرة و البقاء ومن نفحات الشيخ، والقيصوم ، ومع هدوء الليل يسرح القلب في وله حار.. إنه التفرغ لمناجاة الحبيب.
واخانة القلب يا عمي
عن لذة النوم قزاني
يا (عيد) لو نقعوا دمي
ما أنساك كود تنساني
ولكن الحب والتغزل بالحبيب ليس حركة عبثية أو مقلدة، إن الحب مربوط بالبطولة، وبأعراف القبيلة، بتلك السلسلة من أدوات الشجاعة.. الحصان.. السيف.. تفجر الحياة في الموت أو كما وصفها (أدونيس)
(شخصية الفارس كما يقدمها لنا الشعر الجاهلي ملتزمة وحرة، متعاونة ومتفردة، جوابة ومقيمة في آن.. ينتظم الفارس في الحياة اليومية وسط الفوضى والمصادفة وينسجم وسط امتداد لا شكل له.. في الليل يأسره النهار وفي النهار يحن الى وسادة الحبيبة.. إنه عشير الوتد والخيمة.. صديق الريح والشمس والمسافات.. في أعماقه شيء دائم يعذبه، ويثيره، يدفعه، ولا شيء يرويه أو يرضيه أو يحده.. إنه رقاص بشري.. فليست فروسيته الآتية الذاهبة إلا نوع من الثأر لنفسه المحدودة في نهاية المطاف، من هذه الطبيعة حوله من فضائها الهائل وفراغها المهيب).
إن الحالات التي ترسمها الصحراء، أو تفرضها.. إن هي إلا حركة القانون الطبيعي للوجود.. إن المصادفات العجيبة قد تحصل، وقد لا تكون شيئا منكرا، أو مستبعدا لذلك تجد الأعرابي في حالة نفور وتيقظ.. إنه يرصد الحركة التي حوله، لأن الخطر جزء مربوط لواقعه، ولأن أي شيء يطرأ على العادة اليومية لا بد من التأمل فيه ومعرفته.. فصوت (النجر) واشتعال النار في بيت ما يعني وجود ضيف جديد.. حتى الإبل لها نفس الرصد والحركة.. إن ظهور أي شبح يعني أنها (ستجفل) احترازا من القادم الجديد.. وفي النهار.. لا بد من معرفة كل (أثر) يطوق بيته.. الحيوانات المفترسة.. الزواحف.
حيوانات الصيد.. أي أنه جامعة مركبة لا تقبل التقليد للطبيعة، ولكنها تسير وفق قانون قاس وحاد.. إنه يراقب عشب الشتاء مراحل تفتحه، ونموه، ثم خريفه وبداية اصفراره وموته.. ثم يأتي موسم الربيع ليكون البقاء للشجرة، لتقاوم قسوة الصيف (النصي.. الصبط) وغيرها.. وتبعا لما ينشره حديث الرواة عن المراعي الجيدة تبدأ الرحلة غير المستقرة.

فمع الثريا والجدي تلك (البوصلة) القديمة الجديدة يكون المسار بصحبة الليل البهيم في البحث عن الماء والكلأ، أو بصحبة القمر.. ذلك الصديق الذي يهل معظم الشهر الهجري.. وتجرى الحياة هكذا.. من الصحراء كل شيء محسوب ۰۰ الوقود من نفس البيئة ۰۰ ومضارب البدو لا بد أن تختار بعناية تحسبا للهواء والمطر أو مراقبة المواشي حين تسرح أو تعود.
وتبقى الحبيبة المتجددة الشباب أو (تموز) الصحراء تلك العاشقة أبدا والراقصة مع الريح تنثر جدائلها بعفوية والتي تعلن دائما حيادها بين البدو والحضر.. تبقى النخلة هي العروس المعشوقة والمحبوبة رمز النماء.. وبحياء تعطى.. وهي كابن الصحراء مغروسة الجذور إلى قاع الأرض..

مقاطع من لحن الأمل

ومع الشفق.. مع قطرات العرق الصغيرة المنتثرة بين حاجبيه يأتي ذلك الهاتف الحائم على مخيلته.. إنه كأي يوم تنتثر فيه الساعات وتعكس صورها على أيامه المتآكلة.. أو كخطوط المساء التي تدفن نعش يوم مضى من أيام أحلامه إنها مزروعة في أوردته، تغرس راياتها في قلبه.. کساقية تنهل من نهر دموعه قطرات ندى تسقى بها زهرة عمره.. وهو.. کعصفور راقد في ظل المساء ينتظر صباحا ربيعيا يفرش على زهراته أجنحته الصغيرة.. لكنه حين يجد الوجد في مواجهته ويبدأ ذلك التعبير الصامت الذي يضيع أي معنى لأدوات التعريف وتتوارى الكلمات خلف حركة لا تسكنها الألفاظ، ويضيع معها كل الوسائط اللغوية.. هنا يقف اجلالا لرحلة الصمت.. يقرأ اللغة التي لم تدون لغة الشفرة السرية للروح.. وفي سكون الموتى تشب الآمال من جديد يستف من غبار أيامه، يمد للأفق نظراته، ويكرر مسح نظارته ليعيد قراءة الحروف المنقوشة على صبحه.. يصرخ بها أن تقول العرف القاطع.. لا.. لينهي ذلك المد الأحمق من الأمل، ويكون (حصة) صغيرة بمقاطعة هجرانه.. إنها مفروشة بعمره، هي الحروف الهجائية الأولى التي قرأ بها الاسم المحفور في تاريخ ميلاده أو النصب الذي سيبقى على قبره بعد الموت.. إنه ينتظرها هاتفا من خلال الأمواج المبثوثة في الوجود، لتهديه حرفا صغيرا موسيقيا يسكنه روحه، ويكون مصباحا يبدد آثار ظلمته، ويزيل تلك الصواعق، والبروق عن نفسه.. ليغالب ذلك الملل، والأرق ، ويفتح نوافذ الربيع في مساحات أمله.. ومن ثم ليغالب ذلك النعاس، وهو يرسم العلامات الخضراء، والأقواس المتعددة الألوان.. ولتكون الكلمات على شفتيه نغمة حب في اغماءة طويلة.

وقفات قصيرة

يا نهري الحزين كالمطر..
أود لو عدوت في الظلام
أشد قبضتي تحملان شوق عام
في كل إصبع، كأني أحمل النذور
إليك من قمع ومن زهور
أود لو أطل من أسرة التلال
لألمح القمر
يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال
ويملأ السلال
بالماء بالأسماك والزهر..
أود لو أخوض فيك اتبع القمر
واسمع الحصى يصل منك في القرار
صليل آلاف العصافير على الشجر..
أغابة من الدموع أنت أم نهر؟
والسمك الساهر هل ينام في السحر؟
وهذه النجوم هل تظل في انتظار
تطعم بالحرير الافا من الابر؟
(بدر شاكر السياب)

لا بأس فأنت سعيدة وقد شعرت بذلك
وعلي أن أكون سعيدا بدوري
لأن قلبي لا زال يحبك
بحرارة كما في السابق ۰۰
حين رأيت طفلك العزيز
شعرت بقلبي الغيور يتحطم..
وحين ابتسم ذلك الطفل الذي لا يعي
قبلته محبة بأمه..
(بیرون)


التاريخ: 03 – 06 –1398 هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *