كيف نخرج إلى الشارع العربي بأدب يمثلنا.. يحمل سماتنا، وأشكالنا، وعينا وواقعنا ؟.. هذا هو مدار أملنا ۰۰ لكن خلق شيء كهذا يحتاج إلى استكشاف هذا الكاتب الذي يملك الموهبة والثقافة، والممارسة الجيدة يستنطق الأشياء ، ويرسمها من عدة مواقع وزوايا ويضع من مواقعه بناءً جديدا يجسد الحس الاجتماعي الذي يعيش فيه .. فالفكر هو التجسيد العقلي للتاريخ، ولذلك لا يخضع لترتيب تفوقي وآخر هامشي.. حيث أن هناك فكرا صفراويا، وآخر سوداويا مميزا لكل قارة.. الفكر وجود فطري لا ينمو إلا من خلال تفاعل الأشياء وتواجدها في محيط يتنفس من رئة صحيحة .. فهو إدرار دائم ولكن (الحالب) لابد أن يكون بأصابع ماهرة تستطيع جذب الحليب..
(مارکوز) كتب عن الإنسان في البعد الواحد، وتحرك من سلفية التاريخ إلى خلفه بمنظور شديد التوتر ، فعقل الإنسان بموجة صوتية واحدة ، ومن علة المنطق التقني صار مسيرا بلا وعي .. إنه مجرد إعلان في صفقة تجارية معروض للبيع بأقساط مريحة ، أو رقيق الآلية الجديدة ، منزوع الغدد إلا الغدة الصماء .. ومع هذا يريك أن بالإنسان (نفذه ) صغيرة لم تلق الحائك الذي يكسيه عن العري ويعيد إليه الهدوء والشبع.. ولكنه لم يعدم من إدراك الحقيقة التي يناضل من أجلها .. فإذا كانت تعابير الانسحاق ، والتوتر والقلق والضياع، واللا انتماء هي الحالة التي تطيع النفس الغربية ، وتريد أن تقسم هذه التركة من الأزمات على البيئات الطبيعية بالكرة الأرضية .. فإن الانسان في العالم الثالث مهموم بالكيفية التي يجب أن يحياها بسعادة…
هذه التداعيات طافت بذهني ، وأنا أقرأ مجموعة الأستاذ محمد علوان القصصية ( الخبز ، والصمت) .. إن الإنسان عنده ليس سابق التصنيع ، أنه منتظم في مدارنا نشاهده من خلال دقات قلوبنا ، ويسرى مع أنفاسنا يفتح في أذهاننا آلاف النوافذ ، ويعرق معنا في وهج شمس هذه الصحراء.. لا يعد لنا مدنا خيالية مفروشة أرضها بالزعفران والمسك ، ولا يعلقنا على مشنقة الأحلام، أو يصورنا كنماذج للأشباح ليهولنا.. إنه ببساطة يدخل معنا كأي تيار يحمل الصواعق والبروق والأمطار ، ولكنه يبشر بربيع جديد يهبنا الخصب والنماء !!
مجموعته – كما قلت سابقا – في أول السطور في نفاذنا إلى خارج بيئتنا المحلية والتي لا تطرحنا للمشاهد أو القارئ بذلك الجيب الكبير الذي ينفق ، بغباء مئات الآلاف من الريالات ، أو كما يصورنا البعض ، أننا نريد أن نفترس العالم بجهالة ابن الصحراء الذي لا يعرف إلا الشبق ، والمظاهر التي تستر عيبه العقلي ، أو كما يرانا آخرون مواقد يحترق بها العقل ، وتسير كمسابقة بدون جوائز تتلى من قنوات محطات ليس لها موجات .. والكاتب لا يصنع معجزة ، إنه استطاع أن يبرزنا كظاهرة طبيعية وعادية ، ولكنها مشحونة بالعواطف وبالغضب ، وبالرحمة والحقد .. أو كأي نفس إنسانية ليس لها اي استقلال عن هذه الحالات ..
ففي ( الطيور الزرقاء ) يعطينا هذا التقارب بين هزة الشاعر العازف وبين زهرة كبرت وذبلت .. (حین تنبت الأعشاب والحشائش تموت فجأة غابة قديمة . كاذبون من يحبني يمنحني في الدقائق الأخيرة باقتين .. من عزاء ( ياليل .. يامردود السهر .. یالیل .. ابنتي الوحيدة وزهرتی .. دعها تشم في الصباح روائح السماء ..) إنه كامن في رائحة الموت .. إن التطهير قد يكون بالنار ليعطي مفعولا أسرع .. ( أأموت مرتين ؟ مستحيل وبعدها أمارس الحياة كأی دابة تعيش .. تأكل تشرب تراقب تسعة أشهر شيئا اسمه الورم .. وبعدها أعيش )..
.. الميلاد ليس فكرة ننطقها . الميلاد تابع بيولوجي وفسيولوجي لا يشكل الكائن ، سویا ، ويرتفع إلى مرتبه الكائن العامل إلا بالمرور بحلقات النار .. والكل يريد أن يحيا ، ولكن بصورة تأخذ درجة كاملة من النجاح أن أي حسم من الدرجة الكاملة هو اشتراط سقوط جدید في المراحل جمیعا!!
هكذا هو الإنسان ، جواد راكض في أزقة القرية ، يغلى روحه على أنوار المدينة ، انه ملتو يرفس بقدميه السراب ، ولكنه يريد أن يحدث وجها يطالعه بعين تجرد الوجود من عمى الألوان ..
الشلل في الأعصاب ، مقاعد الدراسة نعوش مصفوف عليها بقايا عقول ممزقة اليأس مطبوع في الكتب ، والسطور مكتوبة بالقطران ، هكذا هو العالم زجاج محطم السيد فيه من له شوارب فولاذية يغسل وجهه بالزرنيخ والأسيد . الكفن ممدود على القارات ، وخزائن العقول محشوة بالزيت الساخن.. تتابع قلق ، تتكون قصة (السؤال الثالث) إنها الحيرة ، السؤال يعلق في ذهنها ، ولكنها تقدم ورقتها بيضاء .. هكذا هو جواب السؤال الثالث !! الانتظار في محطة الأمل وبدون تعب لا يعوض عن شيء .. إن القصة تترك لنا الحيرة .. إننا نستقبل الأسئلة ولكن ما الجواب؟ المعالجة واضحة ، والربط في لحظة ضيقة من الزمن أعطى القصة شمولا واقعيا ، وهامسا .. إن الصراع مع المعرفة وثنائية العلاقة بين أزمة السؤال ، والتقاط الجواب في ذات واحدة ، هو حيرة هذا الجيل الذي يريد أن يطل على الحياة ، من خلال جواب غیر استعراضي أو مزيف..
.. (في عصرنا هذا مفهوم معکوس لكنه صائب واقع .. فالمعرفة كحادث طبیعی تبدأ بالرؤية وتنتهي بالاقتناع سلبا أو إيجابا ، لكننا لا نملك إلا أن نسمع وهذه تجربة لذيذة للأذكياء الباحثين عن البذرة وليس عن السنبلة ، للمدركين مدلول السحابة الذي لا يمكن أن يوازيه انبهارهم بالسيل)..
العلوان في ( قصص قصيرة جدا ) يتلاعب بأعصابك بطريقة وهج النار إنه يعري الجاذبية من الأرض ، تركض معه وتلهث ، ويتراوح عدوك بين المد الطويل المتتابع وبين الهرولة العادية .. ثم فجاة يقبض عليك يضع الكلبشات في يديك وقدميك لكنه يريد أن يفك ذلك الحزام الأسود في رأسك .. يجرك للمحاكمة مع نفسك ، مع الخطيئة الكبيرة التي بذرت في دماغك .. إنه يحدد لك عبارات مختلفة الثقل ، وعليك وحدك حمل الأمانة بقوة الحق .. يدخل إليك ليرفع درجة الحرارة في جسمك ، ويفجر مسامك لتقذف الأملاح الزائدة الراكدة من فصول الشتاء!!
.. (- ماذا ستقول ؟ لم نفهمك ؟ ألم تتعلم شيئا في حياتك سوى حمل هذه الفرشاة الغبية علمنا كيف نوقف هذه الرمال ؟ علمنا كيف نهزم المرض .. کیف کیف..) القاص يقذفنا بماء النار ، السم والطاعون هما الدواء ، يرمي المحبرة والمرسم على وجوهنا لتصير لوحة طبيعية محمولة كحمل هابيل لقابیل فوق جثثنا لتعرض على المرضى والمجذومين .. اللوحة يتناسل فيها الظلام رغم اللون الأبيض ، ويغيب فيها الضوء رغم أشعة القمر .. الأعرج هو الراقص المبدع ، والأبله جملة مفيدة في هوية الانسان الذي ينشد حماية نفسه .. الصمم عودة إلى الرحم .. لكن ستكون الولادة قيصرية تنجب قردا أعور ، أكل السل رئتيه – الانسان الجماد عند العلوان يمضغ الصدي، إنه كبقايا مائدة شبعت منها الكلاب .. إن قصة ( الجدران الترابية) تطعمنا التراب من خلال لوحات الفنان الذي جاء ليجمع حروفا متناثرة ليصنع منها جملة مفيدة تسد رمق الجوع…
المكان عند انقاص ليس هو مكنب أنيق ، أو شارع أو دکان عطار .. المكان هو المساحة التي صنع منها الجسد ، ليعود إليها كخاتمة حقيقية .. كذلك الزمان لم يكن مجموعة الأزمنة التي توقت للحياة والموت .. إنه مجموعة ما يعطيه لكل الأزمنة القادمة .. ليس الماضي أحد کبائرنا ، ولا هو الحد الأقصى لطموحنا ، كذلك الحاضر أنه الشجرة التي تثمر المستقبل .. وإلا فسوف لا تحمل أي جذور تعطي الزهرة والتفاحة.
.. (ابتسم کالمأخوذ .. ضحك بصوت هامس .. ارتفعت ضحكته .. تعالت حتى ملأت الفضاء .. هستيريا من الضعك تتناوبه بين حين وآخر.. صمت متراکم يرقب بعين ملؤها الفزع تلك الدائرة من الضوء .. تتسع وتكبر.. وهو يتراجع آلاف الخطوات ، يتقهقر ومحيط الدائرة يأخذ في الاتساع.. يهرب لم يجد ملجأ سوی کھف کبیر يتجه النور خارجه يجعل الحياة تتمدد تنمو في داخل الكهف)..
هذا المقطع المشحون من قصة (لا يتفقون ابدا ) الصيحة لا تخرج من الفم إنها مزروعة في العقل، في تعابير الوجه ، وحركة اليدين في الكوابيس السارية مع ليالينا ، الابتسامة قيد التحقيق .. النوم زمنه النهار ، کسوف الوجود مسخ ضوء الشمس ، الانسان يعض الصخر ..( أما الجسد فحينما قفلوا راجعين ، لم يعثروا على شيء سوى شجيرة صغيرة تنمو فوق صخرة عريضة ، كان قد سقط فوقها .. سقوها ماء .. ذوت .. يبست .. ثم هبت ريح نقلت الأوراق اليابسة لتسقط فوق المقبرة)!!
حتى الموت يتم على رائحة الورد ، ووداع تساقط أوراق الخريف .. العلوان ليس حالا ، لكن الحاجة إلى الموت يعني استعداد الأرض لأجنة جديدة ، وبطون وأحلام جديدة هي الأخرى .. وهي الباب العالي الذي يدخل منه الإنسان ليخرج ، ولكن بأكثر عذاب وأكثر تحقق ..
.. ( أليس لك سوى الصمت ، وهو في كل الحالات التراجع الوحيد والهزيمة الفريدة التي يدركها الجميع .. لكنها لا تحسب هزيمة ولا تراجعا )..
.. ( إن أهل قريته ورثوا هذا المرض الغريب .. صواب أن أهل قريته تنتشر فيهم الأمراض بأنواع مختلفة جسدية كانت أو نفسية .. تتعدد .. تختلف .. أما هذا المرض فقد انتشر أشبه ما يكون بصفة وراثية يتناقلها الأبناء عن الآباء .. تحسس لسانه .. نظر إلى وجهه في المرآة .. وفطن أن الأمراض ، إن لم ترثها ، فإنها لابد أن تنتقل بالمجاورة)…
الكاتب ( في الخبز والصمت ) أو عنوان المجموعة .. الشاشة عندة تتسع لأكثر من منظر .. أن الفكر (عربيا) كان . أو في العالم الثالث .. هو الجائع أبدا جائع جسديا وعقليا .. العلوان يمد لنا الأذرعة (من خلال الموج) أن الصوت والكلمة عنده موقف ، أنه يحيطنا بذلك الاستطلاع الخارج من قاع نفوسنا ، لقد شد كل الأوتار وصرخ لكنه تمزق في المدى البعيد .. أن العقدة تصل إلى أكبر مساحة من التفكير بين جيل مرادف للواقع لا يحرکه تیار العضوية البشرية ، لأنه معد سلفا، مقنن الخطوات والتفكير ومتمتع بقناعة أزلية .. وجيل يحمل (لا) الرافضة بدعوى أنه هو الذي يصنع قراره أنه لم يعد اليتيم الذي أعلنت عليه الوصاية من المهد إلى اللحد.. إنه مربوط بقانون التطور لم يعد الفارق الانساني يفرز من نفس القبيلة الموحشة الترکیب .. الإنسان هو محور حركة الكرة الأرضية يزرعها ويحمي أجواءها .. أو يلوثها ويدمرها إنه طرف بمشروع معادلة عسيرة ودائمة الحركة .. لا تخضع لنسبية معينة ، أو مطلقة..
المدينة والقرية هما رمز الأرض ، والانسان الجوال فيهما هو رمز البقاء والتوالد .. إنهما قسمة الوجود ..
.. (الإحساس بلذة العمل ، بطعم التوفيق من بین الأقدام الناعمة المتراصة .. الصنوف تتفرق والأصوات تهدأ . الحذاء الأسود الضخم يعرفه معرفة مؤلمة .. المسبحة الكبيرة تلطم وجهه .. المرايا تتكسر ۰۰ الصابون يتناثر ( مسکین ) تخترق أذنه ، كانت المرة الأولى التي يرى الوجوه على حقيقها ، عارية من كل حب .. رآها مشروخة) ..
هذا الصوت المتقرح من ذات مأزومة وممزقة نقرأه في ( المرآة المشروخة ) العلوان يتداول القيم من منظار أكثر وضوحا .. المأساة تتخلل میزانا بكفة واحدة ، إنه يترك لنا انتظام دقات الحزن تنبعث من بيت الأشباح في داخلنا .. الشفافية التي حبست لسان البطل وشق رأسه ،لم يأت من بعد خارج الكون ، هذا السوط الذي يجلد النفس ويشرخ المرآة لتقسم الوجه الواحد .. تعريه من أشكاله الطبيعية .. إن التعايش هو المنطقة المحرمة عقليا .. الانسان مزروع أمام صفوف من الوحوش الظافرة بانتزاع العيون والقلوب.. وفي قصة ( الجسر ) يكون العبور مستحيلا، لأن الفارق بقدر ما هو مادي ، فإنه أخلاقی .. إن العلوان ، ( وعبد الرحمن الشاعر ) في قصته ( متروك ) يلتقيان بوحدة رصد ذلك الانسان المسحوق على الرصيف ، على الرغم من اختلاف المنهج وتشكيل الصورة وتوزيع الموقف بين الكاتبين .. إن الطفل في كلا القصتين هو الذي يلغي – ببراءته – الفوارق المادية ، ويكسر الحاجز الاجتماعي لأنه لم يتخرج من مدرسة تجيز التفوق المظهري على المعنوي .. إنه اجتاز هذا الموقف بأصالة إنسانيته .. غاية في التوفيق..
الرحلة مع ( القاص ) ليست سهلة ، إنه يتسابق معك على نقطة واحدة لكن الطرق مختلفة ، والسهم يؤشر إلى النقطة التي تبدأ منها الخطوة الأولى ، واللقاء ربما لا ينم ، وقصاصو الأثر يتعاقبون على (الجادة) الطويلة.. والريح تمحو الأثر ، لكن الأقدام تعود من جديد تخط علامه جديدة .. ففي قصته (الجنادب) المواقع تختلف الصراع هذه المرة مع (الوافد) الذي يفصل لنا الألوان ، ويطعمنا نفايات العصر .. الوافد جسم مرفوض .. ( ولأول مرة .. منذ جاء هذا الغريب والناس في القرية التي عرفت بهدوئها تأخذ في التغيير ، فهم لا يملون الحديث عن هذا الرجل ، وكلامه الممتع ، والقصص التي لا تنتهي .. جميعهم في وقت ما يرفضونه ، يهيئون أنفسهم لسؤاله.. المعتدون تقودهم حدتهم إلى الرغبة في طرده .. إزاحة النائب وتنصيبه بدلا عنه)..
وبنفس القلق والخلاف على تفسير هذه الظاهرة الجديدة التي شقت سكونهم وبددت وحدتهم في قريتهم الهادئة بمسلك (العلوان) بالحرامي من رقبته..
.. “ماذا لو كانت المرايا تكشف الخواطر والنفوس والأهواء.. سنحطمها.. أليس كذلك ؟ سنحطمها..
اسألوا أنفسكم ، لماذا ترحل الشمس كل يوم ، وتعود جديدة ناصعة ارحلوا عن هذه الأرض ، اعرفوا قری جديدة ، أقواما جدد ، تجارب جديدة – الجديد لا يأتي ليستعيدكم طالما أنتم أقل منه شأنا ومعرفة ، فليذهب قسم منا إلى الجديد في موطنه اللا محدود ، وسنعود لأرضنا لأنها أحق بالبقاء”..
الغريب محور القلق ، والغلاف الذي يؤطر الصورة لنا بوحشيتها .. والغريب أو (الوافد) هو جهلنا المتراكم وعقدتنا .. انذ بدون أن يكون لنا بصيرة تعكس داخلنا لن نعطي معنى ، وإذا لم نعرف أن العالم يسرق منا الضوء ، يوقف أي حركة في عقولنا ، يجبرنا على التبعية لقيم لا يشدنا لها تاريخ أو مبدأ .. إنه يسلمنا لمظهرية الشكل ، ويتقدم لعزيمتنا على وليمة جهلنا ..
إن عالم الكاتب رغم بشاعته يحمل في عقولنا إشعاعا متحدا بالأمل .. لم يستسلم لضغوط الجوع، أو يعلق الأمل على حلول غير صادقة ..
في «الجوع كافر » لا ينحني الإنسان ، الجريمة قد تصل الى الإعراب عن النفس بشكل درامي وبطولي ، ولو أنها في التقييم العام لسلوك البشر منكرة ومرفوضة، لكنها تظل في مواقع ومواقف كثيرة تعبيرا انسانيا ، أو بديلا مجيدا لرفض الحقارة والجوع .. «لا الدفء ولا الشبع ولا الراحة فقد وصل إلى حد الاكتفاء ، وأنا أبحث عن هذا الفارق بيني وبينهم .. إنهم يخونون بعضهم بشكل رسمي، أنا سرقت الدفء وسرقت الشبع ، كلهم خائنون لأنهم أكلوا لقمتي » … «الناس تصل ، أحدهم يمسك بعنقه .. عينه الوحيدة تجحظ ، لسانه يخرج ، ينتفض ، يسقط على الأرض ، شجاع يهوى على رأسه بقطعة من حديد ينتهي التحقيق ، يحمل بعيدا» ..
وسيلة الاحتجاج هی خرم هذه المظاهر التي كانت سببا في اقتلاعه من قائمة الأسوياء ، الجريمة قد تكون مرادفة لحياة العشق والحب ، أو هي فرح بشع مطعون خارج من قنوات الواقع ..
ومثل ما تكون بشاعة الجريمة ، تنشر الخيانة (كفن) هذا المستسلم الراعف نفسه والمنطوي على الوهم .. في « تموت وحدك» لا يهم أن تعطي معنى لتجسيم الأزمة .. أن تنعزل ، وتغلق مفاتيح ذاتك، أنت شريك في اللعبة وفي صنع تراكيبها .. احتراق الحياة في سلوك غبي وجبان لا يرفع عن رقبتك حبل المشنقة ، الوجبة تملأ أكثر من معدة لكن عناصر الغذاء مختلفة من جسم لآخر.. ومثل ذلك تحديد نوعية التفكير .. الخلاف ليس على الأصل ، إنما على الفروع ، من يفكر أن يعيش يجب أن يحمل كفنه معه .. الأدوار موزعة في المسرحية، ولكن الممثل مجرد ناقل ، وليس فاعلا ، ولذلك يظل التمثيل يجری بعدة أشخاص، وتبقى المسرحية هي الشاهد القائم في الواقع..
البطولة ليست امتحانا شفويا تظهر براعة الطالب ، والمدرس ، الهدف هو الحتمية في المباراة ما بين الموت من أجل الوطن ، الكاتب يزاوج بشكل ناجح هذا المعنى .. «الحب ارتباط رائع .. امتزاج تمثله الممرات والأرض، ليس هناك انفصال .. الإنسان بلا ارض ، انسان بلا حب ».. النظرة أكثر رحابة ، والمضمون الإنساني ممدود في الأفق البعيد .. البطل من أجل ذلك لا يرید أن يبكيه الأحبة بقصائد طويلة تتلی بمواسم التأبين.. البطل ساري المفعول في عقول الناس.. لقد انتصر للفضيلة هذه القراءة القائمة لقمة الاتجاه شرقا»..
أزمة المواطن العربي تتحد أكثر في قصتي « نعيق الغراب الأبيض ، والمطلوب رأس الشاعر » الثرثرة قوت يومي ، والكلمة أحجية .. الخرافة هي الودائع التي استلمناها من الأجيال الماضية .. العزائم تلتصق بنا، الغراب يشيب ، مل لونه الأسود .. البهاق يغير لون الجلد .. أو بداية موت العقل .. هذا الرمز استخدمه الكاتب بشحنة رائعة ، فنحن مسمرون إلى حائط مبكىعربي ، المذياع وصوت المقهى إسقاط لعجزنا .. وبنفس الدرجة .. (المثقف) طاعون ينقل العدوى ، أو (کمفرق في رأس عجوز شمطاء لا يعبره إلا القمل (المثقف ، عربيا ، ممنوع استقباله أو تصديره .. العيون تتابعه ، ويعلن اسمه ضمن محظورات غير مسموح بتداولها !!
وفي بقية القصص التي لم أتعرض لها ، نفس التشابه في المواقف ، والأزمات.. إن العلوان يطرح علينا سؤالا واحدا ، كيف نواجه السقوط في الانسان .. والمعادلة ليست صعبة ، أن البناء لا يأتي إلا من الإنسان، وفي جو حر يخترق حاجز الصمت ، ويتعامل مع قدره بنفسه..
من ناحية فنية ، المجموعة شديدة التركيز على العبارة القصيرة ذات المعني الشمولي .. الكاتب -بإيجاز – يكاد يكون قانونيا في مدلولة ، لقد بتر كل الزوائد التي تعارفنا عليها في القصة القصيرة، ووضع أمامنا لوحة شديدة التجريد .. لقد استعمل الإيحاء .. ليس هناك بطل باسم معين ، وليست هناك شخصيات مرسومة مسبقا .. الكاتب تخلى عن الشكلية في الفعل الماضي الناقص (كان).. بأقل الحقنات يداوي مرضاه ، الحدت واحد ، وإن تعددت الشخصيات..
وهذا منتهى نجاح الكاتب.. العلوان إشارة خضراء لمواقف ومواقع جديدة ، أعطانا الدليل السياحي في عقول العالم ، ويبقى من يقول الكلمة الكفؤ ؟!۰۰
القوى الضائعة في الشخصية العربية
من أي زوايا المرآة يجب أن يطل العربي على نفسه، وبأي جدلية بطرح شخصيته العالم ؟..
باعتقادي أنه لن يكون هناك استراحة هنيئة ونحن نعرف أن العالم لا يتصرف من خلال عواطفه الانسانية في العدل والمساواة.. وإنما كما قال أحد الساسة الإنجليز «ليست هناك عداوات دائمة، ولا صداقات دائمة وإنما هناك مصالح دائمة»، هذه هي الشرعية الأخلاقية في التعامل… ويأتي -بعد ذلك – الفلسفات السياسية التي تتأسس على منطق القوة ومن وضع استراتيجيات حاضرة وبعيدة المدى .. لقد قال «ارسطو طالیس» قبل مئات الأعوام من الميلاد «أنك لن تسبح في ذات النهر مرتين ، وكانت هذه الكلمات في القانون الأول للفلسفات الجبلية الحديثة…
من هنا نقول أن العربي يقف وسط التيار يجاهد من مواقع دفاعية ارتجالية، يضع آلاف التصورات.. ويحتشد في ذهنه آلاف التساؤلات، وتتنافس أمامه مختلف القياسات العريضة والطويلة، ووسط هذه الدوامة يقي شخص غير يقيني، مهزوم من داخله..
ففي العصر الجاهلي كان الانتصار للقبيلة يتجسد في شخص البطل، ويكون التآكل داخليا هي القيم الصحيحة والسائدة.. إلى أن جاء الإسلام كرسالة سماوية عظيمة لتطرح شخصية العربي من مفهوم أكثر حضارية وأكثر تمدنا ، وبذلك تجسدت العقيدة ببناء الدولة الإسلامية وصنعت حضارة لا يزال العربي هي امتداده للعالم ، أو هي شهادة البراءة حتى هذا العصر.. ولقد استطاع الإسلام أن يعطى تلك الشمولية لمفهوم الإنسان .. فحرم وأد البنت، وسلخ ذلك التمايز العرقي حتى أن الفاروق (رضي الله عنه) قال كلمته العظيمة : والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة» !!
وفي العصر الحديث بدأ الإنسان العربي البحث عن حريته .. وكان مفهوم الحرية في البدايات الأولى هو مقاومة الاستعمار، ووسط تغير ميزان القوى لصالح أمريكا والاتحاد السوفيتي انحسر الاستعمار الغربي ، وبقي مفهوم الحرية صراعا داخليا ودمويا، وصار الصوت السياسي يسبق أولويات التغلب على الفقر ، والتأمين الصحي ، وإعمار الطرق والمدن ، أو الضمان الاجتماعي، وأصبح إنفاق الوقت في الجدل السياسي أكثر من ساعات العمل في حقل الزراعة أو الصناعة..
وكان تفسير المجتمع من خلال منظور (ماركس) أو (فرويد) أو (دارون) أو من منطلقات الأحزاب العربية في مفهوم القومية المحلية أو العربية .. والوحدة العربية ، مجرد عناوين تغلف واجهات المكتبات العربية دون محتوى يفسر بعقلانية القرن العشرين مفهوما صريحا يواجه الحاضر من خلال القيم الروحية والقوى الذاتية والإمكانات المادية ، ومن هنا تجسدت أزمة المواطن مع نفسه.. نقابات العمال لم تصبح صوتا مسموعا بالقياسات الديمقراطية المعروفة والجمعيات التعاونية ، والتسيير الذاتي في الزراعة والصناعة لوحات منتقاة من مجلدات الدارسين الأجانب ، لم تستطع صنع الاكتفاء الذاتي اليسير من العيش المتواضع والآمن.. کم سمعنا من صوت الحق صوت دمشق الحرة، صوت بغداد الثائرة .. صوت ، وصوت حروب على الحدود ، وانقسامات داخل مؤتمرات اقتصادية وأدبية .. ومثل ما نسمع بزملكاوي ، وأهلاوي ، وهلالي ونصراوي ، يحدثنا الشارع العربي ، عن الماركسي ، والبعثي ، والناصري والاخوان المسلمون.. (هايد بارك) بمساحة الوطن العربي لكن الفارق أن هايد بارك تظل الكلمة هي أصل الجدل ولكن عندنا يصبح الجدل مرافق للرشاش والسكين ، والمدفع!!
التاريخ: 09 – 07 – 1398هـ
0 تعليق