الاختيار الذي يريد أن يسلكه الكاتب ، هو دائما البعد اللا اختياري في كثير من الأحيان .. ولأنه يشعر بولاء مطلق للكلمة، فإنه يجد أن الاعتبارات العامة تشكل الحد الصادر حكمه بدون استئناف عليه .. لذلك فإنه يضع هذه الحدود كقوة لا تقبل المنازعة ، وتكون درجات الانتباه لديه ووزنها لها كثافة أكبر من الفكرة التي يريد مناقشتها .. ومواجهة مداخلها .. وهنا تكون جملة المصادر من استلهام الفكرة إلى تحديد نوعيتها ، ومداخلاتها العقلية والاجتماعية ، وإخلائها من محتواها العاطفي إلى المنطق العقلي هي مساحات قابلة لإعادة التخطيط والترميز ، وإعادة تركيبها بحيل رياضية ليس لها قانون .. أي أن الكاتب يرى أنه لابد من الحصول على أقل درجات الحماية الذاتية والعقلية.. وهذه الأزمة ليست بقانون بلد واحد، إنها أول المواد في تشريعات دول العالم الناشئة فكريا .. وحتى في بلدان متقدمة ، فإن عصا القانون تطارد كتابا في روسيا وأمريكا وحتى أوربا، فمن اعتقال ( برتراند رسل ) في بريطانيا ، إلى نفي ( سولجنستين ) من روسيا ، مرورا بمحاربة الكتاب السود والهنود الحمر في أمريكا..
الكاتب هو (المرجم) الذي يقذف بالبيض والطماطم الفاسدين ، فإما أن يكون منزوع أجهزة الإخصاب والإنجاب حتى يتوافق مع العابرين بالحياة ، وإما أن يقبل الحراب بدفاعه الذاتي، وكلا الحالتين موقف غير متوازن مع إدراکاته وضميره. وهنه هي ، الانخفاض المعنوي والانساني عند الكاتب العربي خاصة ، الذي طالما ووجه بالانتقاد ، و الاتهام غيابيا لانتزاعه من ديمومة التفكير.. لذلك كانت المواجهة صعبة ، وكان الاختيار أصعب ، وصار الانطواء هو الحالة الصالحة لكل العصور والايام .. أما إذا كان لابد أن تكون أمانة الكلمة شيئا منفردا عن تلك السدود والمتاريس، وأنها – بحد ذاتها – محايدة ، وقابلة للمرافعات القانونية ولو أخذت المعنى المغاير لسلوك خاطیء، أو موقف غير متوازن ، فإن الكاتب سيجد ثلاثة أبنية للأرشيف تسكنها حيوات كل الناس بعواطفهم ومواقفهم الأنسانية وبتتابع هذه الحيوات ستجدك أمام ثلاث أقنية بث تحاصر بقوتها مناحية الفكرية..
• البناء السياسي..
• و البناء الاجتماعي..
• البناء الأدبي..
فالسياسة محكومة بطبيعة نصفية ، أي أن الأخلاقيات هي ترتيلات جوفاء يتزود بها العاجزون والضعفاء، وبالتالي في مجموعة ملاحقات بين قوی غیر متوازنة ولذلك تكون الكتابة السياسية عملا منغوما إلى اتجاهات (تدجن) عمل الكاتب ، فالمصادر التي يركن إليها هي مجموعة قراءات واستنتاجات موحى بها في أكثر الأحوال لتخدم الجهة المعادية ، ولذلك كثيرا ما كان الاستعمار يطرح أبعاده بلغات تترجم إلى مواقف صحيحة كالقرار الشهير (242) الذي صاغه السياسي الانجلیزی (کارادون) وأوقع العرب في حيرة تفسيرات عديدة ، وغير متوافقة على رأی .. أو تكون الكتابة تابعة لشروط أيدلوجيات عديدة مرسومه بخطوط تجعل المواطنة مرحلة صغيرة ، وبالتالي فهي مملاة بآفاق تدلل مواقفها حسب الفرص المتاحة لها.. إن فتح أی مجلة أو صحيفة عربية تنتهج سياسة ما تجدها موقوفة عن أكثر من قطر عربي لتغاير الأنظمة وبالتالي لتبعيتها لنظام غير متفق مع النظام الآخر، والصحيفة والمجلة قد تكون ملزمة بهذا النهج وضع محرريها بقياسات سياساتها ، وهنا كانت أزمة لبنان کأکبر حدث تاریخی عربی صنعت مواقفه وغذتها الصحافة ، ووزعت الأدوار على الصحافة السفارات العربية والعالمية وربما يكون أكثر الكتاب ضحية لمركز معلومات تلك الصحف التي تديرها (مافيا) المنفعة الصحفية..
فالكاتب الأوربي مهما كانت نزعاته السياسية أو الأيدلوجية ، فإن دوافعه تنبع من المصلحة العليا لوطنه ، وإن اختلفت الاجتهادات والتفسيرات ، لكن في وطننا العربی ، الصورة معكوسة ، الولاء لا يزال بروح القبيلة ، أي أنه تابع لمن أعطى سواء بالطرق المادية المباشرة ، أو بالقناعات العقلية أو العاطفية وهكذا صار الشك في صدق الكتابة السياسية العربية غير ذات تأثير في الأحداث العربية بعد 67 إلا ما تخزن في عقل المواطن اللبناني، والذي غذته كذلك. تلك المعارك الطائفية الطاحنة ..
إنه في ظل غياب الحريات السياسية ، وقف الكاتب، في الأعمال الفكرية السياسية بالسوق معروضا للبيع تبعا لتبدلات السياسة العربية المحركة و بقوى من الخارج ، وهنا كان امتهان الكتابة في هذا الحقل مشدودة لطرفين متنازعين ، إما الوقوف بصدق مع القضايا العربية وبحيادية وبالتالي ستكون المأساة هي السقوط في أول سلالم الدرج أو تنهج تنويع الملابس حسب مواسم سیاسة كل بلد وقوة دفعها المادي ، وهذا بحد ذاته، تضليل وعقوق لحقييقة العقل العربي.. وهنا اللا خیار فالأزمة قائمة ، ومشكلتها ديمومتها وتغذيتها ، وأصبح المواطن العربي هو ضحية هذا التلوث الفكري لأنه الأقل ثقافة والأكثر أمیة ، أو بتعريف أكثر دقة ، هو الأقل تأثيرا في مجريات تفكيره أو اختیاراته في وسط هذا الخليط المهين من السياسات التبعية المتعددة .
• ونعود للواقع الاجتماعي العربي .. أنه محکوم بسلاسل طويلة من التطمين أو القمع حتى في أبسط الشروط للحاجات الضرورية ، فالعدالة الاجتماعية مجردة من محتواها الانساني ، أو هي دعوات مذاعه على أشرطة (کاست) معدة قبلا ، ولا تكبر إلا في العقل المدبر.. وأن التصور مثلا لمشكلة الغذاء بسعرات حرارية معينة وبكميات مناسبة من ( البروتين ) أو المواد الأساسية الضرورية هي مشاريع في الحلم ، ولذلك الكل سيعمل على الإصلاح الزراعي ، ودفع معونات التغذية ، والاهتمام بدراسة وفيات الأطفال ، أو التأمين الاجتماعي ضد العجز والشيخوخة .. ولا يختلف عن هذا الناحية الصحية ، أن نسبة الأطباء المنخفضة سنويا عن تزايد السكان في نذیر شؤم على الأرض العربية ، وأن هجرة الأطباء لها مبررها فالطبيب لا يعمل في حقله الصحيح ، إنه معالج وصيدلي ، وممرض وطبيب نفساني ، ومحلل اجتماعی، وبالتالي فهو يموت داخل دراساته الجامعية فقط ، لأن المستشفى العربی هو (وحدة تم بناؤها قبل العلاج بأشعة (لیزر) أو باستخدام المراقبة التلفزيونية أو أجهزة الكمبيوتر للمريض التي أصبحت حالة ضرورية لأي مستشفی ناشیء.. فد تكون الحجة أن تأمين هذه الحاجيات يتطلب مبالغ مجهدة للدولة ، ولكن بنظرة سريعة نجد أن ما يصرف على الدعاية الخارجية من قبل أجهزة إعلام كل دولة يفوق بمراحل بناء المدارس والمستشفيات .. ولا ينفصل عن هذا التعليم أو الإسكان ، أو تخطيط الأسرة ، ومكافحة الذباب والأوساخ وبهذا صارت الثقافة الصحية لا تعيش بحضرة أو عقل مسئول .. وبالمقابل هناك من يبذر بدون حساب على الصعيد الفردي ، أو على شكل جماعات غير مسئولة تضع تحدياتها بنشر مغامراتها في صحافة الغرب کواجهة حقيرة للسلوك العربي .. إن التأثير في ثقافة المجتمع هو الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات المتحضرة ، ولهذا كان انخفاض مستوى المسرح والسينما والتلفزيون شواهد على تخلفنا عربيا إذ اننا نتداول هذا العجز ، وكأننا ننسخ ثقافاتنا الشعبية من دفتر واحد، ونمثلها على مسرح وبشخوص معروفين ، فأصبحت النهاية والبداية ، والعقدة معروفة في الفلم العربي بعد ملاحظة المشهد الأول.. إن مجتمعا كهذا يتداوي بالتعاويذ ، وزيارة قبور الأولياء والبحث في الخرافات عن حلول بديلة للواقع الاجتماعي في حلقات المرض التي ورثناها من الحكم الترکی ، أو مراحل الانحطاط الثقافي والديني..
• ثم يأتي دور المثقف ، أو الأديب على الأصح أنه مجموعة الأزمات ، والأمراض العربية فهو الحلق المتكلم والصاروخ , وهو مجموعة الضمائر المحترقة.. ولكنه بنفس الوقت مشود إلى سارية العواطف المقلة) بالأزمنة الثلاثة ، فهو تخصص بالتشرد وباللعنات منذ تجرع (سقراط) السم وحتی ملاحقات الانتربول الثقافي بالعصر الحديث .. فهو البداية الشرسة لكل حالة مغايرة اجتاعيا أو سیاسيا ولذلك كان الدوام على موقف ما ، يتعدی غرابات ممتهني رياضة (اليوجا)…
ففي التاريخ البشري كله لا نجد عصرا ، إلا وله ضحاياه من المفكرين والأدباء لأنهم الصورة المتشائمة ، والفرحة ، أو هم مجموع النوازع السيارة بين الاعتدال والشذوذ ، ولذلك كان (الكواکبی) رجل عصره بذلك الإيمان الرائع بالله وبوطنه ، وكان أول تبشير بمستقبل عربی جدید ، وكذلك الأتباع من بعده وقفوا على حافة الموت لأنهم أحفاد لشجاعة موروثة ..
إن الأديب لا يختار مواقعه ولذلك نشاهد عشرات الذين سقطوا فتوفيق الحكيم مثلا يعلن في راديو (باريس) أنه يتكلم اللغة العربية لأن اللغة العربية تربطنا بالعرب . نحن من (مصر الفرعونية) ومن متحف التاريخ نرید أن نحافظ على مصريتنا وغيورون عليها .. ( الوطن العربي ) العدد الأخير في 1-6 تموز سنة 78..
إن الأزمة قد لا تكون وجدانية ، إنها أحد مراحل اليأس الذي يغلف المثقف العربي ، فهو يحيا انشطارا خلقيا وماديا ولذلك بقي في آخر سلم الوظائف الاجتماعية . فالسياب في رسائله لا يحمل الألم والتشرد وحده ، إن حالته ضرورة العصر العربي الحديث لأنه عاش مرحلة المواجهة مع ذاته ومع الضمير العربي بشكل قل أن يتواجد حادثة مماثلة له ، ويصر على التعبير بأقصى درجات الألم و الموت .. وبعد موته نقسم الصدقات والأضاحي في بغداد ودمشق والمغرب وكل قطر عربی ..
المثقف العربي في أزمة ، ولذلك ليس له خيار إلا التعابير الممنوعة ، وتبقى الأسئلة كثيرة وملحة.. هل الكتابة وممارسة الفكر عمل غير صحيح ؟ ومتى تكون التفسيرات محكومة بالنص .. ثم لماذا الكاتب هو الأشد خطرا ، وأقل حماية ؟ .. أسئلة ستسيح على الورق وتحفظ في تلافيف الأدمغة، ولكنها تبقى صورة مكملة لأزماتنا .. وما أكثرها ..
الحلم .. ذلك السر الاعظم
ليس المترادف من الأحلام عبر التاريخ الذي يتكون داخله الإنسان هو ذلك التأكيد على مدى قدرته على استيعاب زمنه .. وليست الوحدة المتأملة التي تطغى على عقل الفرد أو عواطفه هي سلوك خارج عن مدار عالمه النفسي ، ولم يكن للأضواء الصغيرة العابرة في لحظات سعادته هي حلول غير مربوطة بوقت ، أو أنها تقتح الذات بغارات ليست محدودة بأی رباط زمانی ومكاني..
إذن فكل هذه المتلازمات في وجود الإنسان ، هي صيع مخلوقة له ، فعوامل الغضب والانكسار لم تكن مجموع أحکام أفعاله ، ولم يكن للانتصارات الكبيرة ، أو التوحد بالفعل وإنمائه هي قدرات خارقة تتوازى م مجموع عمل الأبطال والعباقرة..
فالفرد يسكن داخله مجموعة اختباءات تشكل السر الأعظم لمشكلاته ، ولذلك هي أحد الدروع التي يتكيء عليها في حروبه مع كل ويلات عصره وفروض القبول أو الرفض ، أو إعلان الحياد بينهما لا يحصل إلا بمداخلات واختبارات ذلك السر الأعظم السائح في جمجمته أو المنظم لحركة سيره في سلسلة حياته..
مجموع الصور التي تنتثر في ذهنك ، قد تشذ واحدة منها وتصنع حلما يتحقق في الواقع وتتغير كثافة تفكيرك ، فتضيع تلك الوحدة الساكنة في ذاتك إلى صخب يقفز بمواقعك إلى تغيير درجة حرارة بيتك وسيارتك أو تنتقل إلى أي قارة تلائم طفح عرقك أو قشعريرة جلدك وتنتشر أخبارك على أعمدة الصحف ، وتنقش صورتك على قمصان المراهقين ، وبين دفاترهم ، وتوزع مع دعاية العطور والمشروبات الغازية ، ومعلبات الخضار والفاكهة .. أي يمكن أن تكون (دونجوان) الإعلام الغربي، خاصة إذا كانت لك تلك المتحركات التي ترسم لتجار الشرق بأنهم مجرد ذبائح جنسية تطاردها مجلات التعري في (البلاي بوی) وغيرها..
أو تكون أحلامك شهادة تطعيم ضد اليأس كبطل رواية (تشارلز دکنز) الآمال الكبيرة .. ذلك البطل (بيب) الذي وجد في مستقنع قريب من قريته (مجرم) فار من السجن ، وتكون المصادفة مع الطفل الذي يعده أن يسرق من قوت أهله شيئا له ، ثم تتوالى الأعوام ، وإذا بمن يتعهد هذا الطفل وينقله من مساعد حداد يصنع أحذية الخيول، إلى شاب يفرق من المجتمع اللندني يبذر دخوله غیر المعروفة المصدر ، إلا من ذلك المحامي (الوسيط) الذي يتعهد تسيير أموره من الخلف .. وتكون المصادفة العجيبة التي تغير كثيرا من أقار هذا الشاب السارح بأحلامه وملاذاته حين تدق الساعة الثانية مساءا إذ يطرق باب الشاب (بيب) شخص مجهول ، ويستأذن بالدخول ویکون الحوار جامدا، ومترفعا مصحوبا بالرهبة من ( بيب) لكن الموقف لم يتعد أكثر من ساعات لتنكشف الحقيقة ، بأن متعهد حياة هذا الشاب والباعث على رفاهيته وسلبيته أيضا هو ذلك المجرم الفار والذي أصبح منفيا إلى العالم الجديد ، وصار (مليونيرا ) وقف ثروته على خلق حياة ناعمة للطفل مساعد الحداد من وراء ستار أشخاص مجهولين ..
وأن الآمال الكبيرة عشناها على حكايات ألف ليلة وليلة ، ( وسندرلا ) تلك التي تجذبنا إلى التعويض بالأحلام .. ففي طفولتنا کم شربنا من ثدي (غزالة) الليل ، وسحنا على بساط الريح ، ودخلنا أسرار الدنيا ( بطاقية الإخفاء ) وجالسنا ملكة الجن على عرشها المحروس بالثعابين الطائرة لتدلنا على كنوز ( سليمان ) وأموال ( قارون )
الفقر هو بيئة الأحلام لذلك تجد في المجتمعات البدائية ما یکرس هذه الأشياء ، ويجعلها حقيقة متوافقة مع العقل لتصبح ملهمة الأساطير .. لكن يبقى ذلك السر المختبيء في جمجمة الانسان.. أنه هو الذي يفك الطلاسم ، ويحشر العفاريت ويطوع الإمكانات في الطبيعة إلى موارد في خدمة البشر ومع هذا فالحلم سيد الشعراء والمهمومين ..
شيء من ديوان العرب
وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت
إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي
وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم
إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي
وَلا ذَكَرتُكَ مَحزوناً وَلا فَرِحاً
إِلّا وَأَنت بِقَلبي بَينَ وِسواسي
وَلا هَمَمتُ بِشُربِ الماءِ مِن عَطَشٍ
إِلّا رَأَيتُ خَيالاً مِنكَ في الكَأسِ
وَيا فَتى الحَيِّ إِن غَنّيتَ لي طَرَباً
فَغَنّنّي واسِفاً مِن قَلبِكَ القاسي
(الحلاج)
التاريخ: 07 – 08 – 1398هـ
0 تعليق