قيل أنها السلطة الرابعة، وقيل أنها ضمير الأمة، واتسع الجدل حول الصحافة ، وصارت تخصصا في الجامعات ولونا متغيرا بعدة أهواء ، ولكنها مع ذلك تبقى المواجهة اليومية مع الإنسان، ترسم خطاياه بمترادفات عجيبة ، أو في الدفتر اليومي الذي يسجل الواجبات في فناء المدرسة الكبيرة..
ليست الصحافة عدوا دائما، ولكنها من أخطر الوسائل التي يستفيد منها الراصد العدو ، وليست صديقا ثابتا وغير أناني، ومتفردا بالحقوق .. وأنها مجموعة صعبة القياس تأخذ وتحفظ كل الطرق الملتوية والمشوبة، ولكنها تبقى حبيبا مباشرا أو قسريا ، يعرف تزييف الرموش والأظافر والشعر، والبشرة حسب موديلات الفساتين والأحذية .. أو بمعنى أكثر تحديدا هي مجموعة ألوان الطيف ومجموعة الضمائر الحية الطيبة ، والفاسدة..
الحوار مع الصحافة سيبقى كرحلة مع جحيم (دانتی) عذاب طويل وشاق ، وبرنامج ثابت لا ينقطع من الدفاع والهجوم ، وایراد الحجج الصحيحة والزائفة ، غير أنه لابد من الحديث معها ، ولو من باب قاعدة تصورها هي للأشياء وتأثيرها فيها..
لقد عرفنا الصحافة في بلدنا من خلال تأثيرات شبابنا الذين تأثروا بدورهم إلى حد ما في نشأة الصحافة في مصر ، ولأنها – أي مصر – هي ذات التأثير الأقوی في الفكر العربي الحديث عموما ، وفي الصحافة العربية لأنها عاشت ممارساتها وتقنيتها من الصحافة الغربية السباقة إلى هذا العمل .. وأنا هنا لا يعنيني تاريخ الصحافة ومساهمة الأوائل في إنجابها وتكبد ويلاتها في بلد على أول مراحل تعليمه يكافح الفقر والجهل والمرض .. لكنني أريد أن احاورها من تاريخها القريب، ومدى قوة تأثيرها في الجو العام لرأي الجماهير العريضة ومدى ملاحقتها لحاجياتهم وطموحهم ، وتمثل سياسة متطورة مع الأحداث الداخلية والخارجية بروح عصرية وبمنطق مقبول ينبع من أخلاقیات غير مباعة ، ولا مسترشدة بآراء من خارج مصلحة الوطن..
فقد عرفنا صحافة الأفراد ، وهي على بساطة ظروفها المادية ، كانت فتحا جديدا للقارئ فی الطموحات الصغيرة خاصة في طلبات المدن والقرى واعتماد أسلوب التنبيه لتلك الحاجات كفتح مدرسة أو مستشفى، أو جلب مياه لتلك المدينة أو القرية، أي أن الطابع العام للجريدة کانت المقالة الاجتماعية ، والتي غالبا ما تأتي على شكل رسائل من القراء ، لكنها بذات الوقت لا تهمل الجانب الأدبي أو الخبر الرسمى ،، ولا تعطيه الحساسية التي للمطالب الاجتماعية .. وحتى الجانب السياسي لم تكن تلك الصف تهتم به بشكل تحلیلی أو استقرائي ، فكان مجموع مایکتب عبارة عن عواطف حارة عن الوضع العربي عموما، والاهتمام بشكل خاص بالمواسم السياسية العربية ( كوعد بلفور )، الذي يحتل القائمة الأولى بالرثاء السياسي من قبل شعرائنا أو کتابنا .. ومع هذا وبتلك المسئوليات وقلة الموارد فإنها تعتبر في حينها ذات قوة محسوبة لا سيما وأن الصدق هو الطابع العام الذي يرسم طريق تلك الصحف .. وحتی الإعلان ، وإن كان غالبا ما يكون حكوميا ، فإنه لا يعطى صفة الاستمرار للجريدة ، وهو على قلته ، عامل مساعد مادیا إذ أن كل من يساهم في التحرير هو مقطوع بإرادته ولذلك لا يحصل على أي مكافأة من الجريدة ، وبالتالي فإن مصاريف تلك الصحف تأتي من تكاليف الطباعة، أو الموظف الرسمي والمتفرغ أساسا لهذا العمل .. ومع هذا استطاعت أن توجد مدخلا للاهتمام بالقراءة والتثقيف الذاتي ، وكان الحافز هو ظهور اسم الكاتب بالجريدة ، ليكون محل اهتمام الناس ، وليجد تشجيعا فريدا في المعاهد والكليات أو المدارس الثانوية ، أو من بين الموظفين ممن لهم سبق التعليم والاهتمام بالقراءة .. فالسهولة والعفوية ، وتلك الأمال بتحقيق أولويات الحياة الضرورية هو الهاجس الاجتماعي ، وحتى التجاوزات أو الأخطاء الصغيرة التي تنشرها الجريدة بدوافع انفعالية متسرعة تجد من يقابلها بالمناقشة ومحاولة سد النوافذ وتقريب خطوات الخلاف برؤية واقعية ، ومن مواقع مسئولية بناء الوطن .. وإذا لم أتجاوز الواقع ، فإن من يهتم بالقراءة في أوساط المتعلمين في ذلك الزمن يفوق نسبة القراء في الوقت الحاضر .. فقد كانت القراءة اختبارا ملزما ، وبدافع الحاجة الى رؤية العالم رؤية صحيحة، ومناظرة المثقف العربي ، الذي يجسد بنشاطه اللامنهجي مرحلة متطورة ورائدة في كفاحه ضد التخلف .. وبقدر ما كانت تلك القراءات مقلدة ومحدودة بالنشاط الفكري العربي ، أو المترجم فإنها ضاعفت الحماسة في إيجاد قاريء جيد ومداوم ، ويعمل على تحسين صلاته الفكرية بقدر ما تسمح به ظروفه المادية ، ومن هنا صارت تلك الصحف تعتمد على القارىء وبنسبة التوزيع البسيطة التي تغطي – غالبا – المصاريف المحدودة لها ، كان القارىء هو صاحب الأهمية الأولى ، وجاء هذا لأن الجريدة أنشأت بدوافع أخلاقية وبمبدأ تعميم الثقافة ، تلك كانت تضحية مجموعة من الأفراد يحتفظ لهم التاريخ بالريادة وبالوطنية ..
وبالعودة الى تاريخ المؤسسات الصحفية، والتي لا تزال حتى الآن قائمة على صحافتنا المحلية ، فإن الوقفة معها قد تكون أكثر حساسية لأنها في مرحلة ، الموقف فيها أشد توتر أو أكثر تعقيدا من الماضي ولأن المدركات الجديدة ، وسلسلة المفاجأت سواء في الحقل السياسي ، أو الاجتماعي لم تعد بذلك التوازن الهادىء والقنوع، ولأن الدور الذي تأخذه اصبح بحجم المتغيرات العربية والدولية، وعلى ذلك صار دورها ومسئولياتها أشمل وأكثر أهمية لأنها وبوسائل الاتصالات الحديثة، يمكن أن يكون لها سلطتها في التأثير في المواقف ، والأشخاص لا على المستوى المحلي أو العربی ولكن على المستوى الدولي إذا ما توفرت لها شروط النجاح والدعم والمتابعة المتخصصة التي تركن إلى مصادر جيدة وواعية..
ومن خلال هذا الواقع تبدو رؤيتنا لصحافتنا أكثر حساسية لا من حيث طريقة نهجها أو سیاستها، ولكن من مجموع تصوراتها المستقبلها كطرف هام في خلق بعد اجتماعی محلی ، ورؤية محايدة في تطور السياسة العربية والعالمية .. وبالنظر إلى أنها لم تأخذ هذا الدور بشكل مؤثر أو افعال بحكم طبيعة تكوينها الناشيء، وندرة التأهيل في مهنة الصحافة من شبابنا ، أو لنقل لقلة التجربة وخلق مدرسة مستقلة ومتطورة من خلال رواد محترفين لهم تقاليدهم الصحفية المؤثرة .. لكن هل يبقى الوضع كما هو رغم القفزات السريعة في كل وسائل حياتنا في الداخل، وحضورنا القوي في الخارج ..
القضية إذا هي شمول النظرة وتوحد الإيجابيات وشق خط متوازن مع طموحنا ودورنا في الاتجاهات المتضاربة في المحيط الدولي ، ولكي نكسب احترام الجميع وثقتهم ، فإنه لابد من وجود صحافة ناجحة يتيسر لها الاتجاه القوى في طرح آرائنا وأفكارنا من خلال ممارسات عقائدنا السمحة ، وسلوكنا اللا منتمى وإلى اتجاه مغایر بين القوى العالمية المتصارعة ..
فالتقنية الصحفية ليست هي مجموع أخبار وكالات الأنباء وتعليقات مراسليها عليها ذات الطابع المنحاز ، أو المبهرج بغلالة ماكرة، ومدروسة من قبل أخصائيين في فن هندسة تزييف هذه الأخبار كقولهم : ( تقول مصادرنا الخاصة ) ( أو يقول قادمون من الجهة الفلانية .. الخ ) أن مثل هذه الأخبار ليست ذات التزام أدبي أو أخلاقي ، ولكنها تعمل لتضليل الرأي العام وتترك حيرة منتقاة ، أو قد تشكل هزيمة ساحقة في حالات الحروب بين عدوین لا يملكان المصادر السريعة لمثل هذه الأخبار ، وهنا يأتي دور محلل الخبر ، ورصده للمصادر الأخرى والتعليق عليها بحيادية تامة والمحاولة للوصول إلى الحقيقة أو بعضها بشكل لا يمس سياسة أي من الطرفين المتنازعين .. وهناك الخبر الاستقرائي الذي يدخل في نظرية الاحتمالات ، کالتنبؤ بوقوع حدث ما نتيجة للدراسات سياسية واجتماعية من خلال مجموع آراء متقاربة أو متفقة من متخصصين في تحليل الأحداث ، وهنا ياتي السبق الصحفي ، إذا ما وقع الحنث فعلا ، وكان المصدر في تلك الصحيفة ليزيد التأكيد
بقيمة ما تنشره، وتكون تحت مراقبة وكالات الأنباء، كما يحدث للصحافة العالمية التي تخصصت في شيوع هذه الاخبار..
وبنفس الدرجة من الأهمية ، تلقي التحقيقات الصحفية التأثير ، وكشف آراء المسئولين في أي دولة إذا ما وجد المراسل الخبير في ربط الحدث بالفعل، وانتقاء أسئلة غير تقليدية أو مبالغة ، ومحاولة استثارة ذلك المسئول بالحصول على أسرار جديدة في سياسة تلك الدولة ، ولو كان ذا خط مغاير لسياسة الصحيفة او انتمائها..
ويأتي التعليق السياسی كواحد من أخطر الأساليب في التأثير بالرأي الداخلي والخارجي ، لا سيما إذا كان يجمع بين ملاحقة الحدث اليومي والربط بين الماضي والمستقبل من خلال تتابع الأحداث، وإعطائها تفسيرا إيجابيا ومنظما ، وهذا ما لا يتوفر إلا للندرة من المعلقين السياسيين المشهورين الذين عرفوا بقراءاتهم واستنتاجاتهم السريعة لتلك الأحداث
هنا نقول ماهو دور صحافتنا في كل هذا ؟ بتصورى أنه مهما كانت مصاعب خلق کوادر صحفية أو التغلب على المشاكل الفنية من طباعة وإخراج ، أو توزیع ، فإننا نری أكثر من حدث يهمنا ، وخاصة في السياسة المالية أو النفطية ، مطروح بالصحافة العالمية والعربية أكثر مما هو موجود بصحافتنا .. وإذا كان هناك من مبرر بأن تلك الصحف أكثر انتشارا وأقوى على التعليق والتحليل من إمکاناتنا الموجودة ، فإن مثل هذه الأحداث تھم عالمنا المعاصر مهما كان المصدر ، ومسألة الانتشار والشيوع تحققه وكالات الأنباء العالمية نقلا عن أي مصدر وبالتالي فإن دور صحافتنا من هذه الناحية يكون له حق الأولوية في تبني هذه الأخبار بالتعاون مع المسئولين في الداخل ، وأنا لا أستطيع الجزم بفقدان التعاون بين المسئولين من جهة وبين الصحافة ، وأحمل هذا التقصير صحافتنا لأنها لا تتحرك بجرأة وجدارة وبحدود ما تسمح به السياسة العامة للدولة ، أو ليسمح لى أعضاء مجالس إدارات صحافتنا أنهم لا يتعاملون معها إلا من خلال مساحة الإعلانات التي تنشر بها بغية تحقيق مكسب مادي سريع على الكسب المعنوي وهذه الظاهرة لا أقول أنها عمومية ولكنها واقعة ، وهو ما أحدث هوة كبيرة بين هيئة التحرير من جهة ، وبين أولئك الأعضاء في السباق حول تطوير الصحيفة وجلب أکبر لقدرات الشباب الذين يهمم العمل الصحفي .. فإذا ما لاحظنا أن المكافآت التي تعطى للعاملين بالصحافة وقارناها بأي أجر تعطيه شركة أو إدارة حكومية رغم مشقة هذا العمل وخطرته ، فإنه لا يساوی طموح أي شاب يريد احتراف هذا العمل ، ولو كان متخرجا من كلية متخصصة في هذا المجال ، وهذا بحد ذاته إهدار لهذه القوى التي نحن بحاجتها، وحتى في المجال الفني، فإنك لا تجد سعوديا واحدا يقوم بالإخراج أو الخط أو إدارة المطابع من الناحية التقنية، ومعنى هذا أن المؤسسات الصحفية لا تزال دون المسئولية بواجباتها ، لأن تدريب السعوديين على هذه – الأعمال وإعطاءهم الأجر الذي يأخذه العامل من أحد الأقطار العربية الشقيقة شيء غير وارد صحيح اننا لم نقرأ في يوم ما ميزانية أي مؤسسة للمقارنة بین وارداتها ومصاريفها ، والالتزامات التي عليها ومدى العجز أو الأرباح التي حصلت عليها في كل عام وحجم معونة الدولة لها.. إن هذه من الأسرار الخاصة التي لا تريد كشفها عملا بقوة المنافسة بين صحيفة وأخرى ، ولكن هذا لا يمنع من إعلان مشاريع الصحيفة والتجديد في مستواها وتطويرها بأسلوب أحسن من الرتابة التي عليها الآن..
إن ما طرحته مجموعة تصورات ولكن الأهمية في جعل صحافتنا ذات مسئولية كبيرة وإيجابية أمل دائم ونرجو أن يتحقق بأسلوب يرقي على تصور أن هذه المؤسسات هی مصادر ربح للأعضاء المؤسسين ، وحتي تكبر آمالنا وتتحقق مطلوب معرفة رأي هذه المؤسسات بشكل صريح لأنها تعد من أكبر الاهداف المؤثرة في حياتنا الاجتماعية ، وبالتالي لا يقتصر دورها على الأسلوب القائم
في الوقت الحاضر وتركها تسير كيفما اتفق .. إنها مسئولية صعبة وخطيرة وتتطلب إعادة النظر بشكل جاد وسليم..
الشاهد .. والوصية
وبمثل ما تعودت أن أشاهد الأطياف والأحلام تنسج لي من أهداب الأمل حوريات جديدة ، فإنني لا زلت أحد العابرين إلى آفاقك أرتب فصول حیاتی ، وأطلب موسما ربيعيا تحمل رياحة العطر للكون .. لیست لحظات الشقاء هي التدمير الأزلي ، ولم تكن سنوات العمر لحظات السعادة فقط، لقد سجنت أكثر من اهة ، وتمنيت أن أكون عامودا من ضياء لظلمة ليالي أشغل فراغات کونك المليء وحدة الألم هي التي لا تبلى تسامرني في ليالي الموحشة ، أنقش على سماء ذكرياتي ممرات لك لتعبری في مسافات كخطوة حنان تمس بقایا هيكلي المهدم ، وأنتظر کنسر کسير يأكل حشاه الألم ، وتعبث في جروحه آلاف الحشرات الصغيرة .. ولكنني سأبقي علما ، أو شاهدا يعلق وصاياه على كل الطرقات ، والموانيء ، ويبقى معي شيء لا یزول من حبك .. وسأكون كراهب هندی يدور في أفلاك عائمة في الأزل لا يدرك منها إلا صورا من الوهم في رحلة العمر القصير..
الكحل.. والمدامع
بكى من فراق الحي قيس بن منقذ
واذراء عيني مثله الدمع شائع
فقلت لها يا نعم حلی محلنا
فإن الهوى يا نعم والعيش جامع
فقالت وعيناها تفيضان عبرة
بأهلى بين لي متى أنت راجع
فقلت لها تالله لا يدري مسافر
إذا أضمرته الأرض ما الله صانع
فشدت على فيها اللثام وأعرضت
وأمعن بالكحل السحيق المدامع
وإني لعهد الود راع وأنني
بوصله مالم يعطوني الموت طامع
عمر بن ابی ربیعه
التاريخ: 14 – 08 – 1398هـ
0 تعليق