المترفون.. الاتكاليون!!

آفاق | 0 تعليقات

الحياة خارج القانون الأخلاقي، هي كبرياء غير صادقة، ولذلك فإنها لا تقترب من سلطان الإنسان السوي.. ولا تضع النواميس التي اعترف بها الكون كقاعدة يتعامل بها في حسم
مشاكله، والسيطرة على تناقضاته، ولذلك فإن أي دعوى شاذة تسقط من حسابات المجتمع والتاريخ كرفض واجب، ومعارض لأبسط قوانين الشرائع الأخلاقية..
وإذا كان زوال حضارات تاريخية من الوجود كان من أسبابها الرئيسية الفراغ الروحي، والأزمات الأخلاقية التي أججت الصراعات السياسية والاجتماعية.. وهي العلل في تهديم النفسية الإنسانية لتلك الحضارات..
فالإمبراطورية العربية الإسلامية فاقت الحسابات الكبيرة في سرعة انتشارها، رغم وجود حضارتين امتدت جذورهما إلى أعماق التاريخ فالتبدل كان في الجذور الأخلاقية، وهنا كانت الاستجابة من سكان تلك الحضارتين عقلانية وليست عاطفية.. ولكن بنفس الوقت كان زوال تلك الحضارة ايضا انتكاسة في البناء الاخلاقي، وإهمال في تقيد سلوك الإنسان إلى مثله العليا..
فأمراء الطوائف، وهم البقية الضائعة في الأندلس من الدولة الأموية، ساروا في ولاياتهم عكس منطق الأساس الحضاري العربي، وكان الانغماس في الترف – كما فعل المعتمد بن عباد مع جاريته – هو الذي سهل النهايات لتلك المدنية العظيمة.. ولا تخرج نفس الأسباب من بقايا الدولة العباسية في المشرق عنها في المغرب حتى كان (ابن خلدون) هو الصيحة الأخيرة في دراسة سقوط تلك الحضارة في مقدمته الشهيرة..
لكن الخلاف مع هذا العصر أننا أمام موجة حضارية لا تخضع لتلك الأسباب لأنها تبدلت الوسائل والغايات، وأصبحت الصحوة شاملة رغم تفاوت القوى الدولية، ولذلك فإن الفرص مفتوحة للشعوب الجادة في صناعة وجودها وتغليب منطق الانفعال والتشنج إلى التخطيط الواقعي السليم ذي الرؤية الطويلة المدى والتي لا تقع فريسة الأحلام.. ذلك أن قدرات الشعوب مخزونة ويمكن استثمارها بشكل ينفي عنها العدمية أو السلبية في التنفيذ، خاصة إذا ما رافق أي تخطيط شعور وطني فعال، ومنساق بفعل المصلحة العامة لا المكاسب الشخصية في حصر المسابقات على المصروفات الغبية، أو اللامسئولة!
إن اقتران وضعنا، وإلى سنوات قصيرة جدا بالحالات التي مر بها هذا الوطن وهي أمور غير مجهولة، وليست اسطورية أو جناية من الماضي الظالم الذي تفرد في تذويبنا في الكدح وراء امكانياتنا الشحيحة..
فآباؤنا عرفوا مقايضة جهودهم في العمل في استلام رواتبهم على شكل تمر، وقمح، وسمن ويتغربون سنوات طويلة وراء حمل من الأرز دراهم قليلة.. والأمهات قمن بنفس الدور وأكثر
زرعن ورعين وامتهن كل الواجبات التي تعجز عنها غيرهن، وهن راضيات.. وإذا كان هذا قدر جيل تلك الأيام وأن لكل عصر جيله، فإن هذا الماضي لم يكن بعيدا. أو استهلكناه بمعطيات أكثر حيوية وجدية وتطويرا بكافة وسائل الإنتاج الحديث، وبأخلاقية متوازنة مع هذه الجهود..
الأمر يتعدى ذلك لأن القياسات التي نراها متوازية مع واقعنا أصبحت أكثر حساسية، إن لم نقل أكثر انفلاتا على ما نحسبه رؤية للمستقبل أو تجهيزا لحاضر جيد.. إن الحسابات التي تطرح كل يوم في أزمة أبناء هذا الجيل، أو ما يدور همسا أو علنا هي صور متفرقة التفسير لهذه الأزمة ولكنها ملتقية على ثبات وجودها وتراكمها يوما وراء يوم، وهي أزمة نشأت بالدرجة صحيح ونافذ إلى حياة عصرية وجادة..
فإذا كان الطفل الذي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره يقود سيارة برخصة مؤقتة (بموديل) كل عام، وهو لا يدرك مسئولية أنه أعطى سلاحا لقتله أو قتل وتشويه الآخرين.. أو من يتجاوزه بهذه السن كطالب ثانوية أو جامعي فإن السؤال الكبير أمامه.. لماذا أدرس، ومجموع ما يصرف علي شهريا يفوق دخل موظفين اثنين من أصحاب المؤهلات الجامعية؟!
وإذا ما أخذنا بافتراض أن هذه الأعداد أحادية ولا تشكل العنصر الأكثر في مجتمعنا، فإننا نعود لما هو أهم وأخطر.. فتوفير سيارة وجناح كبير في البيت الكبير وكل المتطلبات التي يرى الأب أنها أمور تتفق والمستوى الاجتماعي للجار والصديق وابن العم، وأن ابنه لا ينقصه المؤهلات التي يستحق بها هذه المكافأة حتى (لا يتعقد) أو يشعر بالغبن أمام أقرانه، فإن البيت السعودي أصبح أكثر رخاء في الانغماس في ترف زائد عن حاجة مجتمع في أول درجات التقدم في دائرة الدول النامية..
وإذا كان منزل لأسرة متوسطة العدد مجهزا بكافة المستلزمات الضرورية والكمالية، كوجود سيارتين للأب والابن و (فيديو) وسخانات
الأولى من ارتفاع الدخول المادية الكبيرة لشخصيات لم تستوعب خطورة التصرف بها، وتوجيهها بوجه..
.. كم سنوفر على الدولة، وكم سننجز في وقت قريب عمل نخاله خياليا، وكم سيكون المردود الاقتصادي على هذا الوطن؟
في بلدنا – وبكل براءة – نأخذ أكثر مما نعطي لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي ولنسأل مرة أخرى..
كم مستوردات المملكة من السيارات، ولماذا يحصد هؤلاء التجار من دمنا الأرباح ولا يعطون للوطن أبسط شروط الوطنية ؟. من منهم من أعطى مدارس تحفيظ القرآن، أو معاهد الصم أو معاهد النور جزءا من (الاتوبيسات) المستوردة كمواصلات لهؤلاء واقتطاعها من الأرباح الهائلة المستنزفة من المواطنين؟. ومن من تجارنا أصحاب السمعة الطيبة في الخارج، من تبنى دارا للأحداث أو اقتطع جزءا من هذه الثروة في تشغيل أصحاب هذه العاهات واستثمار جهودهم بدلا من الصرف على أجهزة ومكيفات ومكانس كهرباء وأثاث عصري للمطبخ والحمام وغرف النوم والصالونات، وبمساحة عادية لا تتجاوز المائة وخمسين مترا مسطحا ولعائلة لا تتجاوز الستة أشخاص.. فإن هذه الأسرة تطالب بسائق للعائلة ، وخادمة للمطبخ ومربية للأطفال وبحساب بسيط أضفنا ثلاثة اس أشخاص دفعة واحدة لأسرة عادية ..
ولو تواضعنا بأن مجموع ساعات العمل لهؤلاء الثلاثة لا تتجاوز خمس ساعات كحد أقصى للفرد الواحد، بمعنى أننا وفرنا على كل واحد من هؤلاء ساعتين بموجب عقد العمل الرسمي ، وخلقنا ، إلى جانب اقتطاع جزء من دخل هذه الأسرة ثلاثة أفواه آكلة ولابسة ومزاحمة في المرور وقطاعا نصف عامل ومستهلكا لجميع المواد المعانة وغير العانة ، ومعه أوجدنا عائلة اتكالية تستطيع توفير هذا العمل بنفسها وبأبسط الوسائل الحديثة..
ونحن لا نستغرب أن يكون في الغرب الابن طاقة عاملة حتى في السنوات الأولى ، فهو يساعد على حديقة البيت وتنظيفها ، وغسل سيارة واحدة بموجب أجر هو ميزانيته اليومية ، وإذا ما تعدى سن الثامنة عشرة فإنه في بيت والده مجرد أجير يدفع من راتبه أجر سكنه ومأكله وملبسه ، ونحن لا نقول أن هذا نظام مثالي يجب اتباعه ولكن نقول انه شيء يغني تجربتنا ويمكن الاخذ بالأشياء الصالحة فيه المسيرة مجتمعنا..
ولو فرضنا أن هناك عشرة آلاف أسرة تتمتع بهذه الامتيازات – إن جاز التعبير – وكان متوسط من يخدمون هذه الأسر اثنين .. فمعنى هذا أنه يوجد بيننا عشرون ألف عامل بدون عمل صحیح وإذا ما فرضنا أن متوسط أجر الواحد سبعمائة ریال فإننا نصرف من دخل كل اسرة (1400) ریال شهريا وبمجموع أربعة عشر مليونا من الريالات شهريا أيضا .. هذا عدا السكن وصرفيات الماء والكهرباء والعلاج .. الخ ..
ثم ناحية أهم ، ما هي وسائل التربية التي تتركها المربية الهندية ، أو الفلبينية أو حتی بعض العربيات ؟.: وعلی أي فلسفة تربوية سيصير عليها نشأنا في المستقبل ؟ هل ستبقى الفتاة تهتم بالأحذية الإيطالية والملابس وأدوات الزينة الفرنسية والأمريكية ، وأن غسيل أواني المطبخ یکسر أظافرها ، ورائحة الثوم والبصل والزيوت تطبع ثيابها برائحة مقرفة ؟!
أنا لا استبعد أن يكون من بين فتياتنا من تزدري هذه الأوصاف ، ولكن الكثير منهن لا يمارسن أي عمل اللهم إلا قطع الوقت في مشاهدة الأفلام ، أو الأحاديث المملة الطويلة .. ولكن إذا عرفنا أن معظم فتياتنا -وخاصة المتعلمات منهن – بدون عمل فلماذا لا يكون هذا العمل البسيط جزءا من توفر عامل مضاف إلى الأسرة ، وتحریكا لقوی مهملة .. ثم لماذا الشعور بالفوقانية بجلب الخدم والشعور فقط على إعطاء الأوامر ، ونحن بحاجة إلى تحريك طاقاتنا وتعويدها على ممارسة الواجبات الشخصية الصغيرة ؟
وإذا كان هذا القصور محسوبا على الفتاة فهو بنفس الدرجة محسوب على الشاب بحدود أكثر حدة وأقوى مسئولية .. فمن بين عشرات الشباب من هو الذي يعرف خارطة ( التلفون ) أو المياه أو الكهرباء في مدينة الرياض ؟.. ومن منهم من يستطع إصلاح ماسورة مياه في بيته أو مكتبة أو مدرسته ، أو تبييض ثلاث غرف في منزله ؟ أشیاء كهذه ليست خطيرة ولا مضنية .. ومن هنا كان السباك والكهربانی والعامل المیکانیکی أکثر کم من حامل شهادة البكالوريوس أو الليسانس ، وهي أعمال – للأسف – لا يمارسها منا احد !

ولو ركبنا قطار الأمل واستعد الطلبة والموظفين بتبرع ساعة من يومي الإجازة في مساعدة الفلاحين في صرم النخيل ، أو غرس أشجار بحدائق الشوارع أو مد خطوط الكهرباء..
الإعلام هناك ؟
ومرة أخری کم نصرف على مستوردات العطور وغرف النوم الفاخرة والفضيات وأجهزة العرض التلفزيوني.. ونحن بحاجة إلى مشروع ألبان واستثمار أراضی الافلاج والمنطقة الجنوبية من المملكة، أو مكافحة الملاريا أو الأمية في صفوف الأسر الفقيرة..
• لماذا مثلا لا تقوم الشركات المستوردة والمستفيدة من العمال بتأمين مواصلات جماعية لعمالها، لتوقف استيراد السيارات بالكميات الهائلة التي خلقت لنا أكثر من مأساة ومشكلة ؟ ولماذا لا يتوفر التأمين الصحي لنوفر على مستشفياتنا الضغط الذي كان سببه بالدرجة الأولى هؤلاء ؟
• ومتى تكون شروط القيادة أن لا تمنع رخصة القيادة إلا لمن تعدى سن الثانية والعشرين عاما؟ وتقنين سيارة لكل أسرة متوسطة وسيارتين لأسرة كبيرة ؟.
• وهل سيكون من بين المناهج دروس في التعليم أتمنى تكون شرطا أساسيا في الانتقال من مرحلة لأخرى ، وبدونها لا تحسب درجات النجاح ، أو على الأقل إتقان مهنتين أساسيتين لنخلق جيلا عاملا يتساوی وطموحاتنا في التنمية؟..
• ومتی سننزع هذه الرخاوة عن شبابنا في التجنيد الإجباری كأي بلد فرضت خدمة العلم وعلى كل شاب ، وتفتيت هذا الفراغ الذي أصبح جزءا من مخالفات المرور ، والتسيب في الدراسة والتقليد الضال لكل الانحرافات التي تفرزها وسائل النشر الأوربي ؟
وأخيرا لقد عشنا حياتنا السابقة بأقل حالات القلق والتوتر ، وبأكثر ترابط اجتماعی.. وكانت وسائل مواصلاتنا بسيطة كحياتنا ، وبيوتنا وملابسنا وفرش منازلنا من منتجات بينتنا..
والآن أصبح ثلث وجبة الغداء يرمي في برميل الزبالة ، وصار شبابنا يعرف شركات الطيران ، وملاهي الشرق والغرب ، واسطوانات المطربين والمطربات أكثر من حركة العرض والطلب في السوق البترولية العالمية ، أو المساحة المزروعة من المملكة..
وهنا نقول أنه لن يسكن معنا في عقولنا وجلودنا ولا في أخيلة شعرائنا ، أو خرائط مهندسينا إلا أنفسنا ، وأن الترف الذي نعيشه لن يكون وضعا دائما ، وكل المظاهر التي نتقلدها ليست إلا فقاعات صابون وطيوف وأن البقاء للعاملين المدركين، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه ، ورحم الله الفاروق العظيم الذي قال : ( والله لو عرجت شاة في أرض العراق لكنت مسئولا عنها )..

فراغ .. ولكن لماذا؟

الملل من الكتابة ، ومن رؤية أي صفحة جادة ، أو قراءة كتاب في السلالات البشرية أو علم طبقات الأرض ، أو حتى قصة ل (همنجوای )، أو ( دکنز) غیر وارد لأنه ليس هناك وقت ، والفراغ الذي يقضيه معظم شبابنا عند مشاهدة ( ستيف ) أو تمرين كرة قدم أكثر من ساعات الدراسة والعمل..
الفراغ في عطلة عيد الأضحي مشكلة عويصة.. وأكثر منها العطلة الأسبوعية التي أصبحت تمرینا جيدا للبقاء في البيت يومين بلياليهما تمارس الملل ومصارعة شقاوة الأطفال ، والصبر على البرامج التلفزيونية ، أو علك الأحادیث المعادة مع الأصدقاء التي تتكرر وجوههم يوميا..
في المناطق التي تحفها شواطىء البحر كالشرقية والغربية ، قد يكون البحر مدعاة للتسلية ، والهروب من صخب المدينة ، واستفزاز طرقها وشوارعها وزعيق أبواق سيارتها..

وفي القرى والمدن الصغيرة اللجوء للضواحی أو الصحراء أو الجبال شیء سهل، وقريب والعلاقات العامة أكثر انتظاما والزيارات العائلية بسيطة وسهلة وغير معقدة ..
الرياض الحبيبة أصبحت قسوة العطلة فيها أشد لأنها منطقة تجمع كبير من جنسيات عديدة ، ولأن مجالات الفسحة فيها نادرة وبعيدة ومخاطر الطرق أصبحت ترعب حتى من لا يحمل قلبا..
في الماضي القريب كانت تلال رمال ( المعيزيلة ) کازینو مجانيا لكل سكان الرياض ، وكان غزل الصحراء في الليالي المقمرة صيفا ، أو عصریات أيام الشتاء من أجمل الساعات التي يدفن فيها الإنسان ملل المدينة ، ومفارقاتها .. ولكن المعيزيلة انتهت ، وتناهبتها حيطان المنازل الحديثة وصارت جزءا من خارطة مدينة الرياض الحديثة…
وأيام الربيع في الأيام الممتعة في كل وسط الجزيرة وشمالها .. ولكنها خاضعة لانواء غير مضمونة 0 وبالتالي فان الربيع في الرياض رائع وممتع ولكن الربيع خاضع لارادة الله وقدرته .. وبالتالي هل الرياض أصبحت بدون رئة ؟ .. والشعور بالفراغ أمر كلنا نتلاقي عنده ، ولكن ما الحل ؟. أنا لا أجد جوابا ، ولكن إجازة يومين ، وفراغهما رهيب ، ومن لديه ما يطرحه أو يقوله فليسعفنا ، والجزاء من عند الله ..

لیت

يا صدر امی
ليتني حجر على أبواب قريتنا
وليت الشعر في الوديان ماء أو شجر
ليت السنين الغاربات ،
حكاية مرسومة في نهد راعية عجوز
ليت السماء قصيدة زرقاء
تحملني إلى المجهول ،
تغسلني من الماء – التراب
ليت القلوب ترى وتسمع ،
والعيون نوافذ مسدودة ،
من لي بعين لا ترى ،
من لي بقلب لا يكف عن النظر؟

( د. عبد العزيز المقالح )
( شاعر یمنی )


التاريخ: 29 – 12 – 1398 هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *