في ميلاد كل عام هجري تجرى الاحتفالات والخطب احتفاءا بهجرة الرسول الأعظم من مكة إلى المدينة وإذا كانت الذكريات في البلدان العربية، إما لإثارة الحماس في الخطب والقصائد العصماء أو في البكاء على فقدان الفردوس المفقود في الأندلس، وضياع دولة العرب والمسلمين من حدود الصين إلى أواسط أوربا، فإن هذه الذكريات رغم عظمة موقعها من التاريخ لا تزال أسيرة مجاملات التاريخ – إن جاز التعبير – فهي لا تحمل أي نفس للحاضر اللهم إلا محفوظاتنا في المدارس من قول الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة.. إلى آخر القصيدة وأغنية محمد عبد الوهاب الشهيرة..
أخي جاوز الظالمون المدى..
وكان العرب المحدثين كأجدادهم السابقين ممن يعلقون السيوف في الأشهر الحرم ليجتمعوا في سوق عكاظ للمبارزة في عظمة غطفان، أو ثراء قريش، أو أصالة وبسالة عدنان.. نفس الحاضر يضغط على رقابنا ويسمر عيوننا..
فمن عصر الاستقلال للدول العربية من الاستعمار التركي، ومن بعده الانجليزي والفرنسي ونحن نتعايش مع بطولة الزعيم الذي ننتظر منه المعجزات..
الثورة العربية الكبرى، انتهت من قيادة الحسين إلى انتصار لشاذ هو “لورانس العرب” صاحب كتاب «أعمدة الحكمة السبعة»..
والأمثال كثيرة من الزعامات العربية من عرابي، وسعد زغلول في مصر إلى رشيد عالي الكيلاني، وعبد القادر الجزائري، وعدنان المالكي وغيرهم..
التاريخ لا ينكر الأدوار التي قام بها هؤلاء.. ولكن الفارق كبير حين نرى مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن الداخل، وطارق بن زياد وخالد بن الوليد وغيرهم.. فالفارق أن الأولين يعيشون على مشاعر شعوبهم العاطفية المفرغة من أي منهج لقيادة الصراع العربي..
بينما الآخرون قادوا شعبهم بتصور أوضح وعقيدة صارمة لا تقل عن تجريد أي انتصار فردي وطبعه بطابع القدرة الكبرى للإرادة الإلهية والشعبية.
من هنا كان دور الزعيم والقائد وظيفيا، وليس تطلعا ذاتيا ندو زعامة انفرادية، ولذلك لم يعب التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما عزل خالد عن قيادة الجيش في أوج فتوحاته خشية من انفراده في هذه الزعامة..
القيادة في الشعوب المتخلفة سلاح خطر إذا ما استقلت في تسيير كل وسائل الإعلام، ونشيد المدارس الصباحية في تشييد عظمة فارغة لهذا الزعيم، بينما الجوع والمرض، والتخلف الصناعي والتعليمي هي التي يجب إعلان حالة الطوارئ عليها، وانتزاع هذه الشعوب من مرض عظمة زعمائها..
لقد عايشنا زعامات عربية حديثة فرشت البحر بالزعفران وغطت الصحاري بالفاكهة، والخضروات والقمح والشعير ومراعي الأغنام والابقار، ونصبت صواريخ وبنت سفنا وطائرات، وكان “الزعيم الأوحد” الذي نصب المحاكم لكل الشرائع السماوية، وسفح دم شعبه، وآخر يريد اختصار القرآن الكريم، ويعدل في العام الهجري إلى باقي القوائم التي بأسبابهم سقط حلم قذف إسرائيل في البحر إلى هزيمة 67!!
لست أدري لماذا عند أي انقلاب عسكري، أو أي حادثة مشابهة ترفع برقيات التأييد من نقابات العمال والجيش والطلبة والموظفين.. بينما كان تشرشل بطلا في الحرب العالمية الثانية ويأتي للندن ليعانق السقوط في الانتخابات العامة. ويموت “هوشي منه” وسط المعارك ولم تهتز عسكرية “جياب”.. ولا أعرف لماذا لا تبعث برقيات التهاني من كافة شعوب العالم “لنكسون حين هبوط أول إنسان على القمر، أو لخروتشيف) حينما سبح أول رائد في الفضاء ما فوق الجانبية!!
الأمر بسيط.. إن النتيجة هي تحقيق شعب بأكمله، وليست عطاء زعيم، مثل ذلك ثورة الجزائر.. البطل فيها هو الشعب رغم عشرات الزعامات والقوى المتصارعة وغيرها الكثير من غاندي ونهرو في الهند إلى ديجول في فرنسا..
لكن يطرأ سؤالا حادا. هل الزعامة العربية جزء من تكوين الشخصية العربية العاطفية، وغير المتوافقة نفسيا وعقليا مع الفرد العربي؟ أم أن الأمر يتعدى ذلك إلى الأهم، وهو أن التاريخ العربي كان دور الزعيم فيه أقوى من الشخصية العادية الشعبية؟.
في كلا الأمرين لا بد من الاحتكام إلى الماضي والحاضر بغض النظر عن منطق «حضارات سادت ثم بادت » ولكن بمنطق التجربة العامة للحضارة العربية عموما.
فإذا كان “نيرون، وجنكيز خان” ناتجين بربريين نسفا الجهد البشري كله في عاصمتين حضاريتين هما بغداد وروما، فإن عظمة التاريخ العربي الإسلامي، شاهد على خلق أجيال من العظماء قدوا قميص الجهالة من البشرية ولكن أمام تحديات نفسية ذاتية، أي بإنكار الذات أولا.. لنقرأ ما يقوله «جواهر لال نهرو» في كتابه لمحات من تاريخ العالم..
“كان أبو بكر وعمر رجلين عظيمين وقد وضعا الأساس الذي بنيت عليه عظمة العرب والمسلمين، وكانا خليفتين يجمعان في يدهما السلطة الزمنية والسلطة الدينية معا، ولكنهما، وبالرغم من عظم المنصب وقوة الدولة، زهدا في متاع الحياة الدنيا بما فيها من أبهة، وعظمة، وهذه هي الحياة الديمقراطية الإسلامية الحقيقية التي وضعها الخليفتان موضع العمل.”
ثم يستطرد.. «وقد رويت قصص عن قيام أبي بكر وعمر بتأنيب الولاة على تبذيرهم وترفهم.. لقد أدرك الخليفتان أن قوتهما تكمن في الحياة الخشنة الساذجة، وأن الانغماس في اللهو والترف السائدين في إيوان كسرى وبلاط القسطنطينية سيفسد العرب، ويزيل ملكهم»…
وإذا كان قد خلفهما في الدولة الخليفة الزاهد عمر ابن عبد العزيز. وواصل مشوار العمل والزهد والانتصار إلى حقوق المظلومين، فإن بدايات هذه الدولة العظيمة كانت على يد عظماء بحجم القيادة والمسئولية، على أن الانتصارات والفتوحات الكبيرة وقيام كيان حضاري قد لخص سقوطه ابن خلدون في قوله: –
۰۰ «واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية، كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلب على الأمم، تزايد الحامية وتكاثر عددهم فما تخولوه من النعم والأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أمية، وغلب بنو العباس، ثم تزايد الترف ونشأت الحضارة، وطرق الخليل، وضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية، المروانية والعلوية، واقتطعوا ذينك الثغرين من نطاقها إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد، وظهر دعاة العلوية في كل جانب، وتمهد لهم دول، ثم قتل المتوكل واستبد الأمراء على الخلفاء وحجروهم، واستقل الولاة بالعمالات والأطراف وانقطع الخراج منها وتزايد الترف.
وجاء المعتضد، فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة، أقطع فيه ولاة الأطراف فأغلبوا عليه مثل بني سامان وراء النهر، وبني طاهر العراق وخراسان وبني الصفار السند وفارس، وبني طولون مصر، وبني الأغلب افريقيا.. إلى أن افترق أمر العرب، وغلب العجم، واستبد بني بويه،
والديلم بدولة الإسلام.. وحجروا الخلافة وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر، وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه..
ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء فاحجروهم إلى أن تلاشت دولتهم..
واستبد الخلفاء ضد عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين، وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولي بن دوش خان ملك التتر والمغل، حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان من أيديهم من ممالك الإسلام». «دراسات عن مقدمة ابن خلدون (للحصري) ص 384، 385″.
وإذا كان هذا التلخيص التاريخي يعطي أبعادا نافذة إلى تطور الدولة وسقوطها فإن الأثر الذي نقايس به الزمن الماضي بالحاضر، هو تسلسل الحوادث ونموه بنفس الصورة والشكل، فإن البناء الذي يطمح أي مواطن عربي لا يشاهده في أي اقليم..
لقد قلنا إن انتصارات اسرائيل هي أبعاد حضارية استمدت قوتها منه، ولكن ما تفسيرنا لانتصار الجزائر على فرنسا التي تسبقها بمئات السنوات حضارة وقوة!؟
.. القضية مبدأ وتحول في الذات العربية نفسها.
فنحن نشاهد الفصائل الفلسطينية لها أكثر من زعيم ونرى كل دولة عربية بزعمائها، وداخل كل اقليم عشرات الزعماء من أمراء القبائل والعشائر..
الوحدة العضوية لهذه الكيانات تلبس أكثر من وجه، وتشرق وتغرب حسب اقترانها بالميول الذاتية الزعيم.. وهنا المشكلة التي تواجه العربي عموما في العصر الحديث.. والسلبيات، وعدم الاكتراث، والملل من تكرار الشواهد والحوادث، وما تزيفه الصحافة العربية التي لا تفرق هل هي «مع» أو «على».
فلو افترضنا أن السلام مع اسرائيل تم بأي طريقة كانت مع الشقيقة مصر وصار التبادل التجاري والصناعي والإعلامي، ودخلت اسرائيل كدولة مجاورة لها كل الأشكال المطلوبة في المبادلات.. هل ستصبح إسرائيل قوة عظمى داخل الذات الفردية في الشعب العربي في مصر؟ أو بمعنى أكثر دلالة، هل ستتغلغل بقوتها إلى خلق جيش من ضعاف النفوس واستخدامهم لوسائلها، وبالتالي خلق محاذير، ومطاردة للمواطن العربي من مصر في كل قطر عربي يفد إليه؟..
قد يحدث هذا رغم الرفض لأي أمر يسيء إلى هذا الشعب العظيم، ولكن هذا الشك سيطرح أبعادا خطيرة على الوطن العربي بأكمله.. فمصر الدولة الكبيرة عربيا ولذلك لن يستغني أي قطر عربي عن القوى الذاتية العاملة المصرية من كافة التخصصات ومسألة عزلها عربيا غير ممكن إطلاقا لا من الناحية المصلحية ولا الأخلاقية، ولكن المواجهة هذه المرة ستكون مع اسرائيل بثياب عربية، وسيصبح الشك واقعا خطيرا بين الشعب العربي مع نفسه، وهو أغلى مكسب يمكن أن تحققه اسرائيل في مسيرة المصالحة والسلام.
وإذا كان هذا جزءا من أخطار المستقبل فماذا تنظر إليه الزعامات العربية؟ كل ما نخشاه، أن نداوي العجز السياسي والاقتصادي بالبيانات والخطب، ونواجه القوة العسكرية بمزيد من إشعال الحروب بين الحدود العربية، وتنفرد إسرائيل بخلق كيان سياسي واقليمي لموارنة لبنان، وأكراد العراق، ودروز سوريا.. الخ..
إن الحالة العربية الراهنة بقدر ما تبعث على القلق والخوف من تقاطعها وتعدد ميولها، فإنها لا تزال تختزن أكبر قوة في التاريخ إذا ما استطاعت بالعقل، والعقل وحده أن تسير هذه القوة، وان بوادر الأمل لا زالت تشرق كل يوم، وفي كل نهاية نهار ندعو الله أن يحقق آمالنا ويوحدنا أمام مصاعب التاريخ
كن ممثلا.. لا أديبا
أخي الأستاذ «مجهول»
لقد صدر أكثر من كتاب في القصة، وأكثر من ديوان في الشعر العمودي، والحر وتقاسمت بعض الأندية الأدبية نشاطات جيدة في الإصدارات، وتعددت دور النشر لمجتهدين من الشباب.. ولكن مع ذلك لا يوجد قارئ مداوم، وبالتالي انعدم أثر الناقد، وصار الأديب والمتأدب كلمة حلال في النطق، وخسارة في الواقع المعنوي والمادي..
ولكن ما رأيك أن يحترف الأديب التمثيل أو الإخراج فقيمة كل مسلسل، أو تمثيلية واحدة، يساوي جهد عشرة دكاترة احترفوا البحث في التراث، أو سبعة ممن يكتبون الشعر والقصة.
وإذا كان الشباب ولي في امكانية احتراف الغناء أو كرة القدم بشروط الخاصة، فلا أقرب للأديب من مهنة إلا التمثيل، أو فتح مؤسسة للإنتاج الفني والمسرحي، والإعلان.
فالكاتب والأديب ممثل على نفسه، وطموحات خياله واسعة، ولكن ذكاءه قصير، إذ يدون هذه الأشياء في كتب، أو مجلات سيارة، أو في محاضرات في الأندية والجامعات قد يتعاطف معه الحاضرون في مقاطعته في التصفيق، أو هز الرؤوس في الإعجاب.. من قصيدة عصماء..
لقد كان الشاعر تاجرا عند الخلفاء والأمراء، وذا مهابة في القبيلة.. والحكواتي يملأ مخلاته من بيوت الأغنياء مقابل قال: ابن أبيه.. وهو أول الممثلين على مسرح الواقع، فلا أيسر من استبدال الأقلام والحبر والورق في البرانس والمكابيح، والجلوس على صالون احدى الممالك التاريخية على خشبة المسرح، أو ستوديو التلفزيون، فقد انتهى عصر أبي الفرج الأصفهاني وابن قتيبة وأضرابهم، وصارت الأشرطة المسموعة والمرئية حالة حضارية نافذة «فاغنم من الحاضر لذاته» وعلم أبناءك القراءة والكتابة والتمثيل، واحرص أن لا تكون أديبا، فقد باءت الكلمة وخسرت سوقها.. والله معك.
«أديب»
حالـــــــــة
شيخ في العشرين
يستيقظ دوما في ساعات الصبح الأولى
يمشط شعرا مبلولا
ويدير المذياع، وينصت للباكين
يختار قميصا ورديا
وحذاء ذا كعب عال، وكتابا أبيض
يقرأ شيئا منه، وإذ ينهض
يصنع ما يقرأ كرسيا
في غرفته حيث العمل المأجور
ثلاثة أطفال بدناء:
أولهم: لا يقرأ حتى نفسه
ثانيهم: ضيع في مزبلة رأسه
ثالثهم: يحلم بالفقراء
كل مساء يغلق الشيخ في العشرين
شقته و ينام وحيدا
أمس، استيقظ في منتصف الليل
تناول موساه
وحز بيسراه وريدا
وأدار المذياع
وأنصت للآتين…
(سعدي يوسف)
التاريخ: 6 – 01 – 1399 هـ
0 تعليق