مع سياسة (الأمر الواقع) هل تصبح القوة العربية بجميع فئاتها المتطرفة أو المحافظة، أو الوسطية فريسة الوهم العام للمعادلات الدولية الكبيرة؟ وبمنأى عن أي تطرف أو استطراد درامي، نجد الرقعة العربية يتداخل في مفاهيمها (عربيا) وهم الحلول النظرية المتفاوتة، والتي تتعرى دائما داخل (لعبة الأمم (ويكون مجموع محاصيل رؤانا هو ما نجمعه من توهمات على مآدب اجتماعاتنا الدورية، أو الاضطرادية.. أي ما نفعله لا يتعدى تصاريف لغوية تأخذ نفس التفسيرات للمشاكل العربية منذ عشرين عاما..
والوهم مسالة مرضية عشناها في حسن النية من النظامين الأمريكي والسوفيتي، أو مع سوء النية في تغليب طرف على آخر
فمن عهد التحالفات التي حاولت ارساءها انجلترا وفرنسا إلى القواعد العسكرية التي تضعها أمريكا لتطويق الاتحاد السوفيتي، مرورا بأزمة كوبا، وتصدير الثورات في معسكرات العالم الثالث. كان الوطن العربي أهم الساحات التي يتطاول عليها العملاقان وهي الأهمية المعروفة بدهيا مع المواقع الاستراتيجية، وموقع الثروات البترولية، وسوق التصريف العالمية..
ومن منطق سياسة (الوفاق) أخذ المسار الدولي بمعسكريه التنافس على قنص الفرص بأسلوب مرصود بعشرات العيون والتقارير ووسائل التقنية التي ترصد حركة كل معسكر.. وعلى الطاولة المستديرة يتم تقليب (المائدة) حسب اللون والطعم الذي يجذب كل واحد منهما..
فإذا كانت مراهنات المعسكر الغربي تتم بإيقاد نار (الصين) وجرها إلى معسكرهم وفق حسابات دقيقة ومدروسة بفتح سوق جبارة أمام تعثر الأسواق الأمريكية والأوروبية، وجعلها المحرك المناسب أمام قفزات الاتحاد السوفيتي في أفريقيا وآسيا.
فإن الروس بنفس الدرجة يملكون تحريك فيتنام من جهة كمركز أيدلوجي جاهز، واستقطاب الهند كمعادل سياسي للصين، وتحويل المعركة إلى أطراف تتوسع حسب الغابات البعيدة لكل من الطرفين..
ففي الماضي سقط حكم (سوكارنو) الذي كان يركن إلى أكبر حزب شيوعي آسيوي بعد الصين، والدول الشيوعية بلعبة بارعة من أمريكا.. فإن الروس عرفوا كيف يرهبون الحلف الأطلسي بغزو نظام (دوبتشك) في وضح النهار وعلى قرب من حدود الدول الغربية وهنا ما يعزز أن كلا منهما يعرف كيف يصنع معادلاته حسب درجة الغليان التي يرفعها أي معسكر منهما.
ومن هذا المنطق تتوسع المنافسات على صنع الأحداث على رقعة الوطن العربي وتأتي المراهنات من واقعية مصالح كل دولة، ومن مركز القوى التي تستطيع تحريكها في كل قطر عربي لا زال يستنسخ الآمال من تهديد المصالح الأمريكية، أو مصادرة القوى الشيوعية، أي أن الاستسلام لهذه الثنائية الطويلة التاريخ، والقوية النفوذ هي امتداد لقوتنا في ترسية سلوك دولي لا زال تأكيده مسرحا لأحلامنا وتوقعاتنا..
ولو طرحنا نزاعين يتقاسمان الوطن العربي، ويشكلان صراع القوتين الأعظم، وهما صراع ثوار (اريتريا) على طرف البحر الأحمر، وفلسطين في قلب الوطن العربي، وهما جزء من التكوين العربي تاريخيا وحضاريا فإننا نستنتج..
• أنه إذا كان للثورة الاريتيرية أرض ووجود عاصر إمبراطورية الحبشة (اليميني) وضربت في أكثر من موقع.. فإنها الآن تجرد من كل أسلحتها وتعاقب بفعل الرفاق (اليساريين) المدعومين من الاتحاد السوفيتي وكوبا..
• اضافة على ذلك أنها لا تعدو أن تكون ثورة ضمن التصور العربي ومآسيه أي أنها تنتمي إلى كل التناقضات المسخرة والمستجيبة للوضع العربي العام.. وهذا سر انتكاساتها..
• فهي (مشطرة) إلى يمين ويسار، وإلى خلافات فئوية وقبلية وأيدلوجية وهو ما يسمح باستقطابها وإجهاضها في كل الحالات، رغم تنديد بعض اليساريين العرب بطريقة الحسم بالسلاح وتدخل قوى تقدمية، وطرح بدائل للتفاوض ضمن الدولة الواحدة لأن المنطلقات ذاتها يمكن احتواءها ضمن الثورة الواحدة..
• والأمر الأخير هو أن الأجنحة الثورية في اريتريا ذاتها، إذا لم ترد الانصهار في الثورة الواحدة، فإنها تستطيع الامتناع عن التدخل والمساعدة في إنهاء هذه الثورة او الدخول في صراعات دامية مع الأجنحة المعارضة وهي أمور مؤسفة ومؤلمة.. هذا هو التفسير اليساري لحالة اريتريا..
وبنفس القياس والحدود يأتي الواقع الفلسطيني..
• فإسرائيل مدعومة بقوة أمريكا، الاستراتيجية والعسكرية ومن ورائها المصالح الغربية ذات النظام الحر والمنافس التقليدي للروس…
• فإسرائيل من خلال منطق مدروس وعلمي وضعت شروط دولتها من عهد (هرتزل) إلى عصر (بیجن) وهي أمور حتى الآن تغاب عن العقل العربي..
• فهي (لوبي) متحكم في السياسية الأمريكية من وراء الاحتكارات المادية الكبيرة والنفوذ الإعلامي، وأن سياسة أمريكا لا تخرج في حالاتها في الشرق الأوسط عن الصورة والأمر اللذين تريدهما إسرائيل..
• وهي، في الغرب، أمر حيوي لسياستهم، وعطفهم من عقدة الذنب الذي تركه (هتلر) في المأساة اليهودية التي سحقها ونظم لها معسكرات الاعتقال والحرق وكان النتيجة وعد بلفور، وسلسلة خلق الدولة اليهودية في فلسطين..
• وعن الواقع الفلسطيني بكل فصائله، لا نجد منهجا أو استراتيجية واضحة تجمع التفردات المتناثرة في الهدف والفكر، والرؤية للمستقبل..
• فقد خسرنا في حرب 67 الضفة الغربية وقطاع غزة ومعها أراض عربية أخرى، وتوسعت إسرائيل أفقيا وكسبت مواقع عسكرية جيدة.. وفي الماضي لم نعرف القرارات 242 وغيرها ولا المبادرات الجديدة.. ولكن النهج التفسير للسياسة سارت على نفس الطريقة وطرح الاحتمالات مع مزيد من الانحسار والتراجع، وتعليق الأمور على ما تأتي به الأيام من حلول.. وسارت الأحوال ۔ حتى بين الفلسطينيين – بأن غاب التحليل السياسي للواقع الحاضر والمستقبل إلا ضمن التناقضات العربية ومراسم سياسة الدولتين الكبيرتين
وإذا كان الصراع على أرض عربية بمنهج الروس والأمريكان فإننا لا نملك حتى الآن أي تفسير عربي مخلص لهذا التداعي، ولا نجد من يؤكد أن كلا المعسكرين لا يمكن أن يقبل منا رأيا أو حوارا ايجابيا إلا بما نضعه لأنفسنا من قوة محسوبة ومنتظمة في المصالح العربية العامة، وأن مشاريعنا المؤقتة والمتناقضة والتحريف في الأفكار والاختلاف على الصيغ الوحدوية كلها تذكرني بحادثة طريفة قرأتها منذ زمن.. الحادثة تقول: أن هناك مواطنا في احدى المستعمرات الإنجليزية صفع جنديا إنجليزيا فكان الرد من الجندي أن ناوله من محفظته عدة جنيهات، وقد تمادى هذا المواطن بحيث أعاد الكرة مع جندي آخر، ولكنه أكثر حماقة من الجندي الأول فما كان منه إلا أن سحب مسدسه وأطلق النار على رأس هذا المواطن البائس
هذه الحادثة تنطبق حقائقها علينا إذ أننا لا زلنا نمارس واقعا غير متلائم مع طبيعة ما يجب أن نكون عليه، فنحن نطلق النار على أنفسنا كل يوم بمسدسات روسية وأمريكية، ولا تختلف الغاية بينما يتم التنفيذ في الغالب على أجسادنا..
فإذا كان الطرح السياسي لأي مشكلة في الوقت الحاضر سواء عربية أو غيرها فإن النتيجة دائما استنتاجية من أي كاتب، أو هي حاصل مجموع مطالعات محدودة لم تصل إلى التحديد الذي يضعه أي كاتب أجنبي في مجلة أو جريدة ذات ثقل سياسي مدعوم بسلطة الدولة.. وهنا غالبا ما يكون استنتاجاتنا ذات رؤى متناقضة ومفرغة من التقييم الواقعي، ولا نستطيع أن نحصل على الحقيقة الصحيحة
فنحن نطالع الكتابات والكتب السياسية وهي لا تخرج عن التقييم المتناقض، وبالتالي فهي متوافقة مع الأحلام العربية، أو حتى تصل إلى السوق العربية والقارئ المجتهد لا بد أن يأخذ الإطار العربي ورضاه إطارا لأبحاثها واستنتاجاتها، وهنا نعيش المعميات، وينحجب عن العربي أي طرح سليم، وهو ما صاحب المسيرة العربية في كل وجوهها.. وهذا هو الذي جعلنا لا نفرق بين الحقيقة السليمة لأننا نمارس الشك في عديد من مواقعنا الاجتماعية والسياسية، ونواجه الفراغ الفكري والسياسي، والمستوى البسيط من التقييم لهذين الفراغين..
فالحد الأدنى من الحرية الصحفية غير متمثلة في أي قطاع، وإذا كانت تملك هذا الحد فإن هناك الحساسيات العربية والدولية، ولذلك لا نستغرب أن تلجأ الصحافة العربية إلى باريس ولندن بعد أزمة لبنان لتحمل معها كل التيارات التي تنفذ من خلال السفارات العربية والأجنبية، ومن هنا أصبح الشك عملية مدمرة للأخلاق السياسية العربية، وصارت الأحداث هي صناعة خارجة عن إرادة أي مواطن عربي..
فإذا كانت هذه المنابر الكبيرة عاكس مؤلم للسياسة العربية، فإنها مجال وأبحاث وإعداد خطط، ومراجع لكل من يريد أن يقرأ عن تخلفنا، وبالتالي كيف سيكون لنا تأثير في صراع أمريكا وروسيا على أرض اريتريا، وفلسطين، ونحن لا نعرف القياسات الصغيرة التي تحكم محيطنا..
لقد حدثني صديق درس في الجامعات الأمريكية، بأن جامعة واحدة تملك دراسات عن القبائل العربية ونشأتها، وأسلوب معيشتها ومستواها المادي والعلمي، ما لم تملكه الدول العربية مجتمعة وحقيقة مؤلمة هو أن مصادرنا حتى في التاريخ القديم تعرضت للشك والتزييف.. فكيف بالحاضر ونحن لا نملك إلا ذاكرة خربها التضليل السياسي..
فقد قيل إن الشعب العربي انفعالي، وعاطفي، وغير قارئ ولا يملك حسن التقييم، وهذا التقييم إذا كان له طرف من الحقيقة فإن منزعه الأول أنه ليس له نفوذ على كل ما حوله، وكل الملابسات التي تفصل وتلبس هي جزء من روتين يومي ولا يستطيع رفع إصبع واحدة في الاعتراض عليه، بخلاف ما عليه كل المجتمعات الحضارية الأخرى.. ومهما تكن التفسيرات أو العلل في جعلنا أمة ليس لها رأي فإننا مع ذلك الرجل الشعبي الذي يقول: (الدراويش (طقو) حامد عفيه يا كبير الراس)..
جملة الأغبياء
هل الإعجاب بشاعر عربي، يجعل شاعرا آخر يأخذ نفس الأسلوب في المعاني، ليكون التجميل في تغيير بعض العبارات فقط؟
(قفا نبك) مثلا استعملها أكثر من شاعر عربي جاهلي، ولازمه البكاء على الأطلال والحبيبة ثم الافتخار بالقبيلة إلى آخر ذلك المنهج الذي ساد حتى في أواسط العصر الأموي..
وفي قراءاتي المحدودة والبسيطة لفت انتباهي في كتاب (حب عمر بن أبي ربيعة) لجبرائيل جبور بيت شعر في الغزل لا يخرج معناه عند الشعراء الثلاثة أي تغيير.. فالأبيرد بن المعذر يقول:
لها بشر لو يدرج الذر فوقه
لبان مكان الذر فيه من البشر
بينما حميد بن ثور الهلالي له نفس المعنى فيقول:
منعمة لو يصبح الذر ساريا
على متنها بضت مدارجه دما
وعمر بن أبي ربيعة لا يختلف مع الاثنين في شيء فهو القائل:
ولو دب زر رويدا فوق قرقرها
لآثر الذر فوق الثوب في البشر
ومثل ذلك الكثير مما اعتبر حالة من القصر التخيلي والانسياق وراء التقليد وهو ما جعل باب النحل مفتوحا، واختلاف الروايات في الحصول على مصدر صادق في أكثر الدواوين العربية..
فإذا كان من خرج علينا بتسمية ميدان (ترافا القار) في لندن إلى (الطرف الأغر).. فإننا لا نستغرب أن يكون (شكسبير) من أروقة عربية صميمة ليكون اسمه (الشيخ الكبير) ولا ندري ماذا سيأتي به بعض الخيالات العربية لتسميات جديدة.. ومجامعنا اللغوية عاجزة عن صناعة معجم سهل للمستحدثات الحضارية الحديثة لاستخدامه في الكليات العلمية وعفا الله عن ابن الرومي الذي قال:
لو تلفقت في كساء الكسائي
وتلبست فروة الفراء
وتخللت بالخليل وأضحى
سيبويه لديك رهن سباء
وتكونت من سواد أبي الأسود
شخصا يكنى أبا السوداء
لأبى الله أن يعدك أهل العلم
إلا من جملة الأغبياء
قول مأثور
(مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض فمتى انفصل واحد من الآخر، وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه وتعض معالمه)..
(الحاتمي)
ولعباس بن الأحنف:
إني طربت إلى شمس إذا غربت
كانت مغاربها جوف المقاصير
شمس ممثلة في خلق جارية
كان أعطافها طي الطوامير
ليست من الإنس إلا في مناسبة
ولا من الجن إلا في التصاوير
فالوجه جوهرة والجسم عبهرة
والريح عنبرة والكل من نور
كأنها حين تخطو في محاسنها
تخطو على البيض أو حد القوارير
التاريخ: 13 – 01 – 1399 هـ
0 تعليق