هل الإنسان أصبح (مشروع) للعدمية، واللا معقول، والتطلع إلى إخلاء العقل من أي نظام سوي، وجره إلى محاكمة مع عصره وتهديم العالم الواقعي، ونزعه إلى داخله المشوه، والمعتوه؟.. وهل التعارض، والبحث في الحلم وشق المعقول وتسويد الحياة الإنسانية بمآتم عامة وقابلة للديمومة هي الأصل الكامن في الإنسان؟؟
في قصص ألف ليلة وليلة حوار مع المتعة، والرحيل في عالم اللذة والسحر وتفريغ العقل من حدوده الجادة إلى التوفيق مع معنى اللذة، ولو عن طريق الأساطير والسحر، وما هو لا واقعي.. غير أن تلك الأساطير والقصص هي نسيج تعامد عليه تراث شعبي يحكي الأسطورة كحل لقتل السأم، والنزوع إلى عالم الفرح بأقصى حدود التآلف مع الحياة..
وكما أن الأسطورة عند اليونانيين والهنود والصينيين هي مجموعة من البحث عن كينونة يتعلق بها الإنسان، أو كقوانین بدائية تعاقب وترحم وفق سيطرة مطلقة ليسلخ عليها ذلك العالم انتماءه درعا واقيا في الصراع مع الطبيعة الشرسة..
فالهنود سموا (اندرا) إله الرعد، (واجني) إله النار و”باراجانیا” إله المطر والأنهار.. الخ كما هو عند اليونان (باطلس وأوديب) وغيرهم فإن البحث في الأسطورة هو تعلق نحو المطلق، وتجسيد معنى الحل عند الانسان والوصول إلى مأوى يرکن إليه..
وإذا كانت الديانات البدائية تقع ضمن تصور محدود وعقل لا يتجاوز المحسوس العادي، فإن الخيال هو التعويض في تجاوز الخوف ومصارعة الطبيعة، وهذا ما جعل التطور الفعلي يصل إلى مسلمات تفوق حتى الخيال، وأصبحت المرحلة التي يعيشها مقرونة بمجموعة الفروض التي قننها ووضعها ضمن المحصول الحضاري لكل أمة على حدة، وضمن القاعدة العامة للحريات الإنسانية..
ومهما يكن المسار الذي عايشة الإنسان، فإن البحث عن حماية أساسية ضمن الشرائع التي يصفها البشر، لا زالت قاصرة عن حمايته ودون المستوى الأخلاقي التي سبق البحث عنها في عالم (المثل) عند أفلاطون أو الفارابي في المدينة الفاضلة. أي أن الشوق إلى التعايش الإنساني في حدود الأمن لم يتحقق حتى في عصر التفجر الحضاري الحديث..
ولو أردنا القياس بوقائع تاريخية وعصرية لحالات الهروب في البحث عن بدائل لعالم الواقع، وخاصة في المجال الفكري فإننا بقدر ما تفجعنا بعض المواقف أو تثير فينا الدهشة، فإنها جزء من انشطار الانسان مع ذاته، وعالمه الحاضر والمستقبل..
في كتاب كولن ولسن (المعقول واللا معقول) يورد ملخصا لقصة الكاتب الأمريكي (ه.ب. لافكرافت) بعنوان (القبو) يقول: – تتحدث القصة عن جناز كسول غير مقدر، لأنه يضع أكفانا أقصر من أن تضم الميت الطويل، ولهذا فإنه يقطع القدمين.. ويحدث هذا في شتاء صقيعي تكون الأرض فيه صلدة لا تسمح بالدفن، الأمر الذي يدعو إلى خزن الأكفان في ظلة تقع عند حافة المقبرة، وفي أحد الأيام يحبس الجناز نفسه عرضا في الظلة إذ ينغلق عليه الباب، فيضع الأكفان كفنا على كفن ليصل إلى نافذة عالية، ويكون الكفن العلوي هو كفن الميت مقطوع القدمين، وحين يخرج الجناز رأسه من النافذة ويكاد يبلغ منتصف جسمه في خروجه، يشعر برسفه يقبضان ويعضان فيدفع بقدميه ويضرب بهما ويفلح في الخلاص)..
فولسن يعطي هذه القصة نوع من (الخيال الواقعي الاجتماعي) ويضع الكاتب بعض الكوابيس التي لم يتأثر لها ولسن، على حد تعبيره.. ومهما يكن فهناك الكثير من الروايات والقصص المشابهة في الأدب الغربي الحديث.
مثلا (كافكا) يشكل بطل روايته (المسخ) بأكثر درامية، ووحشية.. إنسان يفوق من نومه ليجد نصف جسده حشره كبيرة، ثم تبدأ المعاناة مع الكون والإنسان، وبقدرة هائلة يصور الكاتب تجريد الحقائق من مضامينها والاسترسال في الذات المأزومة يوم والمتعلقة بالوهم واللا جدوى، مثله في ذلك (البير كامو) في الطاعون، والغريب أنهما محصلة بشاعة الحربين الكونيتين وما تركتاه من تدمير ذاتي في الشخصية الأوربية.
وإذا كان (الحلاج) من خلال معتقداته الصوفية يجسد معنى مقاومة الألم حين حبس نفسه في شمس مكة الصيفي أربعة أشهر، وكان قوته الخبز والماء، وكذلك خروج بشار وأبي نواس، وقبلهما الحطيئة عن كل القواعد الاجتماعية والأخلاقية في عصرهم.. فإنهم لم يخترعوا ما هو خارج الرؤية الواقعية لذلك المجتمع.
فقد عاش كل منهم أزمة اجتماعية وعرقية صارمة، رغم ما كان يسعون إليه في البحث عن أصالة اجتماعية وقبلية تنازع سيطرة العرق العربي في حينه.. وهنا ما أجبر كل دارسي هؤلاء الشعراء الثلاثة من تخطي كل ابداعاتهم وعبقريتهم إلى المس بأصولهم المتدينة، وأن ذلك الخروج عن القاعدة العامة للناس ما هو إلا أساس أصلى في المنابع الأصلية لأرومة هؤلاء الشعراء..
وإذا كان لا يعنينا الآن استقصاء تلك الأسباب والتحديات، وهو ما يخرج عن طبيعة موضوعنا، فإن وضعا قريب الشبه من تلك الحالة، وإن اختلف فإن التحدي هذه المرة اجتماعيا لا عرقيا.
فقد عرض الأستاذ (فاروق البقيلي) في أحد مقابلاته التي كانت تنشرها مجلة الأسبوع العربي، عرضا شائقا وعجيبا للشاعر المصري الراحل (نجيب سرور) حين أكد أنه لم يكن مجنونا بالفعل، وأن مجموعة ما كان يفعله حين يمشي حافيا ممزق الثياب على أرصفة القاهرة كان يبحث عن عذر يمارس فيه حريته كاملة، ولو أدى ذلك الى اتهامه بالجنون..
ففضيلة الحرية تساوي كل ما تبنيه الشكليات التي تعارف عليها الناس بالسلوك السوي، ولقد كان – يرحمه الله ويعفو عنه – حادا وسليطا، ومات بدون أي إضاءة أو حزن كأي جدي يموت بالطاعون؟؟
في ديوانه (برتوكولات حكماء ريش) يقول في قصيدته:
احباطات شعرية..
لأن العصر مثل النعش..
لأني جثة في النعش..
لأن الناس كل الناس..
دمي من قش
لأن.. لأن
(المعنى في بطن الشاعر)،
والشعر خواء البطن،
جوعان في القرن العشرين
والإنسان الجائع كلب..
كم في الجيب؟؟..
ماذا كنت أقول..
كنت أقول الشعر..
(فالي الفول بزيت)..
الألم ليس مصدره الجوع الجسدي، إنه الجوع للعالم الذي لم يتلاءم معه الشاعر.. وهنا صار الخلاف. فمثل من يشرب ماء القوارير المعقمة كالذي يشرب من المرحاض.. وهنا انعدام الإحساس بالذوق أو التذوق، وهنا المداورة مع رقم الحاضر.. الكل في حالة حصار لا عاقل..
وحوادث أخرى.. أحد الأفارقة يتزوج فتاة جميلة، وفي الصباح من ليلة الزفاف تفجع عائلتها بأن زوجها قد قتلها، وأكل من فخذها وثديها.. وتكون المأساة التي زلزلت المجتمع في مصر قبل سنوات..
و حادثه مماثلة في افريقيا ايضا، فقد أكل السفير الألماني الغربي عند احدى القبائل المتوحشة.. واحتجت المانيا في حينه، فكان رد الدولة الأفريقية أن سفيرنا لدیكم يمكن أن تأكلوه بدلا عن سفيركم المأکول..
وآخر الأنباء تناقلت الانتحار الجماعي في أمريكا (في معبد الشعب) أكثر من (905) لاقوا حتفهم في السم من خلال دعي مجنون، ومصاب بسرطان الدم.
هنا نقول هل المجتمع الأمريكي، والغني والمتعلم وليس المتثقف يمكن أن يسود فيه التبشير فيما هو خارج القانون لتكون تلك المجزرة وغيرها؟؟ وهل هناك من فارق بينه وبين مجتمع القبائل الافريقية البدائية التي أكلت السفير الألماني؟..
مبدأ التوحش واحد، وإن اختلف الأسلوب ذلك أن أمريكا من سلسلة أفلام (دراكولا) (وكنج كنج) وغيرها هي التي أعطت سفاح ال (905) – جیم جونز – ورقة العبور إلى خيال الشعب الأمريكي ويتساوی بذلك وحشية صاحب الرقم السابق من القتلى مع ذلك الافريقي الذي أكل من لحم زوجته..
الغرابة ليست في الجانب الموحش، أو المتمزق من الإنسان، إنما كيف يعود لحالات بدائية من حياته في هذا العصر؟..
فإذا كان مجموع ما يصرف على الكلاب في أمريكا، وأوروبا يساوي میزانية دولة نامية، فإننا لا نستغرب أن يخرج ذلك المجتمع من سلوكه في الترحم على كلبة القضاء الشهيرة (لايكا) التي مزقت وجدانهم وخرجت الاحتجاجات من جماعات الرفق بالحيوان، ورفاق السياسة و بلافتات تستنكر هذا العمل غير الإنساني..
ومثلما هناك القوانين تحرم الإعدام للمجرم وتبيح الموت الجماعي وتشيد معامل لحبوب (الهلوسة) وترویج المخدرات.. ومثلما يوجد حائط مبكى في القدس، وحائط ديمقراطي في الصين تلصق عليه كل وسائل الاحتجاج ، فإن التوارث البشري لهذه المآسي قائمة رغم عصرية الإنسان وانفتاحه على الكون والطبيعة، واکتشافاته الهائلة.. إلا أنه يظل ذلك الغافل الساذج عن مكونات ذاته إلا في الأطر الاستهلاكية العادية، ويبقى شيء هام: هل العلماء والساسة بحاجة إلى العودة إلى دراسات مثل علماء الماضي بحيث يصبح العالم (كابن سینا) ملم بعلم الاجتماع والدين، والرياضيات والفلسفة ليتساوی الإنسان بین أخلاقيته البشرية وبين اکتشافاته لوسائل الموت أو الإعدام بالتقسيط؟..
وحين يكون تبادل التهاني بين الشعوب في الورود وعلب الحلوى بدلا من أمشاط الرصاص والقنابل، فإن كل ميت في أي بقعة من أي جنس سيصبح شهيد عصره، وسيزرع كل فطيم ابتسامة كبيرة للأرض (الأم).. والأمانی خيول المفلسين..
جنون .. وحروب باسم الحب..
حین أشعل الدوق الانجليزي ثلاث حروب بين مملكة انجلترا وفرنسا من أجل أميرة اسبانية.. لم تكن الرواية رسما خياليا..
القصة كما يرويها الاسكندر دوماس في روايته: (الفرسان الثلاثة) تتلخص بأن شابا وسيما كان يدرس مع ابن الملك الانجليزي في الجامعة، وقد انعقدت بينهما صداقة حميمة.. وأثناء التخرج، كان الملك هو الذي يرعى ذلك الحفل، وقد سلبته الرؤية الأولى ذلك الشاب الوسيم الذي يقف على منصة الخطابة ليلقي خطاب حفل التخرج..
ويدخل الشاب في حاشية الملك، إلى أن يصل إلى أرقى المناصب الكبرى رغم معارضة البرلمان وأفراد الشعب.
وكعادة ملوك أوروبا في ذلك العهد، فإن المصاهرة من عائلة مالكة قوية هو السبيل لدرء الحرب بينهما، وعقد حلف ضد الممالك المغيرة، الأخرى.. وقد عهد الملك في هذه المهمة للدوق الوسيم ليخطب لابن الملك الانجليزي.
ويصل إلى مدريد مع ابن الملك الشاب بغية تحقيق الزواج من ابنة ملك اسبانيا، وحتي يتفادى الملك الإسباني هذه الزيجة لاختلاف مذهبهما الديني المسيحي يختلق حجة أن ابنته لا زالت في السابعة من عمرها وأنها غير مؤهلة للزواج في هذه السن، غير أن الدوق الخبيث يعرض زيارة هذه الأميرة إلى انجلترا تلافيا للإحراج بين المملكتين ويوافق الملك الإسباني على ذلك..
وتصل الأميرة الصغيرة إلى انجلترا وبرفقتها حرسها ووصيفاتها لكن الدوق الذكي تقع عينه على فتاة رائعة الجمال في سن التاسعة عشرة من عمرها يكشف في النهاية أنها هي الأميرة الكبيرة، وتنكشف معها اللعبة.. فقد وقع الدوق الوسيم في غرام الأميرة ولتلغى كل الخطط التي وضعها الملك الإسباني مما أجبره على تزويجها أحد ملوك فرنسا دفعا للمشاكل التي تتفاقم بين العرشين..
لكن الدوق المغامر يطلب أن یکون سفيرا لدى البلاط الفرنسي، والدولة الفرنسية ترفضه لهذا المنصب لمعرفة المقاصد التي يريدها الدوق الوسيم.. وبحكم سيطرته على العرش البريطاني يلجأ لإشعال ثلاثة حروب بين انجلترا وفرنسا تنتهی بهزائم جيوش الدوق لينتهی مطعونا بيد شاب عادي ثأرا لأخيه الذي مات في أحد الحروب غير الشرعية..
وفي عهد المأمون – إن صدقت الرواية – كان الحارث المخزومي واليا على مكة، وكالعاد، فإن أشراف العرب، والقرشيين بالذات يستغلون موسم الحج للقاء بمكة المكرمة لقضاء الفريضة واللقاء مع الأحباب والأهل.. وقد كانت (عائشة بنت طلحة) واحدة من الحجيج في ذلك الموسم..
وحسب ما یروی بأنها طلبت من الحارث تأجيل صلاة المغرب حتى ينتهي طوافها في البيت الحرام، وقد لبى طلبها رغم احتجاج المصلين وهو أمر يخرج عن أبسط القواعد الشرعية.. وينتهي الأمر إلى المأمون الذي عزله عن ولاية مكة..
الحب في كلا الحالتين صرعة جنونية وهنا يقول (قيس بن ذريح) الشاعر الغزلي:
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا
لي الليل هزتني إليك المضاجع
لقد رسخت في القلب منك مودة
كما رسخت في الراحتين الأصابع
أحال علي الهم من كل جانب
ودامت فلم تبرح علي المواجع
.. وابن حزم الأندلسي سقول:
متى تشتفي نفس أضر بها الوجد
وتمقت دار قد طوى أهلها البعد
وعهدي بهند وهي جارة بيتنا
وأقرب من هند لطالبها الهند
بني إن في قرب الديار لراحة
كما يمسك الظمآن إن يدنو الورد
التاريخ: 20 – 01 – 1399 هـ
0 تعليق