سقوط زمن التحالف الفكري!

آفاق | 0 تعليقات

حين صدرت رواية الكاتب الأمريكي (جون شتاينبك) (عناقيد الغضب) اجتمع الكونجرس الأمريكي ليصحح أخطاء اجتماعية بين فئات العمال..
وفي روايته الثانية (أفول القمر) حكم عليه النازيون بالإعدام غيابيا، ولكنهم سقطوا قبل تنفيذ ذلك الحكم..
( وهرييت ستاو) – في كوخ العم توم – فردت أول صفحات في تاريخ العنصرية الأمريكية ، والتجاوز بين السود والبيض وأدانت عصرا بكامله كان قد تجاوز الحدود الدنيا للقيم الإنسانية.
(وسارتر) في عارنا في الجزائر رفض كل أشكال الاستعمار الفرنسي ووقف في صف ديجول والأحرار الفرنسيين ضد الحرب الجزائرية.. رغم أنه في سنواته الأخيرة وقع فريسة عدم فهم في الشرك الصهيوني، أو أنه فقد ذلك الجانب الإنساني، بحكم عامل السن، في قضية فلسطين والفلسطينيين.. ومع هذا بقيت الحرية الإنسانية في خط واحد يربط هؤلاء الكتاب وغيرهم..
وفي تراثنا العربي، نرى أن (الخنساء) شاعرة (بنو سليم) هي أكبر – نواحة – فيما قبل العصر الإسلامي وقد كانت تعلق (نعلين) على رقبتها بعد أن تحلق رأسها لتلطم وجهها تحسرا على أخويها معاوية وصخر..
وظل (ابن الرومي) حبيس بيته لا يخرج منه وهو يرى ذلك (الأعور) القابع أمام منزله لأنه مصدر شؤمه وتطيره وأبي العلاء يتقاسمه الشك واليقين ويضع تحريم الفلسفات الهندية لأكل اللحوم هدفا وقانونا له، ليختفي في محبسه يراقب من داخل ذاته العالم ليجبس فيه كل رؤاه وآلامه وفلسفاته..
وحتى الغزليون من شعراء العرب وجدوا أن ذكر الحبيب حين (خدر) الرجل يذهب ذلك الخدر.. ولكنهم برغم نواح بعضهم، أو شكهم فإن شاعرا كالمتنبي أثار عصرا كاملا من خلال نفسه الأبية الصادقة..
وفي العصر الحاضر فجر الدكتور (طه حسين) أكبر ثورة في تاريخ أب العرب الحديث، وأثار جدلا لم ينته حتى الآن بين خصوم محافظين جدا، ومتعصبين رافضين لكل رأي طرحه العميد، ولكن الحاضر والمستقبل لا زال يشهد مئات الآلاف من طلبته – وأجيال ضخمة عرفت عظمة ذلك القروي الأعمى البصر، والفذ في نسف عصور كاملة من الانحطاط الذاتي والفكري..
وهنا نقول إن الفكر هو أكبر عمل يقود الإنسانية ضد القمع والحرمان أو حد حرياته.. كاتب ياباني ينتحر من أجل الامبراطورية كحلقة في عظمة اليابان..
(وسدهارتا) أو – بوذا – کفیلسوف، يرفض بيت أبيه الملك ليبحث عن المعرفة ويمشي بين بيوت الفقراء يبحث عن غذاء يومه وليعلمهم الحكمة..
(ورسل) في الثمانين من عمره يقود مسيرة المائة احتجاجا على ظلم الإنسان في كل الكرة الأرضية..
التعامل مع الحياة والإنسان هي مسيرة صعبة، ولكن قادتها هم المفكرون العظماء وقبل ما يفترق عصر الخنساء كامرأة تدافع عن قبيلتها في سوق عكاظ مع كبار شعراء العرب، فإن (مارتن لوثر) يرفض عقليا أن يقبل بفرض الكنيسة بيع صكوك الغفران….
القضية لا تأتي من شوق إلى العظمة الذاتية، ولكنها تلاقي بين شعور إنساني مجزوء من عصر لا يبصر فيه الإنسان العادي مصيره، وهنا يكون الوقوف على عتبة التغيير مقرونة بالأحداث التي يتركها هؤلاء العظماء..
لقد ظل التاريخ البشري يساند القوة، وحتى لو كانت غاشمة وجاهلة أو متسترة وراء سيرة تكتب من موقع تلك السلطة، فإن وراء الإنسانية عقول مشدودة إلى العنصر الفاضل، وتقاوم كل عوامل تضيع تلك القيم.. ومن هذه المواقع صارت الخصومة مع المفكر الإنساني محاورة غير متعادلة لأنه يحارب بشعوره وفضيلته بينما خصومه يقاومونه بقوة السلطة وحذف كل الارتباطات والأحكام القانونية، ولعل غياب الحماية حتى في العصور التي تسمي نفسها ديمقراطية، تختلق عداوات، ولو لم تكن تصل إلى الإضرار الجسدي، فإنها قد تأخذ أسلحتها من خلاف تخطط له جهات متواجدة ضمن مصالح خاصة بالشركات، والمؤسسات ذات الأغراض المشبوهة..
إن العاهة تنتشر ضمن مساحة كبيرة وإن (صوت الحق) تنشر حوله كل موجات التشويش الناشزة، وهنا تظل السياسة هي القوة المحركة، وتبقى الشرائع الحديثة ومعها جائزة نوبل التي منحت (لبيجن) جائزة السلام، واقتصرت على الكتاب العالميين أو على عنصر يدور بنفس الحركة الصهيونية.. ولتبقى مقياسا عالميا وشهادة حسن سيرة وسلوك في عالم يدور وراء أفلاك هذه الحركات اللا إنسانية.
فالروح التي يتعامل بها (العالم)، بكسر اللام وتسكين الميم، هي مع الأرقام والمساحات والنظريات القابلة للتطبيق كحقائق صحيحة، وذلك لم يعد (كجاليلو) يسقط أمام الكنيسة مع قناعاته بتلك الحقائق ليحافظ على بقائه حيا.
وهنا يبقى العالم يتمتع بحرية، وإن كانت مقيدة بالسوق الاقتصادية، فإنه لا يعيش آلام المفكر النظري الذي يأخذ أسسه من الإنسان كقوة حية ولكنها محصورة في الواقع السياسي..
فالتأكيدات القانونية بحماية حرية الفكر باقية نظريا، وموقوفة التنفيذ إلا وفق التعديلات التي تفرضها المصالح التي تراها تلك القوانين سليمة، ولو من وجهة نظر غير متفقة ولا عادلة..
علم الاجتماع الصناعي صارت تسيره القطاعات المالكة لتلك الصناعة وصار الإنسان فيه مجرد رقم انتاجي تزيف عليه حريته من خلال سلسلة الدعايات الذكية. والفلسفات أصبحت مناطق للوهم والخيال لأنها تطرح آراءها في قالب مقروء للخاصة، الخاصة من المفكرين رغم إناراتها في بعض الأحيان للعقل البشري.
وحتى المسرح الذهني صار يهرب إلى الفزع والغرائب وتمييع كل السيطرة العقلية على الوجود الواقعي، وهي الأممية الجاهلة التي وقعت ضمن سلطة تغرير بشعة خططت لها السلطات المالية الكبيرة في العالم، وكثر الأسرى وصار التعامل مع الفراغ الإنساني واحدا من أخطر التحولات في صرف الفكر الإنساني إلى مستعمرات اختيارية، وضمن عقل يدور في حلقة الآلية، وبقيت الحرية شريطا طويلا تعلق عليه الخرافة الحديثة للفكر.
ولعل ما أسوقه الآن ليس محض تشاؤم أدفعه بروح خيالية ولكن هذا ما يظهر في بعض الأحيان لمفكرين ينطلقون من بعض الأسر، وهم الذين تسفه آراءهم أ تهمل في أوربا وأمريكا من بعض هذه الدول الأكثر انتماءا للحرية ولو بحساب استثنائي من هؤلاء المفكرين، وحتى التهويل بالدمار البشري ليس مصدره الحنان على الإنسان ولكنه إضعاف لسيطرته على عقله وجعله دائرة مغلقة الحواس، ومسقوفة بالحزن والترقب..
وهنا الاحتمال الأكثر توترا، وأن الوعي بالحركة الفكرية ومساراتها أصبح احتكارا سياسيا واقتصاديا، أو البحث في (ميتافيزيقيا) الظواهر المضادة لأي نبوغ حيوي..
وليس تواضعا أن تتسابق دور النشر على إنتاج كتاب لمفكر ما، فالحصيلة مادية وليست ثقة في المضمون الفكري أو تعاطفا مع الوجه الإنساني..
فالكبار من المفكرين برغم القوة التأثيرية التي يدفعونها للعالم، فإن استغلال أسمائهم تدخل في حلقة الإعلان والحصول على إيراد كبير ولو بغطاء خدمة مشروع أخلاقي وإنساني، وهذا هو العمى الكوني الكبير..
وإذا كان الانتقال من المذاهب الفكرية، وطبعها بالطابع السياسي من تجريدية أو واقعية ديمقراطية. واشتراكية الخ.. فإن السلعة المحددة السعر هو الإنسان الصغير الذي لا يحتمى إلا
بقانون عيشه وإعلان سقوط التحالف الفكري بينه وبين المفكرين وهكذا تكثر الأورام في المناطق العاقلة في دماغ الإنسان، ويصبح اشارة إلى معايشة الارتباط القمعي بالحياة فقط دون تحديد مسار حر يتنفس منه.. فهو جزء من تلوث بيئي يستيقظ وينام ويأكل بشكل لا إرادي، وهنا مصدر القلق والضياع وكما يقول بعض قادة الفكر الحديث، بأن تساوي عامل المصنع بمالكه في الشروط السكنية والصحية والإجازات الشهرية والأسبوعية ليس معناه عدالة سليمة ضمن قانون التحضر، وإنما لأن هذا الإنسان أصبح لا يملك مقدرة التفكير في الخلاص من الأسر، إذ أن دوامة التقسيط والتغيير الظاهري في كل ضروریاته أو كمالياته يدخل في نطاق (التلهية) عن استقصاء هذا الاختناق للحرية.. وهذا ما يفسر أن الضغط ظاهرة اختيارية ولذا فإنها أخطر من المواجهة في سلبية تلك الحرية والتعايش في الواقع الصحيح..
يبقى شيء أخير، لقد كفلت عدالة الأديان السماوية حرية الإنسان وغرست مفهوما منطقيا لحياته لا يتعارض مع وجوده، وتجاوزت إلى الاحتكام إلى شرائع سمحة، ولكن الجيل الذي يحمل هذه المسلمات لا زال دون الوعي الكامل لأن يرى الإنسان وجودا حتميا، ولهذا تبقى الأزمة، رغم أن الزمان والمكان واحد، فتجذبه إلى مصير مجهول، وحتما سيولد من يعلق الجرس ويفتح نافذة في المناطق المظلمة في أفق الانسان.

الحروف الكاسدة..

إذا كان إنتاجنا الأدبي متواضع جدا حتى الآن، لا لنقص في الإمكانات البشرية أو المتعلمة.. ولكن لأن هذا الجانب الخير والذي يحتاج إلى تداخل ساعات النهار مع الليل أصبح عملا شاقا وغير مريح، وغياب هذه الواجهة المضيئة في لحظتنا الحاضرة هي مأساة ودليل على حالات تخلف نتحمل مسئوليائها..
وإذا جاز التقسيم بين زملاء الحرف ممن يكتبون في الوقت الحاضر، والذين يعيشون وهم الثقة بإنتاجهم فإنهم ثلاث طوائف:
• محافظة تعيش على الجوانب المظلمة من التراث في التقيد اللفظي أو الشعر الخالي من أي عاطفة أو من توابيت الخرافة أو النقاشات الفاسدة التي دونها ممن أرادوا تخريب ذلك التراث الخالد، وأصبح له في عصرنا من يدونه ويتلهى في إفراغه كشحنات غير قابلة لكسر الحاجز بين الماضي والحاضر..
• وفئة أكاديمية تنقل ما قال فلان، وما يعارضه علان، دون أن يكون البحث علميا ومحايدا، ودون أن نعرف ما هي الحقيقة بين الرأيين وصارت هذه تحتل كراسي الجامعات بالشهادات فقط دون الكفاءة، وصار ما نعطيه حشدا من المفاهيم لا تخرج عن التقاليد القديمة لابن سلام الجمحي، أو الحريري في مقاماته، أو معاجم اللغة والخلافات بين تصنيفات أبي الأسود الدؤلي أو سيبويه، دون تحريك الجوانب الخلاقة بين تفاعلات التراث الإنساني كله وبين تراثنا، وصار الإبداع مسألة جهد شخصي وصارت بيئة الجامعة أقل من بعض الومضات التي تخرج من بين شبابنا في لحظات التعاسة..
• وثالثة مشدودة إلى كبرياء العصر وسيطرة الفكر الأوربي، والمنقول بواسطة ترجمات تكون أحيانا ضعيفة، وصارت بحكم جمود الفئة الأولى، وكلاسيكية الأخرى، رافضة ولكن بدون قاعدة وسيعة من الثقافة، وأصبحت أقدامها حتى الآن رخوة وضعيفة، ولم تجد التوازن الذي تركن إليه في تقريب الثقافات الإنسانية. وسارت على عكاز واحد بين تلال الرمل الثقيلة..
ونقف في الوسط لا ندري ما هي الأبنية التي نستطيع تسلقها والوصول إلى ساحاتها المضيئة..
لقد قيل إن قريشا أعظم قبائل العرب، ولكنها أقلهم نبوغا في الشعر إلى أن خرج عمر بن أبي ربيعة فقال عنه جرير ما زال هذا الفتى القرشي يهذي إلى أن قال الشعر، وأصبحت قريشا صاحبة قيادة القبائل العربية.
وفي مقال سابق قلت إن القطر الشقيق (اليمن) متأخر في التعليم عنا بحكم أسبقية فتح المدارس والجامعات عندنا، ولكن يوجد من بينهم أدباء ونقاد وشعراء هم أكثر إسماعا لصوت اليمن منا في الساحة العربية، والتعليل الوحيد هو أن شبابهم يتعلم ويتثقف، بينما نحن نتعلم فقط!!
وشيء أكثر إحراجا وبؤسا، فقد صار هذا الإنتاج المتواضع يدخل الحسابات التجارية أكثر من الهدف السامي للعمل الأدبي أو الفكري..
كتابنا صارت قيمته متساوية مع سعر بعض أمتار الأراضي بحكم أن السوق لا يشتري، وإنما الدولة هي السوق الوحيدة التي تدخل هذه الكتب إلى مستودعاتها بمذكرات إدخال بالسعر الذي يحدده الكاتب..
كلنا لا نريد حرمان الكاتب من أبسط وسائل التشجيع ولكن لا تكون هذه على حساب جشع البعض من الكتاب في استغلال هذه الحالات التي يتوارى بعضنا في تسعير الكلمة..
ونحن نعرف أن أكثر الدول تضع مهمة الكاتب متساوية مع اللوازم الضرورية ولكن التضحية يجب أن تكون مشتركة بين المسئول والعامل، وأملي أن نجد حرفا للمعرفة خارج من معاناة الوطن ولا يدخل المكتبات كسلعة كاسدة.. وعفوا فإنني أول المخطئين..

كلمات لــ (نيتشه):
.. “إن الحياة نفسها قد أوجدت فكرة هي أصعب ما تحتمل الحياة لأنها تطمح إلى تذليل أعظم عقباتها، وهي التي يطلب الإنسان العدم ليتمكن من العودة إلى الوجود يوما..
لتكن حياتك عبارة عن تحول في ألف روح، وليكن هذا ما قدر عليك فتصبح إرادتك منصبة على قبول هذه الحلقات المتوالية”..


التاريخ: 27 – 01 – 1399 هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *