قصاصة من دفتر الماضي

آفاق | 0 تعليقات

• أحمل البطاقة الشخصية رقم (..) واسمي طلحان الأسود. أوقع اسمي في دفتر الحضور وليس لي في البنوك رصيد، ولا أسهم في البورصات.. في قريتي تعلمت من النخلة أن محصول (الجداد) هو قوت السنة، وبعض ما تجود به سنابل القمح والشعير إذا استغاث الفلاحون واستجاب الله ونزل المطر..
عرفت فيها السنة القمرية، وغمست في إناء الجراد أصابعي الصغيرة أتلذذ (بقصاميلها) بعد مضغ الجسد.
وحفظت مقررات التوحيد، وأصول التفسير.. و (دهنت) قدمي وكفى بشحم الإبل، وإلا بالقطران المستخرج من الطلح..

• جدتي المرحومة تقول:
.. – (في سنين البركات) يروى أن عنقود العنب يحمل على جملين.. والرمانة تتسع لأربعة رجال جلوس في جوفها.. وأم (المراجم) الساحرة، حفرت بكعب قدمها بئرا بوسط الجبل تغسل به الجن أطفالها عند كل غروب.
وأنا أنام في حضن العفاريت، وعلى مذاق الرمان والعنب وكم كان مسراي طويلا في النوم.. فعيناي الصغيرتان تراقبان (الغاز) في قاع (الهلالة) لتنطفئ تلك الذبالة التي تضيء حجرتنا الصغيرة المسقوفة بالجريد وخشب الأثل..
وجدي يروي: أن واحدا من قريتنا عاشر (نمرا) بعد أن (قلع) شوكة في يده اليمنى.. وتصادقا، وكان النمر كريما يهديه كل صباح جمعة غزالا، أو وعلا، ويحميه من الكواسر في ترحاله الطويل..
في السنة (عيدين) نعرف طعم اللحم والرز.. وفي السنة (عيدين) «والليلة الثالثة» نسمعها في رحلة العروس من بيت أهلها إلى بيت زوجها.. ويضحكون في مجلس قريتنا من رواية (دحمان) الذي رأى «الحديد» يمشي ويتكلم.. وينقسم الجلوس..
البعض يقول إن الله يمنح قوته لعباده مثل ما يهب الجن استراق السمع.. وآخرون يرون أن الله لا يمنح (الكفار) متع الدنيا إلا إذا رأى أنها جنتهم (ودحمان) وحده الشاهد والمشاهد ومحل الجدل والتصديق والتكذيب.
وشيخ المسجد الوقور يقرأ في كتب السلف.. أن الخليفة عمر حمل على ظهره قوت تلك المرأة التي كانت تغلي (الحجر) في أيام المجاعة لتسلي أطفالها ليناموا.. وتهتز الرؤوس بإيمان كإيمان (العجائز) رضي الله عن عمر، وصدق الله قوله..
وبعد الصلاة على النبي تحتضن قريتنا مساءها الخالد لترى صبحا جديدا.
• (صاهود) اليتيم يطرده الجوع وسنين المحل من مضارب البادية.. يعمل بين الفلاحين حصادا، وساقيا، ويبيع محصول السنة من القرع والباذنجان.. في الموسم الربيعي يعود لمهنة الرعي، وبنهاية الموسم يخرج بالودائع من الغنم إلى قبيلته، ومعه محصول كده تمرا وشعيرا (دخام) ماركة النجوم الثلاث..
وتمر السنون، ولكنه لا ينسى أن (شاة) أبو حمد أمانة، وقد توالدت لتكون أربعين رأسا.. وكل يوم يحدث نفسه..

  • الأولاد صغار (وجهال).. وسنه لا تسمح بأن ينكر هذا الدين لصاحبه.. وعلى شبح ضوء القمر الهزيل يطرق باب أبو (حمد)..
  • تفضل يا ضيفنا..
  • الله يغنيك.. ولكن هذه (شاتك) “الوداعة”.. وهذه أولادها..
  • أظنك غلطان؟.
  • أنت أبو حمد، وأنا الراعي صاهود (وفك رقبتي يفك الله).. ويدخل الضيف بعد إلحاح، ليتعشى على أحد خرافه، ويرد الجميل أبو حمد.. (عزل) الخراف عن الشياه وأعطاه الإناث، ومعها حمل من الطحين والتمر.
    وتبقى الفضيلة والأمانة خط الربط بينهما..
    • جدتي حجت في سنوات عشر حجتين، واحدة على الأقدام، وأخرى على جمل حرون.
    كان أحد شروط زواجها ثوب (دق الهيل) ومبخرة، وريالين (فرانسي) وحجة الجمعة..
    ليلة الزفاف تعطرت وتحنت، وعقصت جدائلها (المشاطة) جدي يقول: أن جاره (حرقان) أضاع جمله، واختلف مع أحد الأعراب واحتكم إلى قاضي القرية..
    ( البينة على المدعي )… قالها القاضي..
    ورد صاحب الجمل..
  • يا شيخنا الجليل .. الجمل يعرف بيت صاحبه. وهذا دليلي.. ولنفرض أنه ضل الطريق؟؟
  • يكون من نصيب خصمي..
    والجهة التي تريد أن ينطلق منها الجمل؟
  • .. أعلى (الديرة) سلمك الله..
    ويصل الجمل إلى بيت صاحبه.
    وتسمر قريتنا على هذا الحديث العجيب.. (راعف) يقول: أن التشابه بين الجملين هو السبب..
    و(عزوز) يعترف أن الجملين من أم وأب واحد.
    ونسمع الحديث بانبهار.. ويحدث رهان بين الجلساء.
    وليلتها نأكل (الجنين) على أحد المتراهنين.. ونغسل أيدينا.. على (أكرمكم الله)..
    • (عبد الجبار الشامي) وافد على قريتنا قرأ في كتاب (تسهيل المنافع) علاج الحمى والبرص والعقم.
    داوى (بالهليج والعصفر) كل أمراض قريتنا، اشتهر عند حاضرتنا بأنه يقرأ علوم الجن، ويرحل على جذوع النخل إلى مسافات لا نعرفها إلا بالخيال..
    وعند البادية، لغز مجهول الهوية والأصل، ولكنه يستخدم (الكي) والقراءة، والعزائم، وقد نجح في علاج حتى الماعز والإبل..
    وفجأة يختفي.. ومرة أخرى تعود الأحاديث والتأويل.
    -.. الجن خطفته.. قالها واحد من قريتنا.. وتساءلوا هل صحيح رؤية أم (الحنشان) في منامها أنه سقط في بئر العفاريت في الجبل؟ والحيرة تدوم، وتنسى قريتنا طبيبها، إلا أن خبرا مفجعا سخن جونا.. فقد قيل إنه سلخ (تيسا ونتف ديكا) وهما أحياء فسجن على جريمته وضرب عشرين سوطا وطرد إلى ديار الغربة..
  • معلمنا (مبروك) يهز (مسطعته) ويضرب بها أكفنا كلما غلطنا (بالنصبتين والرفعتين) أو من لم يبيض «لوحه» ليكتب عليه المعلم، بعوده القصب، أول حروف الهجاء.
    لم يكن معلمنا طماعا أو لحوحا.. راتبه يتقاضاه من اليسر، ومن مواردنا الضئيلة «مد» قمح، أو نصف (وزنة) قهوة خولانية، أو (عكة) سمن عربي!!
    في الصباح يفرش لنا حصيرا من سعف النخيل بالشمس يقرؤنا الفاتحة (حفظا) وأوائل سور جزء عم..
    مقرراته، ونظامه يصنعه بنفسه، ونخشاه حين يمر بحارتنا يتوكأ على (محجنه) المعكوف الرأس…
    نتدافع إلى منازلنا خشية عقوبة الصباح البارد من ضربة (مسطعته) الثقيلة.
    علمنا الاتجاهات الأربعة والقبلة.. وفي مجالس الكبار عرفنا سهيل، (وبنات نعش) والجدي.. وأبو (ذنبين).. ولكل هذه النجوم برج بالحظ، وأسطورة منقولة من أجدادنا الآفلون، ويبنون عليها معرف (الوسمي) والشتاء، والعقرب الوسطى، وشباط الأخير!!
    • جدي لا يعرف سن ميلاده، ولكنه عرف (المغازي) وربيع (الدمنة) وسنة الحمى، وهو قبل واحدة منها ولد في الشتاء، ورضع مع بنت الجيران حولين كاملين، لأن أمه ماتت بعد ولادته بمرض (الخابط)!!
    في سن الشباب ذهب مع (عقيل) للشام والعراق..
    شاهد نهر بردى، وصلى الظهر في المسجد الأموي..
    ورأى نهري دجلة والفرات وعجب لغابات النخيل بالبصرة، وشاهد محارات اللؤلؤ في الكويت..
    ثم بعد سنوات عاد من رحلته بخمسة ريالات (فرانسي) وناقة، وجمل عليه حمل (تمق من العراق!!
    • سألت جدتي..
  • وهل تصلكم رسائل جدي في الغربة؟
    ترد..
  • في قريتنا ليس هناك من (يفك) الحرف إلا (الخطيب) ولكن الركبان هم الذين يحملون لنا الأخبار بعد رحلة تدوم سنة، أو ستة أشهر، وقد تنقطع الأخبار كلية، ونفاجأ به قادم إلينا بدون انتظار..
    وهل لا يكون هناك أخطار في هذه الرحلة الطويلة؟..
  • «النشمي» منهم مسلح «بأم إصبع، أو فتيل» وعين الحذر ما تنام!!
  • * مسد جدي لحيته الطويلة، وفرك ثنيتيه بسواكه ذهابا وإيابا..
    ابتسم، وهو يسحب ورقة صفراء من (سحارته)، علك كلمات غامضة.. رحمه الله كان تقيا ورعا!!
  • ومن يكون يا جدي؟
    هذه وصيته عثرت عليها من مؤذن المسجد المرحوم «علي» جعلها بيدي وشهد عليها ثلاثة من حارتنا..
  • أتكون عن النخل الذي في الوادي الشمالي؟
    لا.. إنه يوصي أن لا يترك المسجد بلا سراج حتى لو وصل صاع (الودك) بأربعة «مجيديات» تركية..
  • ولكن الآن يسرج ( بالغاز ) يا جدي؟؟.
    ذاك زمن انتهى، واستطعنا أن نطور ظروفنا وحاجاتنا في حدود عطاء بيئتنا..
  • والوصية ما دورها الآن؟..
    لتبقي في خزانة أوقاف هذه القرية لذكريات أكلها الزمان!۰
  • ونقود الوقف الذي أوصى بها المرحوم علي ؟..
    يتصدق بجزء منها على المحتاجين، ويضحى له كل سنة بخروف!.
    • سحب رجله المتورمة.. عطس ثلاثا..
  • الحمد لله ..
    يرحمك الله..
  • لم تتم لنا الحكاية عن الحمامة الرقطاء ؟.
    يعدل «محسن» جلسته.. يتنحنح مرتين كأنما يطرق شهاقا سد حلقومه، وجر طرف (غترته) لتستر النصف الأعلى من جبهته العريضة..
  • لقد طارت بخلخال العروس إلى بيت الساحرة يسبقها الرنين في الجو، ولكن ساحرا آخر عرف المكيدة التي تدبر للعروس، فركب على طرف جريدة أحرق بطرفها، وكان وصوله لبيت الساحر مع وصول الحمامة، و….
    قاطعته حلقتنا الملتفة حوله من صغار القرية..
  • إن الحمامة لها جناحان وسريعة الطيران؟..
    نهرنا وهز عصاه ثلاثا بالهواء..
  • إن لم تصمتوا فلن أقول بقيتها؟.
    وبالرجاء والوعود بالصمت، وزيادة حصة كل واحد منا مما يقتصده من منزله من طعام.. استأنف..
  • طرق الساحر الباب.. ولكن لم يجبه أحد.. وعاود الطرق ثانية، فأطل الساحر الأول من نافذة فوق الباب، وما أن خرج رأسه إلى الفضاء حتى تحول إلى رأس وعل بقرنين كبيرين سدا النافذة..
    تعلقت عيوننا الصغيرة بانكسارات أخاديد وجه (محسن) التي جحظت عيناه وسبحتا في سماء الشارع الصغير المظلم.. وتنهد..
  • لقد دخل المنزل ووجد الحمامة هي العروس المسكينة قابعة في زاوية غرفته وسط ثلاثة من الحرس السود يخرج من أنف كل واحد منهم ضوء أحمر يضيء عتمة الغرفة..
  • وهل عادت العروس إلى قريتها؟
  • يقال :- والله أعلم – أنها عادت، وأن الساحر الأول صار قردا أجرب ما فتيء أن مات في مزبلة قريتنا..
    •• أطفأت جدتي «لالتها» وسحبت الغطاء على جسدي الواهن الضعيف ، وقرأت المعوذتين .. وشيء من آية الكرسي..
    سألتها..
  • الحمامة الرقطاء هل كانت العروس الذي دفن قصرها في وسط النقود..
    تضحك جدتي..وتبسمل..
    هذه حكایات (السعالو) وكلها (خرطي بخرطي)

دقت عصا جدي عنبة طرف الباب

  • أشهد أن لا إله إلا الله.. قرب البعيد، ونطق الحديد..
    استغربت جدتي لهجته.. وبدون أن تسأله.. قال:
  • لقد سمعنا إذاعة لندن من (الرادو) يحكي بالعربي.
    شهقت جدتي..
  • حسبي الله ونعم الوكيل.. قربت (الساعة)!.
    ونمت على أمل أن أسمع الراديو غدا!!

الصديق الأخ (عبد الله الرويس) الولايات المتحدة الامريكية..
مع شكري لك عن اهتمامك بالطلبة السعوديين وتجاوزاتهم في تقاليد خارجة عن بيئتنا، وانحرافات بعضهم عن القواعد الأخلاقية.. لكنني لا أنسى أنه مهما تكن هذه التجاوزات، فإن كل إنسان مشدود إلى قيم راسخة في ذهنه وعقله.. وهذه مرحلة – وإن كنت لا أؤيدها – فإنها أمر يخرج عن سلطة العائلة والمجتمع، لأن الرقابة تبقى ذاتية من تلقاء الشخص نفسه.
وعن البذخ الزائد، ومساهمة أولياء الأمور في تعميقه، فإن هذه الأمور محكومة بوعي الوالدين والأسرة..
وصدقني إنني معك في كل تخوفك على هذا الجيل الذي سيحمل تلك التقاليد الخارجة عن إطارنا الاجتماعي…
ولكن الله الهادي والموفق..

وفيت وفي بعض الوفاء مذلة
لإنسانة في الحي شيمتها الغدر

وقور وريعان الصبا يستفزها
فتا رن أحيانا كما أرن المهر

تسائلني: من أنت؟ وهي عليمة
وهل بفتى مثلي على حاله نكر

فقلت لها: لو شئت لم تتعنتي
ولم تسألي عني وعندك بي خبر

فقالت: لقد أزرى بك الدهر بعدنا
فقلت: معاذ الله بل أنت لا الدهر

وما كان للأحزان لولاك مسلك
إلى القلب لكن الهوى للبلى جسر

«أبو فراس الحمداني »


التاريخ: 12 – 02 – 1399 هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *