لم يكن بينهما أي تلاق في حل حاسم، ولكنهما لم يختلفا على المرحلة التي عايشها كل منهما..
فالأول عاش جزءا من مرحلة الماضي، وتكاتف مع تجارب عصره، وإن اختلف التحدي الاجتماعي والاقتصادي، إلا أنه كان يحيي حاضره بوعي مركب وموزع بين المطالب المادية الملحة والشحيحة، وبين التنمية الثقافية والدراسية التي تأتي بجهد شخصي ومبادرة ذاتية..
بينما الثاني يتلاقى مع امكانيات وشروط أفضل، وإن كانت أذابت تلك الجدلية الأساسية بين وعي الفرد لحجمه الذاتي، وتحديات واقعة. أي متطلباته المادية كشخص يبحث عن شروط أفضل وبأقل مجهود، او بمعنى أدق تسيير الامكانات المادية المتوفرة بأقل جهد مبذول، واختزان هذه الطاقة لجانب ترفيهي يرفض تلك القسوة في الجيل المعاصي لجيله ولقد كان الحوار مشوقا لا يخرج عن إطار مرحلة معاصره لم تتوافر خلف الاجتهادات للمؤرخين، وللتدوين الذي قد لا ينصف أي منهما..
الأول: أن هذا الجيل لا يحمل من معنى الحياة إلا الطابع التقليدي الغربي، أو سلبياته فقط، وأنه مجتمع ليس له قاعدة اساسية لخلق حوافز انتاجية، وأنه يفتقر للروح التي تشمل هذا العصر بتحدياته للدول الأقل انتاجا ومتخلفة تقنيا وتعليميا.. إنه جيل طموح في حدود توفير أكبر قدر من الامكانات المادية لجلب سلع استهلاكية سريعة، واستعمالها بمزاج طفولي وعقلية مظهرية.. أي إنها أجساد جيل تلبس منتجات (بير كاردان) بأدمغة محشوة بوهم عظمة لا تستند إلى أساس منطقي مع مستقبل ما سيحور الزمن، ولا يعرف إلا أن الطرق تؤدي كلها إلى مناحل أمل، وبدون لسع من النحل..
يرد الثاني:
- إن الوصاية من جيل إلى آخر انتهت، وإنكم لا زلتم تحملون عقدة الأبوة التي تستعمل أسلوب القمع وفرض الشروط السلوكية بقوة الملكية المادية التي تخضع ذلك الجيل، وبحسم أن الرابط هو ما يمليه الأقوى بصرف النظر عن الخطأ والصواب، وهذا ما يجعل الاتهام من جيل لآخر هو تدعيم حضوركم فقط في هذا الزمن رغم الفارق النظري والنوعي بيننا..
أنا مثلا قد لا أعشق نواح (أم كلثوم) ولا بكائيات “فريد الأطرش” أو (مسحوب) ربابتكم، وأشعاركم (النبطية) التي تبحث في مجد القبيلة، وتتحدث بلغة مشرقة، والناس مغربون.. لماذا لا تريدوننا أن نتمتع (بالدسكو) وأغاني “دیمس روسس”، أو (توم جونز)؟
إذا كانت القضية فنية مثلا فالفرق مزاجي وحضاري، وهنا محاولة فرض (حبوسكم) علينا.. وقبل ذلك مسألة التمتع بالحياة..
ففي دول أوربا مثلما يقرأون كل صباح زيادة الضرائب على السلع المستهلكة فإنهم يطالعون بنفس الشغف جداول دوري كرة القدم وصالات الرقص، والسينما ومع ذلك لم ينقص هذا من انتاجهم أو سيطرتهم حضاريا على أجزاء كثيرة من العالم وهذا لا تستطيع إنكاره أو الاختلاف معي بأي تبرير..
دق الثاني طرف الطاولة مقاطعا..
- .. هنا الأساس في الخلاف معك.. فالفرص اجتماعيا متاحة لمجتمعين متساويين في الإمكانات، ولكنهما يختلفان في الطاقة الانتاجية، وهذا الاختلاف مصدره ليس شعورا عاطفيا مبنيا على الأحلام، ولكنه شعور يوقف طاقاته ويرتبها لوظائف متقاربة بين نزعته المادية الانتاجية، وتوفير الفرص الترفيهية.. ولكن بالقياس إلى جيلنا فإن المسألة توفيقية فالتصور بأننا عشنا عقدة التخويف والضغوط لأبوية والانجذاب القسري إلى السلطة المادية المرادفة لسلطة الأبوية أمر له جانب كبير من الصحة، ولكن الميزة أن آباءنا أسسوا حياة تضاعفت عليها مواقف صعبة، وكانت الأمية سائدة وفرص التعليم غير متوفرة وهذا ما جعل البعد بيننا وبينهم بعد ثقافي وتعليمي، ولكن الحاصل معكم عكس ذلك إذ أن الفارق لم يتطور وينقسم إلى نفس المسافة.. فالأزمة مختلفة والشعور بعقدة التفوق هو السر في تكثيف هذه المسافة ومحاولة نزعها من الواقع..
- إذا أنتم تحسدوننا على وفرة بعض ظروف الحياة، وهو ما يجعلكم على غير ثقة أو يقين بقدرتنا على حمل مسئولياتنا.. فكل ماض سابق عندكم ممتاز ومثالي وهذا ما يجعل روح التجديد والتطور موقوفة إلى حين، ومناقضة لكل رأي، وتهديم لكل قيم.. حوار الإنسان مع الحضارة والمستقبل لا توقفه قراءة الكف والتردد في مسألة التطور خارجة عن إرادة الإنسان المتشكك في هذا التطور الهائل.
فهل تريدوننا أن نرفض ممتلكات الحضارة الحديثة ووسائلها ونعود لركوب الحيوانات بدلا من السيارات والحمام الزاجل بدلا من الهاتف أو اللاسلكي؟ أنتم تعلموننا أن الاجتهاد في اكتساب المعارف الانسانية شرط في التقدم البشري والمعركة في التخلف لا تخرج إلى العصرية إلا بالاعتماد على جيل طموح ومتيقن من سياسة نفسه بنفسه وفق الظروف العامة والخروج عن التقاليد السيئة لا أعتقد أنه يخالف هذا المنطق التي تريدوننا أن نكتسب به شخصيتنا.. - لازال الخلاف متجسد في الإطارات العادية من الحياة ووصفك للقبض على حرياتكم باسم سلطتنا الأبوية غير وارد ولا واقعي، ما أريد أن ننطلق منه، هو أنه رغم الحوافز في زمننا مقصورة على قدرتك وتعليمك وسباقك مع من هو أكثر منك مالا وجاها يعوضه التعليم والثقافة وهي الشروط التي تدخل بها مسابقات الحياة معهم سواء الوظيفية أو المهنية، ومع هذا لم ينعدم الترابط العاطفي مع من سبقونا.
نحن لم نكرههم لجهلهم، ولا انتقدناهم لقلة مواردهم وتعارفنا معهم يمزج حياتنا بالواقع بدون أضرار على أي جانب.. وكنا نعمل وندرس بآن واحد، وهناك مسئوليات الأصغر منا إعاشتهم تعليمهم وكساءهم. هذا الترابط هو الذي منحنا الثقة بأنفسنا ولم يكن هناك أي انفصام رغم الفارق – كما قلت بالثقافة والتعليم – ما أقصده هو أن الطريق بيننا لم يغلق بسبب نشوة ما، ولم تتغير الصورة أمامنا.. صحيح أنه ليس هناك الفائض عن حاجاتنا ولكن لم يكن هناك بؤس وعدم، وكان التحدي واضحا والفرص لمن يعرف الطريق ويستطيع تجاوزه.. - ما فهمته حتى الآن أنك تريد غرس مفهوم خاص بك فقط.. أي أننا جيل المصادفة التي نعمته أحوال لم تكن معروفة ولا منتظرة، أو كما تطلقون علينا (الجيل العقاري) ولدنا على مساحات وخرائط أراض وشوارع أربعة..
لست أريد السخرية.. ولكن لماذا لا تكون لنا همومنا وتصبح مواقفنا متساوية معكم من حيث مجاهدة حالتنا الحاضرة..
إذا كان هناك ما نسميه سعادتكم وهناءكم ببساطة حياتكم السابقة والسكون إلى القناعة والهدوء في المطالب، فإننا تتقاسم مخاوفنا مع جيل ولدت معه مشاكل الطفرة المادية وبقسوة أكثر منكم..
الزواج صار مشكلة اجتماعية، والتناظر بين الزوج والزوجة لم يعد تعارفا على المهر وحفلة الزواج، وقضاء شهر عسل بين النخيل، أو التمايل على طبول (السامري والهجيني) الكلفة صارت عقلية ونفسية ومادية.. أي أنه مثل ما كان هناك فارق – كما قلت – بينكم وبين جيل سابق لكم، فإننا نتلاقى مع نصفنا الثاني بأكثر من حوار ومطالب قد تكون تعسفية، وصار القلق مبعثه هذا التساوي بالثقافة والدراسة..
الزوجة المتعلمة لم تعد صورة لأمها تقنع بأبسط الحاجيات وهي ترى التنافس بينها وبين زميلاتها، وعادت بنفس الوقت بحوار جديد مع جيل مختلف عنها، أي أن المعركة انتقلت لجيلنا من خلال نافذة جديدة هي الزوجة وحملتنا همومنا وهموم جيلها السابق، ولهذا ترى أننا أكثر توترا منكم.
ويبقى شيء أخطر هو أن المظاهر التي نتسابق عليها، كما تعتقدون، هي التي كانت في نظر من سبقوكم (حرام) عليكم.. “التواليت” أو تقصير الشعر و الدخان والراديو الخ كانت في مجتمعكم شذوذا، وما تروننا عليه الآن سيكون مسألة زمن ، وتصبح أشياء طبيعية..
ما أريده أن لا تفهم انني أشجع الأنواع الشاذة وغير السوية ولكنني لا أجد أن المعارضة منكم ذات هدف محدد. أي أننا في نظركم كحروف العلة.. - يا عزيزي فيما قلت شيء يقنعني، وينفذ إلى أعماق لم أكن أدركها – ولكن التهمة لا زالت قائمة عليكم – أو على جزء منكم بدون تعميم..
ما تقول بخبر نشر بالصحف المحلية يفيد أنه تم سحب خمس وثلاثون ألف سيارة تالفة من شوارع جده؟ وبماذا تفسر زواجا يكلف نصف مليون ريال؟
قد تقول إن هذه تهمة غير قابلة للتعميم، ولكنها ملحقة بكم وبزمنكم ويصدق عليكم المثل العامي (فراشك مفروش وماك مبرد).
الشعور بالنقص هو السر بالبذخ أو عقده الجاهل.. وأنا أطلب عفوك على هذا التوصيف. والجهل قد لا يكون صفة ملازمة للأمي المحروم من التعليم ولكن الجهل احيانا يكون تصرفا سيئا بوسيلة حضارية.. 90% ممن يستعملون الساعة يجهلون خطوط العرض والطول، والقياسات الزمنية.. ومثلها أنتم مسألة التنافس على المظاهر هي اقتناء وليست حاجة، ولهذا كان سبب الأزمة، وعدم تلاقينا على حل..
خرجت وبنفسي شيء من هذا الحوار الساخن، وقد تناولت قرصين (اسبرين) وأغلقت النافذة عن ريح الشمال الشتائية، وعدت أقول إن أشياء أخرى كثيرة تستحق البحث والمناظرة..
أمية.. وست جامعات
الغرام بين القارئ والكاتب مفقود في بلدنا، وانحصار القراءة بين شبابنا أم لم ينتبه إليه أحد.. تسأل أي شاب لماذا لا تقرأ؟. وتجد الجواب..
- (ما عندي وقت)..
. والوقت الزائد في حياتنا الاجتماعية ليس له عقوبة ذاتية. كلنا يعرف أننا في الوظيفة الحكومية نشكو (البطالة المقنعة) وفي بيت كل أسرة نشكو ازدحام الأفراد العاطلين عن أداء أي نوع من النشاط المنتج..
و.. و(ما عندي وقت) نعرفها كسلوك داخل مدارسنا الطالب يهمه أن يحصل على درجات الفصل الدراسي الأول من المنهج.. ( وربك يحل الباقي).. والتاجر يفتح التاسعة صباحا، إذا كان مجتهدا ويرغب الكسب الجيد، وإلا (فالحاجة لغيري) وهو الأكثر ضررا، دون أن يهمه مسألة العامل أو الموظف..
والفتاة تواجه أمورا خاصة بها، وضمن دائرة التقاليد والعادات لا تستطيع أن تزق كل الأسباب، ولكنها مع ذلك تهتم بأصباغ وجهها وأظافرها أكثر من معرفتها السلوك التربوي، والصحي لطفل المستقبل، أو تكسر جمود وقتها بالقراءة..
هناك من يقول إن الكتاب صار بسعر (الهيل) والزعفران ووجوده نادر. والمكتبات العامة غير متوفرة بشكل مريح ومكتبات المدارس والجامعات بدائية وغير جادة.. ومعونة الكتاب التي أصبحت ضرورة أكيدة لم تحصل على المحامي الذي يدافع عنها.. ولكن مع وجاهة الأسباب المطروحة إلا أنها ليست كلها صحيحة..
في معرض الكتاب الذي عرض بدار الكتب بالرياض سرتني وساءتني ناحيتين أظهرتا حالتنا، ولو بشكل نسبي.
الأولى أن ما شاهدته من زبائن المشاهدين والمشترين وهم فقط أبناء الفلاحين والمدن الصغيرة وأصحاب الدخول المتوسطة من طلبة المعاهد والكليات الشرعية واللغوية..
رغم غلاء الكتاب، وهو الأمر الخارج عن المتعهد عن المرض كما فهمت منه شخصيا..
والثانية أنني لم أر طلبة جامعة الرياض رغم وفرة المراجع التي تهم طالب الهندسة والكيمياء والآداب والتجارة والذين هم عادة أحسن حالا من الناحية المادية..
وسؤال خاطر.. هل نحن بحاجة إلى ست جامعات وعدد سكاننا حتى الآن متواضع؟.
طلبتنا خارج العالم من الناحية الثقافية، أو الاجتهاد في التخصص وتوزيع مجموعات الطلبة القليلين على ست جامعات بميزانيات مستقلة وبعثرة جهود ومناهج وأساتذة هي أساليب غير واقعية مع ظروفنا..
لماذا يكون لدينا ثلاث كليات للطب، وأخرى للزراعة، وأربع غيرها للعلوم والتجارة والآداب، بينما كل كلية لم تصل إلى حجم فصلين دراسيين في مدرسة ثانوية؟.
وطالما أن الإعانة والسكن والمصاريف الأخرى مبذولة للطلبة بالتساوي فلماذا لا يكون التركيز على جامعة أو اثنتين وهو أفضل من تعدد ست جامعات تشكو قلة الأساتذة والمعامل والمباني؟
من قال إن بناء مدرسة معناه إغلاق عنبر في السجن صحيح.. ولكن من قال إن جامعة بحجم مدرسة ثانوية، وكلية بفصل دراسي عادي بمدينة كبيرة كالرياض أو الدمام هو نفس التجاهل للخطة التعليمية الصحيحة..
نحن نشكو من أمية الجامعيين وضعف تخصصاتهم العلمية والسبب لا يعلمه إلا من هو على رأس الجامعات من المسئولين المباشرين..
وإذا كان باب الاجتهاد لم يغلق في بحث مثل هذه الأمور فإنني لا أعلق الشؤم على سارية باب أحد، ولكن الموضوع يحتاج إلى إعادة نظر وبحث بدون اختلاف في المزاج، فإنني مع المنتظرين، ومرحبا بقارئ جديد يكافح الجهل بأضعف الموارد المالية وأضعف الإيمان..
للشاعر (فهد العسكر)
كفى الملام وعلليني
فالشك أودى باليقين
وتناهبت كبدي الشجون
فمن مجيري من شجوني
وامضني الداء العياء
فمن مغيثي من معيني
أين التي خلقت لتهواني
وباتت تحتويني
أماه قد غلب الأسى
كفى الملام وعلليني
الله يا أماه في
ترفقي لا تعذليني
أرهقت روحي بالعتاب
فأمسكيه أو ذريني
أنا شاعر أنا بائس
أنا مستهام فاعذريني
التاريخ: 19 – 02 – 1399 هـ
0 تعليق