.. وعودة.. لحوار هادئ

آفاق | 0 تعليقات

قال:

  • إنك في الحوار السابق تطل على الأشياء بعين واحدة وتشم بثقب واحد من أنفك!۰
    قلت:
  • إن الرؤية غير مختلفة بين الاثنين بحد فاضح، بدليل أنهما يعبران عن مرحلة لم تغطس بعد في مضاعفات الماضي، إنها معاصرة لنا كلنا، ولذلك نجد أن الأزمة ليست بسقوط أحدهما مهزوما بقوة اقناع الآخر.. فهذه المسألة عادة تخضع لقوة الثقافة وحجة الإقناع. والأسلوب يختلف بين واحد وآخر.
    فالذي تجده عند الأول أسلوب واقعي، وجاد.. تجده عند الثاني رصين وهادئ، وكل جدل لا بد أن يخضع لمضمون واحد، هو جدل قد يصل إلى نتيجة وبصرف النظر عن الذي يتركه من افتراق بين المفسرين أو المعللين.

لا يحضرني اسم ذلك الفقيه الذي افتقد صوت جاره المغني، فراح يسأل عنه فوجده مريضا، وذهب ليجلب الله الطبيب والدواء، ليعود ذلك الصوت المفقود لغنائه ومثله في مكة كثيرون كانوا يطربون لشعر عمر بن أبي ربيعة، دون أن يغير ذلك من قوة مواقفهم من أي قضية تمس العدل، وهذا ما جعلهم أئمة عصرهم، وممثلي أجيالهم..
أما حاسة الشم، فقد تكون عندي ضعيفة، ولكن هذا لا يغير من أن الورد ينبت على السماد العضوي!!

قال:

  • ما تقول بأشياء غابت عن حوار صاحبيك في أنها تمس جانبا من موضعهما!؟.
    قلت:
  • إن الحوار مفتوح، ولقد أشرت إلى إنني خرجت منهما وفي نفسي أشياء قابلة للحوار.
    قال:
  • إن الموضوع يتصل بقيم، وأسلوب حياة آخذة بالتغير، ويصحب هذا عادة صراع بين محافظين، ومجددين…
    قلت:
  • إن هذا هو الإطار الذي انطلق منه اساس الحوار
    قال:
  • أمهلني حتى أتم ما أريد، وأرجو ان لا تكون شرقيا بضاعته الدفاع عن أمور تافهة، فقد ذبحنا من الوريد إلى الوريد بمجادلات المقاهي، «الدواوين» ولم نخرج منها إلا بأقل حالات الوعي، وأكثر حالات الخلاف!.
    ما يعنيني في الموضوع هو أن التحول في مجتمعنا أخذ يسرق تلك الواجهة الرتيبة في حياتنا السابقة..
    وصار الانقسام بثلاث واجهات.
    • نوع استفاد من وقته وفرصه، وقفز إلى سلالم الملايين!!..
    • وثان علق شهاداته منكسة إلى تحت، وانغلق على نفسه، وراح يندب آمال مجتمع مطرز عاشه فترة الدراسة، وجاء ليراه في مجتمعه!.
    • وثالث وقف مبهورا بين أصحاب الملايين.. والشهادات العليا يصارع حالات العدم ويستمع لرواية الصفقات الكبيرة، وكأنها من عالم غير واقعي؟
    • هذا الافتراق بين الواجهات الثلاث جر معه الحاضر بكل تناقضاته وصار معطلا لبعض الحواس، وتمرينا جيدا لأصحاب الطموح والغايات.
    قلت:
  • لقد فاتك شيء هام يتصل بهذا الموضوع، ولو من الجانب التاريخي..
    فسكان الجزيرة العربية، وخاصة شواطئها كانت ممرا لتجارة دولية كبيرة وبالتالي تأثرت بهجرات استوطنت تلك الشواطئ، وأثرت في حياة تلك المجتمعات وصار لها دور حضاري معروف.
    ولكن الوسط بقي قسم مهاجر فقط، ومحافظ على طبيعته لأنه لم يكن هناك ما يغري المجتمعات الأخرى بالتوجه إليه، وهذا ما جعله يحتفظ بأصالته وبنفس الوقت بانعزاليته، وصار التكيف مع الحاضر، أمر يحتاج إلى وقت، لا لنقص في المدركات الحياتية الجديدة، ولكن لأنه – كما قلت – مصدر هجرات تاريخية في السابق، بينما في الحاضر صار يستقطب وجوها غريبة عليه بمعایشاتها وسلوكها، وهذا أمر حتمي في التأثير على هذا المجتمع المحافظ..
    ومثله في ذلك أي مجتمع آخر، فالهجرات التاريخية بين الشعوب غيرت معالم مجتمعات كثيرة، وإن كان لا يعنيني البحث في هذا الموضوع في هذه اللحظة، إلا إنه بتعلق في طرف من علاقات مقبلة، ونماذج في الأجناس وهو الشيء الجديد علينا..

ضحك وتناول من فنجانه الساخن رشفه.. ثم اعتدل بجلسته، معلقا نظراته في السقف، كأنه يجلب عفاريت أفكاره..
قال:

  • هذا شيء صحيح، وأمر كهذا لابد أن يصحبه وعي باللحظة الحضارية – إن كان هناك من يجيز هذه التسمية – إن الخروج من قمقم التصنيفات القديمة مسألة محاطة “بجبائر” المكسرين، والعميان، والصم، وأنا أكون منزوعا من الحاضر، وإن كنت لا أستطيع معرفة ما يريد هذا الجيل وما سيكون عليه..
    فقد ابتدع غرائبه بنفسه، وشكل من حاضره ما أسميه عنفوان عدم القبول بالأشياء، وهذا الطرح للواقع بسلوك مغاير للمطلوب يتحمله ليس هذا الجيل وحده، ولكن أجبال مقبلة عرفت التلاقي البشري بطرق مختلفة من الاتصال السهل والممتع، والعنيف بآن آخر.
    والمحير أنه واقع تحت التأثير الاجتماعي العالمي، وينسى أن الرؤية المحلية غير مجدية، ولا تجيب على التساؤلات التي يطرحها، وهذا التساوق والافتراق..
    وانتقاء الصفات، وتركيبها ليس عيب الجيل وحده، ولكنه تعريض بأن الأساسات الأولى غير متقنة التركيب ولا تواجه المشكلات العصرية إلا بأحد أمرين.
    إما بالتعبئة المضادة، وبفقدان الأمل في السيطرة على الحاضر الذي ينسكب عرقه على الأجساد والعيون..
    وإما بترك هذه الأشياء تعبر عن حالاتها بتلقائية ولو كانت تتصرف بحاستها السادسة وهي التي تعيش مركبات الازدواجية والمرض الكوني بكل أثقاله!!
    وكلا الأمرين معضلة، والخروج من تصعيد هذه الأزمات لا يحكمه أنا وأنت ولا بقية العشرات الذين يتفاعلون مع هذه الظروف، أو ينسونها في زحمة مترادفات المشاكل الشخصية الصغيرة، وهو ما يسمى بالعري العالمي عن الأشياء!!
    قلت:
  • إنك تسوقني لعنفوان المراهقة الدولية في حسابات اللا معقول والتشرد الإنساني، وطبع العصر باللا انتماء وهي الحالات التي قد لا تصل إلينا بنفس العري والتمزق الذي وصل إليه الغرب، وانتفاء هذه الصورة في مجتمعنا مبعثه أنك تعيش على الصورة المظلمة، والواقع الجانبي منا.. أي أن ما يحيطك مقصور عن خلافات عصرية، ولكنها متفاوتة التوقيت، والانتقال الاجتماعي.. وإذا أردنا الالتزام بعصرنا، فإننا يجب أن نواجه الموقف بتحليل أكثر إنصافا لحالتنا المختلفة عن الغرب أو الشرق
    إن الترابط الاجتماعي والتكوين الأسري والتخلف التعليمي ليس مبعثه هذا الهيكل الذي تريد أن تدخلنا في دوامته بدون إدراك للخلاف الحقيقي لنا ولغيرنا.
    فالسائل النقدي وحده، عملة جامدة وغير متحركة حضاريا إلا بالإنسان الذي يدرك ويخلق ويحمي هذه المبادلات المادية، وبدون رؤيته الجدلية العصرية يحتل رقم الأصفار الصغيرة، ويصبح اعتمادا سريا جاهلا، في المبادلات الدولية، أو النقدية!

نظر إلي ببلادة ظاهرة، و”نتف” من شاريه أكثر من شعره، وتأمل في وكان ما قلته مجرد بديهات لا تستحق أن تحتل هذا الوقت من الإصغاء أو التأمل، أو حتى الاسترسال في المناقشة لولا أنه أعاد الصورة مرتين من أساسها، واستعرض كل احتماليات تلك الجمل ومترادفاتها وأنا أتأمله بحيرة مؤلمة، وأستعرض كبرياءه وعدم تسامحه مع الوقت، ومعي.. إلا أنه سريعا ما قطب عن جبينه وأعاد هدوء نفسه وجديته ليقول:
-كل شفرة قد تحلق أكثر من ذقن، وكل حذاء قد يلبس أكثر من قدم، ولكن لا تساوي في العقول والأمزجة ولا حتى في الظروف الاجتماعية عند الإنسان..
إنك تحاول أن تلبسني قيودا عقلية حتى في أرقامك واسمح لي إني أراك تعاند على جهل واضح.
فليس فقيهك متوسط الذكاء، وغير متورم اللوزتين والحنجرة.. إنه يفهم وقته وعصره، ولكنه لا يظاهره لأن المجتمع كله متساوي الثقافة، وهذا ما جعل شعراء كثيرين يعبرون عن وقتهم بأكثر حالات الشذوذ فيما نراه في عصرنا، وتلك قيم اجتماعية خلاقة في تاريخها متوافقة عصرية مع الفقهاء وعصرهم.. ولكنهم أبدعوا لنا تلك الثروة العظيمة في جعل الفكر الإسلامي أحد وسطاء القانون الدولي، وأحد مراجع جامعات «كالسوربون في فرنسا” وجامعات في إنجلترا.. وغيرها من الدول الإسلامية غير الناطقة بالعربية.
إن المحفوظات في تراثنا أصبحت مأزومة بفعل، مترادف.. أما الخوف بأن تكون تفسيراتها مجحفة، أو مستغلة بسبب الاشتقاقات اللغوية.. وهذا ما يجعل المحافظين عليها معطلون فكريا وانسانيا، وشفرة حادة على قطع كل أوراق تتصل بالحاضر والماضي والمستقبل

تريثت قليلا، وحركت عباءتي الصوف فوق كتفي وتصفع وجهه، وعينية الزائغتين، وخصلات شعره المسترسلة السوداء على كل قمة رأسه.. وبأدب متواضع قلت له

  • الغريب أنك تجادلني بنفس الأسلوب والمرحلة التاريخية، وهذا ما يجعلنا نتلاقى على أزمة معروفة..
    ولكن ما رأيك بأن كتابا في أقطار عربية كثيرة اعتزلوا الكتابة للكبار ليخاطبوا الصغار كأجيال للمستقبل وبأنه من العبث إصلاح الكبار، وأن عملا تربويا من الحداثة يستطيع أن يبني جبلا عربيا أقل عقدا، وأسرع وصولا إلى بناء حياة معاصرة..
    ولو اتجهت الثقافة في مدارسنا إلى تنشئة صادقة ومخلصة وربطت بمجمل قضايانا لانتهت فوارق الأجيال وأغلقنا الفراغات بينها ولصارت الأحداث مطاوعة لنا لا علينا..
    قلت:
  • إنك تطرح بعدا عربيا كاملا، وإذا كنت أسلم معك في العودة إلى بناء الطفولة، فإنني أجد عندك روحا غير أنانية على شطب جيلك من قائمة الموجودين، إلا أنني لا أسلم مع كتابك بعدم إصلاح أجناس موجودة معنا وإلا لعدنا لمسلسل فوارق الأجيال ومشاكلها.
    وإن البناء ممكن، ولكن الخلافات على الوسائل، والغايات هي التي طوحت بنا في متاهات الدروب الطويلة
    إننا لا نتعلم من أعدائنا سلوكهم معنا، بدليل أنهم الرابحون دائما لأنهم يجدون البيئة صالحة للدخول إلينا من خلال أنفسنا..
    عفوا أعتقد أن النقاش أخذ مسارا جديدا، وهذا ليس موضوعنا.. کم كنت أتمنى لو أنني سائق رافعة أو حفار بأحد شوارع بلادنا، على أن ينزع من دماغي هذا التليف الذي يسير بي وراء خيالات بعيدة لأمارس عملي في حالة الواقع، ولكن من العبث أن تنقش على “الكثر” ثم..
    وهنا توقف، وشعرت معه أنني لا زلت جاهلا.. وصغيرا أمام قضايا كبيرة كهذه.. ودعته مستأذنا، وقفلت راجعا من حيث أتيت!!.

المطلوب عصر الخرافة

كثير من الأصدقاء والقراء يقولون.. ولماذا لا تستمر في الكتابة على نمط مقالك السابق «قصاصات من دفتر الماضي»؟.
حين فكرت في كتابته، كان الغرض الأساسي كسر جمود الكلمة الجادة والناشفة، والعودة إلى تلك البساطة في حياتنا الماضية.
وأنا لا أدري هل روح الحكاية الخرافية جزء راسخ في تكوين الإنسان الحديث، وأنه مل الثريات ومناديل الورق، والطرق الثعبانية التي امتصت آلاف الأجساد والعودة إلى عالم الروح والعفاريت.
من تجربتي الشخصية أجد هذا صحيح، فأنا أعشق قراءات الأساطير اليونانية والهندية القديمة، وأجد لذة كبيرة في كتاب “أساطيرنا الشعبية” للأستاذ عبد الكريم الجهيمان. وأنا لا أدري هل تلك الحكايات والأساطير جزء من وجدان يعشق البراءة وروح الغرائب الشريرة والخيرة التي هي دائما متعاملة مع رحلة النفس البشرية التي تكره الجفاف العاطفي؟.
في دراسات كثيرة عن سيكلوجية الضحك نجد أن الباعث الأساسي في تلك القهقهات هو رؤية موقف شاذ أو حكاية شاذة..
ولدينا مثل عامي قريب الصلة من هذا الموضوع..
المثل يقول «المجنون براحة».. فهل سلوك المجانين، وتصرفاتهم هي الأشياء التي نتمنى دخولها، ولكن الرادع هو تخوفنا من بعضنا!!۰
في كتاب كليلة ودمنة، عاشر الفيلسوف “بيدبا” عالم الطبيعة من الحيوانات غير العاقلة، وراح يمسخ الإنسان، طرح كبرياءه وغدره وبدائية تصرفاته.
ولو سكنت النفس الإنسانية الحشرات والوحوش، وعالم المايكروبات لتضاءل وصار طعما سهلا لتلك المخلوقات التي يفرض سيطرته عليها..
ما أرجوه أن لا تفسر هذه السطور بأنها إعادة لطلب دعاية لمقال سابق ولكنها رد على الأصدقاء، الذين سألوني عن ذلك..

من ديوان.. (شاعرات من البادية)
يا عين هلي صافي الدمع هليه
وإذا انتهى صافيه هاتي سريبه

يا عين شوفي زرع خلك وراعيه
شوفي معاويده وشوفي قليبه

إن مرني بالدرب ما أقدر أحاكيه
مصيبة ياوى والله مصيبة

اللي يبنيا عيت النفس تبغيه
واللي نبي عجز البخت لا يجيبه
(نورة الهوشان)


التاريخ: 26 – 02 – 1399 هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *