لست أدري لماذا دائما لا تخدمنا المواقف ولا اللحظات التي تنشأ أحيانا لصالحنا.. ولا أعرف لماذا لا يكون لدينا الإدراك الكامل لرؤية ما سيحدث أو التنبؤ به؟
قيل مرة أن العربي لو يدخل في مسابقة المناقشات (البيزنطية) لأخذ السبق بين أفراد العالم..
وإذا كان الغرض من هذه المقولة هو ترجمة غير واقعية لاندفاعة العواطف العربية، فإنها تعطي جزءا من الحقيقة، أو تضع شيئا قريبا من الصحة لأن قناعاتنا في مجالات كهذه قد تكون مغايرة للواقع..
المشكلات التي تفرقنا من الداخل يختلف تفسيرها بين الساسة، والكتاب وحتى فئات الشارع الواحد، أو البيت الواحد.. والنتائج دائما تكسب من خلال تناقضاتنا.. أو بتعريف صحيح نكشف (شفرتنا) وملفاتنا السرية بحالة من التنويم المغناطيسي العجيب، والمؤثر.. وهذا ما أفقدنا التلاحم أو التلاقي على نقطة نرتكز إليها..
تعريفنا للحرب – مثلا – يأخذ مرة اسم التحرير، ومرة اسم الردع، وثالثة اسم الدفاع عن مقدساتنا وحقوقنا، ونحن نستعير هذه التعاريف من طرق العالم القوي الذي يعطي لكل اسم من تلك الأسماء مدلولا سياسيا وقت الأزمات التي يخلقها، او يريد صنعها وتصديرها للعالم الضعيف..
في لبنان المئات من الجثث تتساقط، وآلاف المهجرين يتسكعون في مدن العالم باسم العربي المشرد.. والقافية السياسية عندنا تأخذ أوزانا مختلفة.. فهي حرب طائفية لمترجمي التمزق الوطني ومفلسفي عقد التاريخ الاجتماعي.
واقتصادية لسحب القوة المصرفية والسياحية للبترودولار العربي وسياسية.. لقفل النوافذ والسطوح على الشخصية العربية أن تستثمر قواها السياسية بشكل مستقل ومحايد على المناطق الساخنة والباردة في العالم..
هذه التعاريف نكتبها ولا يقرأها أو يحللها إلا نحن، وعارنا أننا نتخذ من هذه التصرفات حججا في تصنيع ضعفنا أمام أنفسنا وأمام غيرنا..
والأعجب أن نظل في حالة سكون وتبلد نقرقر (بنراجيلنا) على تلال الرمال، أو بين المصحات الصيفية، وسريعا ما يتحرك هذا السكون، إذا ما عرفنا أن هناك غزلا سياسيا بين اسرائيل والصديقة العريقة اسبانيا.. أو بين اسرائيل ودولة افريقية أو آسيوية صديقة، وهذا التراكم من العقد النفسية مؤشر إلى أننا لا نميز مسيرتنا ولا نقرأ واقع العالم برؤية شخصيتنا الضعيفة المتهالكة..
من بعد ما نسميه حركة التحرر العربية، ما هي الرؤية المتواضعة التي قدمناها كدراسة عربية شاملة عن مصالحنا ومبادلاتنا مع كل قوى العالم.. وما هو التقييم الجيد لتاريخنا الحديث بكل تناقضاته وعلله.. وكيف نستطيع الموازنة بين إفراطنا في الابتعاد والاقتراب من أنفسنا كوطن واحد- حسب نشرات الأخبار، ودروس المراحل المتوسطة – وبين واقعنا الحقيقي التي تظلله الإقليمية والمصالح الفردية، والانتماءات المتعددة التي تستوطننا؟.
أحد الفلاسفة أعطى تعريفا جيدا لعالم الظواهر.. فهو يقول: إننا أمام رسم لكوخ غارق في واد نختلف في تعريف المعنى العاطفي أو الفني لهذا الكوخ.
فمن يرى أنه ملجأ العاشق الذي يهيم بالانفراد عن العالم وآخر يأخذه بالمعنى الجمالي للطبيعة والكون، وثالث يراه الفراغ الكامل والعقدة المستديمة لعدم الاندماج في العالم الإنساني..
فإذا كانت هذه الاختلافات مجرد تصور وهي التي تغني التجربة عند الفنان الذي يحاول استنطاق الأشياء.. فإنها تختلف عندنا في المنظور السياسي والاجتماعي..
فالأول قياسه جماليا – كما سبق أن قلت – بينما الثاني قياسه خاضع للتجارب والارقام واستقراء الأبعاد الثلاثة الزمنية.. والأول تعريفه فرديا وذاتيا، وليست له أضرار عامة.. الثاني تحول في المضمون والفكر، وخطوة غير متراجعة في النهايات وجدل دائم مع الزمن والارض والإنسان.
الأحداث التي تعبر الآن من حول الخارطة العربية لها ألف وجه، وذراع ومختلف الأطعمة والأذواق.
لكنها عربيا مجموعة من حالات الطقس البارد والحار أي أنها ظواهر طبيعية كحالات الفصول الثلاثة..
ولكن هذا التعاقب لا يشمله مسح شامل أو قراءة جيدة لمنسوب المطر والجفاف.. وهذا ما يتلف الإنسان الذي يحاول تعقب هذه الحالات بترتيب الأحداث وقراءتها بلغة قريبة من التقييم الصحيح.
في الستينات حدثت وحدة بين مصر وسوريا وحدث اتحاد بين الأردن والعراق وكانت بعض الدول العربية تعيش في قبضة الاستعمار، والأخرى غارقة في مجابهة حالات أصعب من الأمية وغيرها..
وانتهت تلك المشاريع والتحركات السياسية وغرقنا في فلسفات الانكفاء الذاتي والدخول في المخاصمات الشخصية والوطنية، وحملنا أنفسنا إلى العالم بصورة تؤكد أننا في السلم قبل الأخير من العناصر العالمية المتخلفة حسب ما صوره هتلر لنا -..
وتتابعت الكوارث ونشأ ما يسمى بالفاجعة الصامتة حينا، والمتكلمة في نوع من الانكسار والحياء المغبون حينا آخر، وسخر منا أكبر ساسة العالم.. فمن قائل إنه يكره القهوة لأن فيها المرارة العربية.. وآخر يرى أن الشرق الأوسط، وخاصة الوطن العربي لا يستحق الاهتمام السياسي الذي له تأثير عالمي على أي مركز حساس على العالم الحر أو الشيوعي.. ونستهلك هذه الجرعات بحالات من التخدير والغفوة، والشاعر العربي المسكين ينشد:
أمة العرب لن تموت وإني
أتحداك باسمها يا فناء
وكأنما نعيد سير التاريخ.. فإذا صدق المؤرخون بأنه في العصر الأموي الأول قد افترقت مجاميع من العرب الحجازيين ليناصروا الخوارج، وأن أمراء الطوائف استعانوا بالإفرنجية على بقية الأمراء العرب في الأندلس فإن هذا التشيع لا زال ساري المفعول في الدول العربية الحديثة، وإن تغير الأسلوب والموقف.
إذا كان العالم يرانا بعين مختلفة إلى حد ما بسبب مصادفات حصلت في التاريخ العربي الحديث، فإن هذا ناشئ عن الإحساس بأهميتنا التي تحاول أن تقتلها من مواقع مختلفة ولكن هذه الأهمية لم تكتسب قوتنا نحن، وعدنا إلى اجترار إسقاط أنفسنا بأنفسنا، فكل حادث تتصرفه أي دولة هو ايماء من دولة أجنبية ملتحمة بحلف سري معها.. وصار لدينا دول الرفض، ودول محافظة. ودول.. ودويلات الخ.. وكل صحيفة تنطق وكأنها المفوض السامي عن أي دولة خارجة من النطاق العربي، ويسود اعتقاد عجيب بأن كل اللقاءات التي تتم بين وزراء الاقتصاد، والزراعة، وشئون البحار.. وغيرهم من الوزراء العرب هي استهلاك للصحافة عن (جمع الصف.. ووحدة الهدف) بينما الحقيقة هي سيطرة الاحساس العام عند المواطن بأنها دوائر مغلقة على كل التناقضات، وأنها لقاءات استهلكت في كل تلك المواقف دون مردود، وأنها تتغير بتغير الشخصيات العربية، وأن التعامل لا زال تعاملا بين حكومات، لا تعاملا لمصلحة شعوب المنطقة بأسرها بصرف النظر عن بقاء أو انتهاء أي شخصية حاكمة عربية وهذا ما يسمى بعدم وجود استراتيجية موحلة عربيا لا تخضع للخلاقات الاقليمية والشخصية التي تنشأ عند أي سبب، أو يصحبها في الحالات الخطيرة افتعال أزمات قد تصل إلى المناوشات العسكرية..
قد تخجل كمواطن من هذا الجو المحموم، وتتعلل بالحيل عند مناقشة أي أجنبي يجاملك في بعض الأحيان، أو يسخر منك بباطنه عند دفاعك الحار عن العرب والتسلط الأجنبي وحالة دول العالم الجنوبي الفقير، وعن الإمبريالية والاشتراكية، ولكنك لا تحمل أي دليل يحميك ذاتيا من هذه التعابير الذي حملها عالمنا بجهل وسطحية أو نفاق سياسي واجتماعي..
لقد أعجبني رأي ابن قيم الجوزية في حوارياته مع الفلاسفة حين قال ما مضمونه، إن الله استطاع أن يخلق العقل الإنساني، ولذلك فإن ما يبلغه هذا العقل من تفسيرات أو حتى احتجاجا لا تصل إلى حد الانتقاص من قدرة الخالق العظيم، ولذلك فإنه أكبر من أن يضيق بعقل إنساني ضد مخلوق!!
هذا التفهم لعلامة كهذا يجبرنا على سحب التشويه لتراثنا، واعتقاد أنه متعصب وغير ايجابي، وأن الشخصية العربية الحالية هي إفراز تاريخي لتلك العقد التي تحرم وصول المرأة إلى أي منصب اجتماعي، وإباحة الرقيق، والاهتمام بتزين واجهات البيوت والحمامات في هندسة معمارية منتقاة من حضارات انسانية هدمها العرب، أو توسطوا بإيصال أجزاء منها فقط دون التأثير في عمق تلك الحضارات إلى العالم الحديث..
ما يعنيني أن الارتباط عربيا بعجلة الحاضر لا يوصل بحذف عقل البيت العربي أو الفرد العربي بتحديد أكثر، جلب سكان من الفضاء ليحلوا مكان السكان الأصليين..
فإذا كان القول بأن المبادئ تعيش وتتكيف مع الأوضاع الخاصة والمرتبطة بأي اقليم، وبلد، فإن نجاح تلك المبادئ والنظم مرهون بتوافقها مع المرحلة التي تستطيع أن تستقطب صورة العالم المباشرة، وغير المباشرة، والتفاعل مع الزمان والمكان بصورة تلتقي مع روح العصر وبانجذاب إلى تحقيق شخصية العربي والاستفادة من التناقضات وتحويلها إلى جدل سلمي وعقلاني يحمي هذه الشخصية من التبدد والانهيار..
ولعل ما يغري المتتبع للأحداث العربية الراهنة أن العقل بدأ يأخذ حالة خاصة من الصحو – وإن كنت شخصيا غير متفائل – فإن هذه الدعوات إلى تكتيل الإمكانات العربية، ونسج صورة للوحدة بين دول الخليج من جهة.. وسوريا والعراق من جهة أخرى.. ومحاولة طرح أبعاد مماثلة للمغرب العربي وبعض الدول العربية الأخرى، فإنه يجب أن لا تكون هذه المواقف بالشعور فقط بحالة الخطر، أو استنفار الشعور القومي بالأحداث القريبة، وكأن ما نعمله يسجل دوريات غير مستقيمة أو كأننا نعيش للأزمات الطارئة.. والسؤال النافر دائما:
• كيف سنكون بعد ربع قرن من الآن؟
• وهل سيتوقف الزمن والعقل البشري في أحد محطات الكرة الأرضية في انتظار عودتنا من الهزائم النفسية، والتوقف العقلي لنصل إلى درجات القبول في الدخول لعالم الكون الحضاري؟..
• وهل ستتم الوحدة أم التقسيم النفسي والعقلي إلى جانب التقسيم الجغرافي المكرس حاليا..؟
لا شيء يغير هذه الأحوال، ولا يطمئنها إلا عمل مشترك مقبول، يعكس نتائجه صريحة، والوقت لازال معنا إذا عملنا معه.. وإلا فإن أطراف الخارطة ستتآكل، وتتناقص وسيكون الغزو خطيرا تنفذه الجهالة العربية، وتصوره أجهزة الإعلام بحفل افتتاح جديد.. وسنقرأ على مفترق الطرق لوحات ارشاد مجهولة الهوية على أرض عربية ونقرأ على احدى لوحات المظاهرات العربية (يعيش غاندي باشا)!!
شاعر وسط الزمن
الشاعر الرباعيات اليومية، والمقطوعة الأسبوعية الطويلة أستاذنا الشاعر (محمد حسن فقي) هو الأكثر اشعاعا في زمن العتمة الأدبية في المملكة..
والمتتبع لهذا الشاعر الكبير يعييه هذا التكاثر والإبداع، وتدوير الحركة اليومية ومزجها بحركة الزمن العربي العجيب.
إن استاذنا الفقي يجبرنا على البحث عن أساسيات شخصيته الفكرية ويضعنا أمام احتمالات كثيرة، ومتنافسة فهو يعطي لديمومة الشعر العربي العمودي صورة جديدة، ومعاصرة.. وينمي إدراكا ظل زمنا ليس قصيرا، بأن هذا الشعر مقبرة الإبداع الشعري الجديد..
ويواجهنا بإحساس مغاير لذلك التوتر أو الشعور بانتهاء زمن القصيدة العمودية.. وهذا ما يجعلنا نخضع هذه الرؤية إلى أن الأبعاد الشعرية ليست ملتصقة برجعية العمود الشعري،، أو القصيدة الحرة..
وأن العملية إبداعية، وأن التواصل التاريخي في شعر تقليدي أو حديث ليس له زمن محدد أو شخصية بارزة واحدة.. إنه هذا الخلق المتضامن مع وحدة الكون الشعري واقتطاعه، أو اختصاره لأي مرحلة كانت والقفز إلى رؤى المستقبل برؤية معاصرة وجديدة.. وهذا ما يجعلني شخصيا -رغم انتمائي للمدرسة الحديثة في الشعر – أجد في شاعرنا ما يحملنا إلى بعد آخر في تقييم هذه المرحلة الأدبية التي تحتاج إلى إسماع صوتنا المهتز..
ولعلى أطالب شاعرنا بأن يبدأ إخراج دواوينه الصامتة حتى الآن، ليسمع آراء وأفكارا معاصرة له.. وحتى نعاصر مرحلة اهتز فيها الإبداع، وشل قدراتنا المحلية أن تبعث شيئا يستحق من يسمعه أو يقرؤه..
إنني أجد مساحتنا محتاجة الى إلقاء شعلتها بشيء جيد وجديد ولا أرى من يستطيع أن يحتل هذه الساحة، والمسافة بين جيلين معاصرين إلا أن يحمل الأستاذ الشاعر محمد فقي ابداعاته لنا.. ويتكرم بإعادة كل قصائده في دواوين مطبوعة تكون ملتقى هذا الجيل..
• • •
أخي الأستاذ محمد العبد الله الحمدان – الرياض –
أشكر لك رأيك وملاحظاتك حول ما كتبت لي عنه.. ومسألة الاستفادة من الوقت لازلت أصر على أنها غير مكتسبة لدينا.. وإذا كان قتل الوقت بأي اسلوب – ولو كان فرديا – هو التقاء على حل هذه الأزمة، فإنه بدون شك غير ممكن.. ومسألة التقريب بين حالة المواطن من جهة، وضياع ساعات كثيرة من وقته هي أمور لا ينفع فيها الارشاد، لأن العامل المهم فيها هو استعداد شخصي واجتماعي، ولا ينبع ذلك إلا من وعي كبير بأساسيات الحياة التي نحن عليها..
لقد قلت مرة أنه لو وجد الاستعداد لدينا بأن نتبرع بجزء من وقت العطلة الأسبوعية، وعلى سبيل الافتراض بساعة واحدة.. کم سنحقق من مردود اقتصادي وحل أزمة في أي مدينة وقرية في المملكة، وكم سيكون العمل عظيما ومشتركا بين أبناء القطر الواحد؟
إن الإدراك لقيمة الزمن أمر يحتاج إلى مناقشة كبيرة وهذا ما أتمنى أن يكون من جميع من يأزمهم هذا الشعور
مرة أخرى أشكرك.. وأرجو لك التوفيق
التاريخ: 03 – 03 – 1399 هـ
0 تعليق