رجل يقف على بوابة العصر…

آفاق | 0 تعليقات

أشعر أنني لن أزيد بشيء عما سيكتب أو يقال عن جائزة الدولة التي منحت لثلاثة من كبار كتابنا ومؤلفينا الكبار..
فرغم التشابه في مسار حياة كل منهم حين نجد أن الثلاثة الفوا بالتاريخ وأنشأوا مجلات وصحف، وأقاموا مطابع، واهتموا بالتراث الشعبي، والعربي، فإن التمايز بينهم يقع في النشاطات الأخرى والمساحة العربية والدولية التي وصل إليها كل منهم..
ومع تقديري للعطاء الكبير الذي يشكل شخصياتهم إلا أنني سأجدها مناسبة أن أتحدث عن علامتنا وشيخنا الكبير حمد الجاسر، وأنا أدرى الناس أن هذه المساحة التي تغطيها هذه السطور ليست إلا خلية صغيرة في معمله الكبير..
نحن نتذكر أن هذا البدوي الذي غامر بحياته بكثير من المواقف حين كان (مطوعا) بين أبناء البادية، ونجا من أكثر من حادثة، إلا أن سيرته الذاتية تعد تجربة جيل كامل تذكرنا بأوائل العظماء الذين تتضاءل قامات الكثيرين حين يرون تلك الأسفار الضخمة في التاريخ والشعر والكيمياء والفلك والرياضيات وغيرها..
ربما أن هذا الشيخ خرج من قريته بــ (السر) وهو لا يدري اتجاه الريح التي ستقذف سفينته، ولكنه بفطرته اتجه إلى العلم، رغم تواضع الحياة وأسلوب التعليم، ولكنه استطاع أن ينفذ بحدسه إلى ما هو خارج النوافذ الصغيرة في تلك الحلقات الدراسية وإلى محيطه الكبير الذي خلفته أمته خلال أجيال ضخمة..
قد يهم الآخرين أن يفهموا أن هذا العلامة تخرج من بوابة المسجد قاضيا، ومن ثم معلما فمديرا للتعليم، وبعد ذلك يتجه إلى مهنة المصاعب ليسجل في تاريخنا اول رجل ينشئ مطبعة وصحيفة لتبدأ المسيرة الطويلة حادة وشاقة جعلته يواجه التحدي الاجتماعي بشخصية الجندي الشجاع بكل ما تحمل هذه الكلمة من زخم ومفاجآت في المواقف..
إن تجسيد شخصية المعلم في الأستاذ حمد ظلت إلى هذا اليوم وهي ميزة مغايرة لجيله ممن يتحصنون وراء أسفارهم بعزلة صوفية ليطلوا على مجتمعاتهم من خلال كتبهم أو أحاديثهم للإذاعة أو التلفزيون..
الشيخ حمد هو الذي يبحث عن التلميذ وعن الموهبة، وتلك مقدرة خاصة، إن لم نقل إنها مسؤولية من يعتقد أن العلم والبحث ليسا بوفرة القراء فقط، وإنما وجود العينات التي لا تسقطها المتاعب، وهذا بحد ذاته يتجاوز مفهوم المثقف أو القارئ العادي، إلى وجود من يواصل هذا المنهج.. ولقد استطاع بجهده الخاص أن يستخلص النماذج التي تصلح أن ترث هذا الجهد، رغم تعدد الثقافة ومصادرها ومنهجية التخصص التي فرضها العصر قد أصبحت أحد العوامل التي توزع ميادين الثقافة إلى عشرات المدارس، مما يجعل الإحاطة بها، وربطها بمتغيرات العصر ليست قضية سهلة..
ولو أردنا أن نعرف المنهج الصارم الذي ارتبط به الاستاذ حمد، لربما وضعنا في مسألة وقناعة قد لا يستطيع المداومة عليها إلا القلة من الرواد الكبار..
من هنا لم يكن التاريخ عند الأستاذ طقوسا، أو حوادث أو سيرا ذاتية لأشخاص، وأبطال، وإنما هو تفاعل هذه الاشياء في محيطها الأكبر، أي أنه نتاج حضاري متشابك صنعته جملة ظروف وتقاليد وأعراف، وهنا كانت الجغرافيا ليست موقعا جامدا سكنته أنماط بشرية عابرة، تخلت بفعل ظروف عادية.. الجغرافيا عنده، كما قال عنها الدكتور (جمال حمدان): (هي دراسة في عبقرية المكان).. أي أنها مؤثر في مسار حضاري متواصل، وعلى هذه القاعدة تشكلت رؤية أستاذنا حين أصبح أحد الأفذاذ في تدوين جغرافية الجزيرة العربية على اعتبار أن مجريات التغيير ليست وقفا على عوامل التعرية أو التقادم الزمني، وإنما لأن مشروع التخصص في هذا المجال أصبح يتعرض لاجتهادات معظمها تنصب في الحقل الأكاديمي الذي يتوارث مصادر من الأطروحات الجاهزة، خاصة، وأن التراث العربي تعرض لأكبر عملية ابتزاز وتزييف، وهذا بحد ذاته يجعلنا نسلم بصعوبة مجالدة البحث عن المصدر الأساسي ومطابقته للمعارضات الكثيرة التي توزعت على الروايات الصحيحة أو غير الصحيحة..
أظنني لا أستطيع أن أقيم التاريخ من أي موقع كان، ولكنني أجتهد بجملة الحقائق والأفكار التي طرحها الأستاذ الجاسر خلال مساره الطويل، ويكفي أن لقاءه التاريخي بالمجمع اللغوي بالقاهرة كان شهادة إثبات لقدرة شيخنا حين كان ترشيحه لعضوية مجمع الخالدين بتوصية من عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. وإن لم تخني الذاكرة فإنني أتذكر أن أستاذنا وقف بين الأعضاء ليبدأ حديثه ببيت المتنبي في قصيدته الشهيرة حين قال مخاطبا الرئيس والأعضاء..
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

لكن الحاضرين وبينهم الأستاذ العقاد هو الذي قال إن ترشيحك لم يكن يحصل إلا بجهود نشاطك في تحقيق عدة كتب للجامعة العربية، شهدت بكفاءتك..
وإذا كان شيخنا الفاضل قد أكرم في محافل عربية ودولية، فإنه مثل عظيم أن يخترق هذا القروي، أو البدوي حاجزه المتواضع بين الكتاتيب وحلقات الذكر، إلى أن يصبح علما بارزا في هذا العصر المعقد..
إن التكريم الذي جاءه هذا المرة من وطنه سواء بشخصية قيادته، أو مواطنيه، إنما يعني تتويجا لسيرة هذا الأستاذ الذي عاشر بيئة، وتاريخا يصعب معهما الحصر أو الفرز، وربما لا نقول إننا نحتفل مع الأستاذ بهذا التكريم، وكذلك زميليه الشيخين الأستاذ السباعي، والأستاذ الخميس، وإنما يكرم بهم الوطن
وحين تكون هذه الكلمة تتجه إلى الأستاذ الجاسر بمعظمها، إنما لانفراد شخصيته ليس بين الأحياء من هذا الجيل، وإنما بين أجيال مختلفة أصبحت في ذمة الماضي..
وإنني أدرك أن شيخنا لا تستهويه لغة المديح أو الإطراء ولكنني أرى أن من الأمانة الأدبية أن يفهم صورة خاصة عن مشاعر أبنائه على أقل تقدير ، وأنا لا أزعم لنفسي أنني قادر أن أواجه عطاء الجاسر الكبير بالتحليل ، أو النقد ، لأن ذلك لا يتأهل إلا لمدرسة كاملة تلتزم بآفاق هذا الأستاذ الموسوعي ، لأنه ذاته مدرسة كبيرة في التاريخ والأدب واللغات إلى جانب تخصصه النادر في جغرافية هذا الوطن الأصيل وجهده النادر الذي نذره إلى أن يعطي بتواضع العالم وشخصية الأب وقيادة الحكيم في عصر أصبح تساقط العظماء من المفكرين والعلماء أمرا مؤسفا..
وإنها سطور صغيرة في محفل أستاذنا، أرجو أن تكون مجرد تحية له، ولزميليه الرائدين.. ولهم أماني بالتوفيق والعمر المديد..

نحن.. ومنزلقات العصر!!

أنماط ثلاثة تشكل حزام الضغوط المباشرة على أجيالنا الحاضرة.. هناك فئة تتطرف لتضع الموانع سلوكا يوميا يمارس على الابن والبنت، وربما الاسرة كلها..
هذه قد تنطلق من رصيد الخوف في عصر أصبحت حدود المكان والزمان متقاربة إلى حد الالتصاق والتفاعل.. وهذه، بالقطع، تجتهد من موقع مسؤولياتها وانفجار الزمن الذي أصبحت ملاحقته عملية صعبة، وبالتالي انعكس هذا التوتر والتعصب على قضية الرفض الممزوج بروح المقاومة لأي طارئ جديد..
الفئة الثانية هي التي تفسر من موقعها، أن هذه الأجيال نتاج عصر كامل، ويصعب التحديد، أو ممارسة الضغط، أو المجابهة ولذلك اختارت أن التجريب والممارسة هما العاملان النهائيان في تكيف الأشخاص وخلق أنماطهم وسلوكهم من هذا الموقع.
تبقى الفئة الوسط – وهي التي تمارس عادة الاستسلام ورؤية الأشياء من منظارها العام دون أن توجه أو تتدخل حتى في أقصى الحدود السلبية، وهنا كان الفراغ الحاد بين صدام جيل واحد يتقاسم المكان والزمان، ولكنه لا يتمازج بالتجربة أو الفعل..
إن الوسطية التي أعنيها هي أن نتخذ من حركة مجتمعنا وتداخل تجاربه دراسة عميقة وميدانية، والتدرج باحتواء هذه الأجيال بما يتفق والحركة اليومية للإنسان في هذا العصر..
إن المعرفة وحدها بخصائص الحاضر هي أحد المخارج إلى صياغة تجربة خاصة بنا، حتى نقع في مواجهة متضادة قد تكون خسارتها صعبة، وغير قابلة للتعديل.
أجيالنا محتاجة إلى معايشة صادقة وهادفة لأنها لم تنعزل عنا ولكننا نحن الذين بادرنا بخلق هذه الفواصل ولذلك لا بد أن نسعى إلى التكيف معها مهما كانت المخاطر والتضحيات وتلك هي سيرة مجتمعات سبقتنا وعرفت كيف تصل إلى شواطئها الآمنة.


التاريخ: 19 – 10 – 1403 هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *