يقال إن طاقاتنا العاملة صغيرة جدا بالنسبة لسعة مشاريعنا ويقال أيضا أن شبابنا «اتكالي» وغير واقعي وأن متغيرات “النعمة “عليه قد أضاعت الممتلكات التي قد تعطيها طاقاته المخزونة.. ويقال أشياء كثيرة جدا، قد يصل بعضها إلى بعض الحقيقة، ولكنه يتجاهل مجمل الظروف التي تطورت معها هذه التهمة.
وطبيعي أن يكون لأي بلد نام تقاليده الخاصة، ومعها مشاكل متعددة ومتطورة، والخلاف هنا ليس بالطبيعة البشرية ذاتها بقدر ما هي المسببات الأصيلة لمجمل الظروف التي تخنق أي مبادرة للتطوير أو تحسين أي حالة يركن إليها مجتمع كهذا
والحلم الذي يراود كل إنسان هو أن يبني و اقعه وفقا لرغباته وبأقل الممكنات أو الجهود، وهذا إحساس بشري يجعل الربط بين الجهد و الحافز والممكنات العامة كلها أدوات تنشيط لتطوير قدرة أي إنسان و استغلال عطائه وبالتالي تفاوتت قدرة كل فرد عن غيره، وصار ما يعرف بالتخصص وبالإنتاجية “المبرمجة” وعرف المعنى الأساسي للجودة الإنتاجية وربطها بكافة الظروف الاقتصادية والتعليمية و أيضا الاجتماعية.
وإذا لم نذهب بعيدا كمقياس لواقعنا خاصة، فإننا لن نخرج عن القاعدة العامة لأي بلد مماثل، من حيث مختلف الظروف ولذلك فإن حسابنا مع أنفسنا يجب أن يكون بالقدرة على فهم هذا الواقع وإدراك الحدود التي نشأت منها كل التبدلات الجديدة.
لنأخذ مثلا ما يحدث بين شهادات التدريب والشهادات التقليدية والقياس أو المقارنة تأتي من قابلية الاحتياجات الضرورية لهذه الشهادة أو تلك وهذا ليس افتراضا وإنما تحدده هذه الحاجة وعلى هذا الأساس أوجدت المعاهد والكليات المتوسطة للتدريب، بجانب الجامعات والمعاهد العليا..
من ناحية أخرى قد لا تكون حقيقة أن شبابنا يبالغ بقبول الترف وعدم الرغبة في العمل، وهذا نوع من المخادعة التي صورت لنا، وأيضا يجب أن لا يكون هذا دفاعا عن بعض التجاوزات لمن عاش تربية اتكالية، لأن القرار والطبع الذي تربى عليه هو الذي هيأ هذا الشخص وأوجده بنفس المناخ الاتكالي لكنه لم يكن مبررا أن يصدق على الآخرين بقسرية هذا التعميم.
شخصيا أعرف أن «سابك» طلبت عددا محدودا من الشباب لتدريبهم وتأهيلهم للصناعات التي ستنشأ في «الجبيل وينبع» ولم يكن متوقعا للغير المتفائلين أن يتقدم ثلاثة أضعاف العدد المطلوب، وبالقياس أشياء كثيرة تحدث، ولكن هناك سؤالا ملحا، لماذا «سابك» وغيرها في حين يتم الهروب من القطاع الحكومي الرسمي، والخاضع لنظام الخدمة المدنية بالذات؟! قد تكون المبررات كثيرة وسخية وكلها تنصب بالخروج من دائرة نظام الخدمة لا لعيوب كبيرة فيه، ولكن لعدم مرونته، وتوافقه مع التحولات التي تحدث كل يوم في نطاق العمل الرسمي او القطاع الخاص.
والأمثلة كثيرة، وحديثة جدا، وقد نطرحها بدافع واحد لا غيره هو أن يظل ديوان الخدمة هو “عمود التوازن” في حل مثل هذه الإشكالات أو التسهيل إلى حلها مع الجهات العليا إذا كانت خارج دائرة صلاحياته
تصوروا أن مجموعة من الشباب ربطت احدى الوزارات الحكومية عقدا مع شركة أجنبية، ونصوص هذا العقد فرضت تدريب هذه المجموعة لتحل مكان العاملين من هذه الشركة، وأوقف لهذا الغرض مبلغ احتجز بالوزارة حتى يتم تنفيذ هذا الاتفاق.. وقد تم بالفعل حسب رغبة هذه الوزارة وبمؤهلات وطنية صالحة لإدارة الأجهزة وبقدرة متساوية مع عطاء الأجانب وبأقل مرتب “طبعا” لكن ماذا حدث؟!
الشهادات أرسلت لوزارة التعليم العالي، لتقدم للجنة المعادلات.. واللجنة مكونة من عدة “دكاترة” في جدة والدمام والرياض أي بمختلف الجامعات بالمملكة، ومعنى هذا أنه يستحيل اجتماعهم إلا بفترات دورية، أو ترسل هذه الشهادات لكل واحد منهم لإعطاء تقييمه الخاص، وسيكون المخرج القانوني للجهة التي ترغب تعيينهم، هو أن تقدم لهم رواتب مقطوعة، بحدود المرتبة التي يمكن تعيينهم عليها!!
والمسافة الإجرائية تمتد حبالها طويلا، هذا إذا لم يكن الديوان له الاعتراض المباشر عن الأسباب التي دعت إلى تدريب هؤلاء، ولماذا لم يكن له رأي بالزمن، والتوقيت والمصادقة على نوعية هذا التدريب.. وكل هذا بحكم التنظيم جيد، وحقيقي، ولكن الديوان بكفاءاته المحدودة هل يستطيع متابعة كل عقد مع الدولة وخاصة إذا كان فيه بند لتدريب مثل أولئك الشباب لاستخدامهم في قطاع حديث وحساس وله علاقة كبيرة في الآلية الحديثة؟!
أنا شخصيا لا أجحد جهود الديوان، ولكنه – واقعيا – غير قادر، وهذا ليس عيبا، ولكن المؤلم أن تتعطل كل هذه الجهود في سبيل سلوك الطريق الأصعب، وتتحول القضية من حماس هؤلاء الشباب إلى صدمة تتسع مع مدار الأيام، إلى تعطيل كفاءاتهم.
هذه التجربة أيضا تتصل بالأزمة المتحكمة في الهروب من القطاع الحكومي، وهي نتائج قد تكون شخصية بحتة وفيها أيضا تجاوز للامتيازات التي حصل عليها الدارس في الخارج، ولكن هناك ما يتصل بهذا الموضوع كطرف معنوي وهو التفاوت بالكفاءة الإدارية، وعدم توافق التخصص مع نوع العمل، وهذا الموضوع ذبح إلى الوريد بالحديث والنقاش.. لكن ما أريد أن أصل إليه أن هناك ثلاث صدمات تقف أمام أي متخرج جديد وعلى الأخص من هم في مستوى معاهد التدريب المتخصصة أو النادرة لحداثتها وجدتها بالنسبة لمجتمعنا
1- العوائق الطويلة بالتقييم والمعادلة وتثبيت الوظيفة والراتب وهذا يتأتى معه عدم التنسيق بين الإدارات الحكومية والديوان من جهة، والخطوات البطيئة التي يتبعها الديوان بإجراءاته غير السريعة..
۲- عدم مرونة النظام في تقييم الوظائف بين من يحمل ما هو أقل من الجامعة، وخاصة في مجال التدريب وبين الإشكالات النظامية بعدم احتساب سنوات التدريب ، إلا بما عرفه الديوان وحصره بجهات معينة وهذا جعل القطاع الخاص هو الكاسب الأكبر من هذا المؤهل الجديد..
٣- في حالة الخوف من التراكم الوظيفي، بالمراتب العليا، وهذه مشكلة قائمة بحد ذاتها، فإن اللجوء إلى المكافآت، والحوافز، والبدلات قادرة على التوفيق بين الوظيفة وبين حامل المؤهل وخلق هذه الظروف الملائمة وأعتقد أنه ليس من الضروري أن تعيش على الترتيب القديم للشهادات، وهو الوقت الذي كان القطاع الإداري هو محور المشكلة في حين كان الدارسين في المعاهد الفنية والزراعية، يلتمس لهم أي حل في توظيفهم بأي قطاع ولو كان اداريا!!.
الدارس للنواحي الفنية في الحاسب الآلي أو مناهج التدريب على صناعة “البتروكيميائيات” يختلف تماما من حيث الأهمية والحاجة، وحتى نواحي الخطر، من متخرج من الثانوية العامة يعمل في المحاسبة أو شئون الموظفين.. وهذا التفريق لا يأتي من عدم الحاجة إلى التخصصيين، ولكن سوق العمالة والحاجة هي التي تفرض هذا السبب، وتأكيدا على هذا ما يطبق على المتعاقد في المرتبة والراتب وحساسية العمل، وندرة الحصول على هذه الكفاءة من مصدرها الأصلي.
والتخصص الفني أصبح حكرا دوليا، وقد ينطلق من نواحي كثيرة، أهمها توطين اليد العاملة الوطنية والاعتماد عليها في الانتاجية، إلى جانب أعراف متعددة، قد لا يتسع لها هذا الموضوع، تدخل في صلب البدهيات الاقتصادية العادية.
شيء آخر يثار كثيرا ، وفي مجالات متعددة، أن معظم الصناعات الأساسية، أو المشاريع القادمة للدولة مساهمة كبيرة فيها سواء برأس المال أو بالنظام الذي ستقوم عليه هذه المصانع أو المشاريع فإذا كانت القدرات الاستيعابية للقطاع الحكومي، لا تستطيع خلق الفرص السريعة لهؤلاء الشباب، بحكم أن معظم مجالات التدريب أو الابتعاث للشهادات العليا جاءت بشكل غير مدروس ، أو لصالح مشاريع أعيد النظر في صلاحيتها، كما هو الحال في البعثات التي أرسلت لمشروعات التغذية المدرسية، فإن إمكانية حصولهم على فرص وأعمال ملائمة بتلك الشركات أو القطاعات التي ساهمت الدولة فيها بشكل مباشر لا ينفي تكامل التقاء هذه القوى العاملة بمصلحة واحدة.. ونقيس على هذا تطورات كثيرة محتاجة لهذه الطاقات مثل «سعودة” البنوك، وهي خطوة جديرة بالاهتمام والدعم لا سيما وأنها تتصل بمكونات اقتصادية جبارة.
وأخيرا إن أحدا لا يستطيع أن ينفي الحالات السلبية بين شبابنا – كما قلت – ولكنها ليست كلها أساسية، بدليل أن من تحول منهم إلى القطاع التجاري الخاص أبدى قدرة عجيبة في الإنتاج ودراسة استيعاب السوق وتنمية موارده بشكل سريع وجاد.
إن تعدد الصدمات، قد يكون منها ما يعيد الوعي ولكن الصدمة الثالثة والعنيفة، قد تثمر السلبية، ونخسر جهة عريضة في مجتمعنا تعلمت، ودربت، ولكنها أصبحت ضحية الروتين، والعلاقات البطيئة في استغلال تحمس هذه الطاقات الجيدة والمنتجة، وهو الأمر الذي يترك للديوان بالدرجة الأولى.. والذي نعرف أنه القادر على الرد بجواب عملي يرفع كل الحصارات عن مميزات الوظيفة الحكومية وقدرتها على الاستفادة القصوى لمختلف الإدارات والمصالح..
مسودة مدينة
ذبحته الغربة زمنا طويلا، كأي مواطن عربي يبحث عن فرص أفضل للعيش، والدراسة، والوظيفة الجيدة، ولكن التغرب لم ينسه أرضه العربية ولا شعبها..
درس الهندسة وشيء من تاريخ، وتقاليد الشعوب التي ارتبطت بفنونها، وحتى الحديث منها، خاصة فيما يتصل بالهندسة المعمارية..
- قال لقد أربكتني الرياض بعمارتها، وشتات مواقعها، وهذا بحكم أي ناقد هندسي يجد أن هذه المدينة يمكنها أن تكون نموذجا جديدا في العمارة العربية الحديثة ولكنها بالظروف الموجودة ستكون متعبة جدا لأي جهة مسئولة عن أي مرفق، ومكلفة بإعادة تخطيطها لأي بلدية تحاول أن تفرض تقاليد جديدة نابعة من تاريخ هذه المنطقة
قلت.. - قد تكون الظروف التي حدثت بالسنوات الأخيرة مربكة لأي أسلوب بالتخطيط، أو الإعمار، أو حتى إدارة جهاز من هذا النوع، هذا إذا ما عرفت أن سكان الرياض تضاعف إلى ثلاثة أمثالهم، وهؤلاء يحتاجون إلى الماء والسكن والمواصلات، وبقية الاحتياجات الضرورية التي لا يستغني عنها أي إنسان..
رد بهدوء.. - ولكن ليس هذا سببا أساسيا، طالما أن المركزية في التخطيط بين البلدية المركزية، وهي القادرة على اقتطاع جزء من الأرض، وفرض نوع من الشكل الهندسي المعماري يكون النموذج الذي يقتدي به الآخرون، وهذه فلسفة لا أبتدعها، وإنما هي موجودة في بلاد كثيرة من العالم..
قلت.. - (ولكنك تحتاج إلى بحث طويل مع أمين مدينة الرياض ليشرح لك المعوقات، والضغوط التي واجهها، ولكنني أعرف من خلال ندوة عقدت بهذه الجريدة أنه لا زال يبحث عن النموذج الذي ذكرت، ويبحث عن خصوصية البيت بهذه المدينة وتقاليده، ولكنني أجهل تماما الوقت الذي سيكون عليه هذا البيت الذي يملله تلك الخصوصية
ضحك، وليداري مجاملتي قال.. - (أنا أدرك أن الإمكانيات المادية ليست وحدها كافية، ولكن يجب أن يكون معها الجهاز العامل، والفاعل والذي يملك كافة الصلاحيات والروادع، ولكن ظروفكم قد تكون شاذة تماما بحكم التوسع غير المعقول في العمران)
سألته.. - لكن هل تعتقد أن الرياض لازالت (مسودة) مدينة فقط، وأنها تحتاج إلى إعادة (تبييض، ونسخ) من جديد؟.
لم يرد مباشرة.. ولكنه عقب أن هذه مسئولية مشتركة وتخص الجميع!
للتصحيح فقط..
في مجلة (الفصول الأربعة) نشر استعراض للتراث الشعر الشعبي في عدة أقطار عربية، وهذا أمر طبيعي لأي مهتم في هذا الفن المتعدد الجوانب.. لكن ما أثار فضولي في البحث، أو الاستعراض أن الكاتب تحدث في سياق موضوعه عن الشاعر الذهبي (محسن الهزاني) وأورد خمسة أبيات من شعره الغزلي، ولكنه قال إن الشاعر أحد المشهورين في هذا اللون من التراث الشعبي في العراق، وخاصة في الشعر..
وليس يهم أن يكون هذا الالتباس حاصلا في مصدر ما، ولكن العجيب أننا نملك تراثا كبيرا، وخاصة في مجال الشعر، دون أن يكون هناك الاهتمام المباشر به.. وهذه مسئولية مقسومة على طرفين متعادلين بالأهمية، وهما الجامعة، وجمعية الفنون والآداب..
أما الهزاني- وإن كان شاعرا نجديا – فإن من يريد تصحيح مثل هذا الالتباس عليه أن يتابع أحدث ما ينشر في هذا المضمار الذي تهتم به كل شعوب الأرض وأعني بما يعرف في فن (التراث الشعبي)!
عربيا أفهم أن العراق، ومصر بالدرجة الأولى هي أكبر بلدين حققا جهدا كبيرا في هذا التراث..
وعالميا دخل ميدان الدراسة في الجامعات والمعاهد المتخصصة، وأصبح يدخل أي مسابقة، أو مناسبة تربط بتاريخ ذلك البلد.. ولكننا لا نعرف إلا مناسبة واحدة تنقلها الجامعة كنوع من المناظرة، وبين شعراء احياء. ولكن الجانب التوثيقي، أو تحقيق هذا التراث لم يصل بعد إلى الصورة التي تقيم هذا التراث..
وكل بحث و (الهزاني) بخير!.
التاريخ: 11 – 01 – 1401 هـ
0 تعليق