(السنع) عند (المستر فادن)!
قالوا لقد بكى الناس على طيبه الذكر. شركة ( ابكو) يومها كانت الرياض تقاس بالمدن المعقولة وكانت مصلحة الهاتف ادارة عامة تابعة لوزارة المواصلات ويومها أيضا كانت الإمكانات البشرية ضئيلة جدا بالنسبة للحاضر، ولكن (ابكو) (شالت) عفشها وتوكلت على القدير إلى حيث لا رجعة!
والفاصل الزمني بين ذلك الرحيل واليوم لم يقس حتى الآن بالسنين الضوئية، أو أنه تحققت المعجزات، ومعها المسرات رغم الميزانية الضخمة لوزارة البرق والهاتف والبريد، ومعها الكثير جدا من الكفاءات والتعاقدات مع شركات متعددة الجنسية..
وإذا كنا لا نريد أن نطالب بالمستحيل، ولا نرغب التهويش على أحد لأن الوطن لا يجزأ، ومسئولية المواطن لا تجيء بالإعارة، أو الملاحظات برؤية صوفية..
الهاتف واحد من الضروريات العصرية، ولم يعد ترفا نضعه كجزء من زينة الصالون، أو غرفة النوم.. ولازم جدا في مدينة كالرياض تعيش مشاكل السير والحفريات وطوارئ الحريق والإسعاف لمريض، ولا أريد أن أتغزل بالمزايا الكثيرة لأخرج قصيدة (هاتف)، كالشعر الكهربائي المقفى، أتلوها بالهاتف وأبعثها بالبريد واللاسلكي!!
القصيدة هي موقف لمواطنة جاءت تستغيث لمركز الهاتف (علیشه).. روت حكايتها مع (تلفونها) استعطفت أي مسئول تشاهده.. ولكن المشكلة أنها لا تعرف إلا لغتها العربية، والمحيط بها من مسجل أسماء المراجعين وهو أخ (باكستاني) لا يفهم إلا كلمة (بطاقة) مرورا بمكتب (خواجه) في الدور الأرضي كلهم لا يفهمون العربية لكن الله فرجها بأن حضر أخ (صومالي) يكسر بلغة (سيبويه) تعرف على شكواها، وأنها اضطرت لاستئجار (تاكسي) لتعرض مظلمتها، وأن هذا الهاتف هو الوسيلة الوحيدة بربطها بزوجها المسافر خارج الرياض، وكذلك مدرسة أبنائها وبقية لوازمها..
وكالعادة سجل الرقم والرقم القريب من منزلها للاتصال بها ومعه الوعود والتحية الباردة المختومة بشكرا
وجاء دوري، لم أكن غريبا عليهم، رغم أنني لا أحسن من اللغة الانجليزية إلا كتابة اسمي عند الضرورة فقد عشت مع هذه المشكلة وتكررت وسمعت الشيء الكثير حتى آخر صرعات الإعلام بأننا أفضل بلد بالعالم في وسائل الاتصال!! وهذه أمنية نأمل أن تتحقق ولو بمستوى جيد يغاير بعض البلدان المتقدمة..
المهم أن مواطنا نزل من (الرفوف العالية) والتي لا ترى إلا بواسطه، وبعد التحقق من الهوية والأصل، وإن كان القيم على ذلك، أو الحارس الأمين من اخوتنا (الباكستانيين) الذين لا يحسنون العربية جيدا بل اللهجة العامية كمرفق يراجعه العشرات من الناس الذين قد لا يحسنون القراءة والكتابة..
أقول نزل هذا المواطن.. وبعد أن «عدل المرازيم» ونسف أطراف الشماغ (البسامي) جلس على طرف الكرسي الذي عند (الخواجه) وقد لفت نظره وقوفي أمامه.. قال..
- هاه وش عندك!!..
قلت.. - لا شيء الموضوع أنني للمرة الرابعة أقف في هذا المكتب وأبحث عمن يدلني على أي علاج لحرارة هاتفي
ضحك بتواضع وحرك رجله اليمنى لترتفع إلى اليسرى.. - ومتي سكت المرحوم؟
- من أيام المطر الأخيرة..
- أكيد ( كيبل).. لا.. أكيد ۰۰ هاه..
وصمت لحظة ليتشاغل بجلب ورقة يسجل عليها – كالعادة – الرقم وبقية المعلومات..
ابتسمت وأنا أعرف سلفا أن هذا مجرد (روتين) مألوف.. لكن قلت أجرب.. والحق لا يضيع إذا كان له طالب.. - الاسم من فضلك.. رقم الهاتف.. المنطقة..
أمليت كل طلباته.. وانتظرت أن يكون هناك على الأقل دليل أصل إليه بقناعه عن سر خلل يدوم أكثر من اسبوع.. لكن صوته قطع على هذا التصور ليقول.. - هل جاکم بالحارة فرقة إصلاح؟..
قلت.. - لم يحصل حتى اننا (بخرنا) التلفون، وقرأ عليه ضيف عندنا من شيوخ (ديرتنا)، وبعد صلاة الوالدة «العجوز» دعت أن يمنحه الله الحرارة!
کویناه عند السلك الموصل.. وصارت «أشباهه» خفيفة دم بنقش الجدري (اللي) على وجهه!!
ضحك.. وشاركه الضحك حتى تلك الأخت المهمومة.. ومراجع آخر جاء ليقول إنه وجد فاتورة (لهاتف) لم يوصل لمنزله!!
قال.. - أبشر.. موضوعك هذا اليوم الساعة الخامسة مساء، أو غدا ستجد حرارة تلفونك قد وصلت..
رديت.. - ولكن كلمه (أبشر) صرفناها من كل مشروعاتكم، وبطاقاتكم ولكنها غير مقبولة التداول، وهي كالكلمة (المسكنة) والقاطعة (ما أدري)!!
قال.. - لكن أرجو أن تثق بكلامي وتأخذه مجالا للصدق والتجربة أكبر برهان!
في اليوم التالي لهذا الحديث راجعت، وبحثت بين الوجوه المتعددة عن ذلك الصادق الطيب، ولم أجده!
لكن آخر أخبرني – بعد منازعه لطيفة – أن (السنع) عند (المستر فادن).. وهذا المستر لا أعرفه.. ولكن الأخ (الباكستاني) رشحه لأن يكون صاحب الحل.. ولا أدري إن كان يعرف من بين الأفعال الأربعة فعل الأمر، وقرأ شيئا من سيبويه حتى أستطيع التفاهم معه مستقبلا.. لكنني عدت وبنفسي شيء من برودة الهاتف وكل سيول وأمطار وأنتم تنعمون بربيع أخضر.. واتصال أسرع، وما على الله عسير!
مواقف النبلاء
في الاحتفال الكبير، والثاني لتسليم جائزة المغفور له جلالة الملك فيصل العالمية.. وقف المندوب الخاص عن العلامة المسلم سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، وسط الحشد الكبير.. ليعلن قبول هذا الشيخ للجائزة، لكنه فاجأ الحضور بأن تقسم مبالغها أجزاء ثلاثة تشمل مؤسسات اسلامية ومعونة للاجئي أفغانستان..
وإذا كان مثل هذا الموقف نادر الحصول، فإن هذا الشيخ الزاهد يسجل موقفا عظيما يتكافأ وسمعته الكبيرة فهو قبلها من الناحية المعنوية والمادية، ولكنه أدرك من هو الأحوج والأهم في قيمتها المادية..
إن التضحية المادية، وهي جزء من خط هذا العالم الجدير، هي جزء من خطوط جهاده طالما أنها تصل إلى مستحقيها.. ومهما كانت المعادلة بين المعطي عن قناعة وسلوك شخصي يدفعه إلى ذلك احساس بروعة القيم.. وبين من قد يفسرونها لأي جانب خاطئ من منظور عدائي.. فإن المبادرات لا يضعها إلا الكبار، وبمواقف كبرى هناك موقف شبيه حصل بإحدى الدول الخارجية، حيث منحت جائزة أدبية لشاعر فيتنامي، وآخر عربي..
الفيتنامي قدمها هدية لشعبه في حربه مع أمريكا لكن العربي – وإن كان دوره بعد الفيتنامي مباشرة – لم يقدم على هذه التضحية للشعب العربي المكافح في فلسطين، رغم قربه من الثورة الفلسطينية، ولو من باب التماثل كموقف سياسي..
إنني لا أقول هذا ليكون كل الحاصلين على هذه الجوائز من المتبرعين وحرمانهم من حق هم أحوج به من غيرهم، لأنه جزء من تكريم جاء بفعل جهود كبيرة وكريمة ولكن وضعت الموقفين كحالة تسجل كيف أن النبلاء لا يموتون أو يستهلكون في دوامة الظروف العاجلة، أو المستحدثة..
إنهم نبات فطري يعمر بعض أجزاء هذا الكون وتحية حارة لهذا الشيخ الجليل..
أبو منفاخ!
يداه الضخمتان تجدفان ذهابا وايابا لتشحن «المنفاخین» الجلديين بالهواء، وتفرغه في كير الحداد..
جلده الحنطي قد طار بفعل افرازات الحديد، وأصبحت البقع البيضاء تغطي مساحة كبيرة من يديه، ووجهه.. حتى أطراف شفتيه ابيضتا وداخلهما حمرة واضحة مميزة
دؤوب على عمله.. يدعك بقدميه القدور، حيث يضع بقاعها بعض الحصباء أو الرمل لتبيضها قبل (الرباب)!
وعلى ذلك الغربال الكبير صنع السكاكين، والمحاسن والفؤوس.. وبالمطرقة الخاصة لوی قاع (الصواني) النحاسية، أو نقش على (مثقاب) الدلة صورة حصان، أو طير..
معلمه الشيخ الفقير يصمت ويتجاوز كل هفوات هذا العملاق الضخم.. أو لعل صمته الدائم جاء نتيجة صمم خفيف من الطرق على الحديد
كانا أحد معالم ذلك الزقاق الضيق أو سوق (الصناعين) والعملاق أو الصديق الحميم للصغار شبه العراة والحافين.. يلاعبهم (طار الطير) و(حدارجا بدارجا) ويقص عليهم كيف يزوره العفريت كل مساء يتدفأ عنده في دكان الحداد.. ويعلق أنظارهم بسقف ذلك المحل الذي طلاه (السنو) ويصف الخطوط المتشابكة لأعشاش العناكب الميتة بأنها بقايا بساطه الذي يطير عليه قبل الفجر!
حار الناس بتفسير حياته وسلوكه.. كيف انه في الوقت الذي يتعامل بغلاظة مع الكبار لدرجة التهديد بأحد الأسياخ المحماة.. تراه يتعاطف مع الصغار بود فريد، يقاسمهم، إلى جانب العواطف، الحمص الأبيض، والحلاوة (أبو سبع حبات بقرش).. و (کلیجا) أم حمد!
في الظهيرة من كل يوم يذهب إلى سوق (القصابين) يجمع قطعا من الكبد، والكلاوي، وبعض المصران، ليعود بها إلى دكانه، أو سكنه الخاص، ليطبخ هذه المحتويات في إبريقه الشهير مع الشاي والسكر، ويضيف اليها التوابل لتكون وجبة عجيبة وغريبة!!
وبعد صلاة الظهر، وما يسميها وقت ما بين الصلاتين يرقد ما بين القدور والصواني يسأل الله العافية والتوفيق..
فجأة غاب هذا العملاق، وغابت معه ابتسامة الصغار وسلواهم.. وكعلم هام اختلطت الأحاديث والتأويلات حوله.. لكن راعيا قال إنه وجده ميتا، منفوخ القدم اليسرى، ويعتقد أنه مات بفعل لدغة ثعبان.. وكانت الحسرة الكبيرة على هذا الجبار العطوف حدثا هاما طوال شتاء ذلك الموسم.. وبقيت الحسرة الجريحة على رفيق دربه في تلك المهنة الذي مات بعده بسنتين..
كلمات ليست للمجاملة
في مستشفى الجامعة كفاءات وطنية رائعة، تعمل بصمت.. أي بدون مضاعفات دعائية..
ليس المسرة أن تجد مواطنا يتعامل مع المشارط والمعامل وغرف التخدير.. لكن أن تجد من يفهم إحساسك، ويتفاهم مع امرأة عجوز تحتاج إلى علاج نفسي قبل المضادات الحيوية أو المراهم..
ورغم ضيق المكان، والرواد العديدين من مختلف الجنسيات لهذا المستشفى فإنه – وفوق طاقته – يقدم ما تعجز عنه المستشفيات الأخرى، وباعتقادي أن السبب هو كفاءة الادارة والفنيين، وشعورهم بواجبهم الوطني..
إنني لا أريد أن أقدم تحية باهته للجامعة بسبب موقف وإنما أريد أن أقول أن الغياب الصحفي عن هذا المرفق لازال صغيرا أو متواضعا.. مع إدراكي أن كل العاملين بالمستشفى لا يرغبون حتى في تحية المجاملة..
وبصدق أقولها إننا بكفاءاتنا الوطنية لا زلنا بخير.
من كتاب الكنوز الشعبية
يا ورع ياللي ترود السوق
والنور قدمك من قدامك
يا ليت منهو بحلقك طوق
وعيف ربعي على بانك
واذوق من مبسمك لي ذوق
وتحصل أجر لشيبانك
ذوق حلا من حليب النوق
بين الشفایا من امتنانك
(***)
التاريخ: 04 – 04 – 1400 هـ
0 تعليق