بين الأرقام المتحركة، والتقسيمات المساحية المعمورة، والمزروعة أو المسورة كرقم راكد في السجل التجاري.. وبين زعيق السيارات وجنون المدينة، وسلخ القرية لقشرتها الطبيعية، لتستعمل مساحيق المدينة.. تقف الثقافة كمبنى بدون سقف أو أسوار، أو اضاءة.
في الماضي القريب، لهذه الجزيرة.. كانت الثقافة عمليه عصرية، أي ليست صناعة خاصة تنتمي إلى البيت الكبير، أو العرق الخاص ولذلك كانت الأهمية التي تعطى للمثقف بأنه واجهة حضارية وانسانية..
ومهما تكن الظروف التي يولد فيها المثقف، والمصادمات التي يعايشها فإنه لم يقع تحت التأثيرات، والتقسيمات السياسية الموجودة الآن كواحدة من أهم أدوات القمع والتذويب..
فهو – اجتماعيا – معلم، وأستاذ.. ورسميا فقيه أو شاعر او مؤرخ.. وبهذه الدوامة تجده الانسان البسيط الذي ربما احترف التعليم مجانا أو قضى بين الناس بما يعلم بغية الحسنات من الله تعالى..
تلك الشخصيات ربما إننا لا نقرأها إلا في كتب التاريخ، إذا كان هناك من رصد تلك الوجوه ونشاطها من خلال محيطها الاجتماعي، والتأثيرات الخارجية التي سكبت تلك المعالم الجيدة..
مثلا نجد ان خالد الفرج، وفهد العسكر.. وهما المحظوظان لأن كلا منهما عاش في بيئة استطاعت أن ترصد نشاطه.. نجد بالمقابل مؤرخين وفقهاء في نفس الفترة انتهوا، أو انتحلت أعمالهم بأسماء أخرى.. وهي المصيبة الأزلية التي ستبقى طالما أنه لا يوجد رصد مباشر وحفظ حقوق للمؤلف.
ففي المنطقة الغربية مثلا تكرم بعض المؤرخين لكتابة تاريخ شخصيات مكة، والمدينة، وجدة من زاوية السرد التاريخي لا التحليلي، وهي بحد ذاتها جهد مشكور لرسم مسار الثقافة في ذلك العصر..
وفي العصر الحاضر، ووسط التمييز الثقافي وتعدد الإنتاجات في مختلف الظروف الثقافية.. يطرح سؤال هام.. هل تميزت هويتنا الأدبية في الوقت الحاضر بأن أصبح لنا شخصيه خاصه؟!
قطعا السؤال تقليدي.. والجواب عليه صعب لأن التعامل مع المساحة الأدبية واشتقاقاتها، إلى جانب اختلاط، أو تماثل النتاج العربي مع بعضه بحيث أصبح كأنه يعيش حالة التناسخ، وانطباق هذه الحال عندنا، يجعل الفرز والتمييز يحتاج إلى معاينة خاصة، بحيث يتحرك الباحث مع نفس النتاجات، وهو الأمر الذي لا يستطيعه إلا ناقد متابع ومتفرغ، ويملك الحساسية النقدية المحايدة التي لا تزال بالنسبة لنا وظيفة شاغرة ومطلوبة..
لكن معالجة الواقع – ولو من باب الاجتهاد فقط – ممكن طالما أن هناك حدودا دنيا يمكن أن تسمح بها ظروف الواقع نفسه.. وبصرف النظر عن الأساسيات التي تلزم الباحث، ولا أعني بها الأكاديمي، فإنه يلتقي في هذا المقال على تصور معين ومعاش، وسأحصر الموضوع في القصة التي هي أحد المهمات الأساسية في نشأة أدبنا الحديث..
فقد نشأت القصة حسب حجم المرحلة التي عاشتها، وتصوراتها وحتى المنحنى الفكري لم يتعد تلك السذاجة التي ترويها الجدات..
فإذا تجاوزنا المفهوم العصري للقصة القصيرة، وتسامحنا مع كل من سعد البواردي، وحسن قرشي حين بدايتهما القصصية لا نجد إلا تلك الصور المعادة من قسوة الضرة، وشبح اليتيم الجائع الذي يتغذى على الأحلام الخ.
وهي معاني مصدرها القرية التي أنجبت المثاليات المطلقة والأشباح وغيرها كتعبير بدائي عن المفهوم الشائع والمتداول بين السكان..
وهذه القصص انتشرت على المستوى العربي كبدايات ساذجة، لحداثة القصة كفن عالمي، أولا، ولدخولها للأدب العربي بشكل خجول، وأسماء مستعارة كحدث مرفوض.. لكنها عندنا جاءت نتيجة ثقافه عربيه بحته أي أن الذين تناولوها في تلك البداية تثقفوا فقط على النتاج العربي، لذلك جاءت كسيحة سواء بمبالغاتها في تصوير البطل العملاق النافذ القوة.. أو الشخصية المهزومة والمسحوقة والمباشرة بكامل هيئتها، وكأنها قالب معد وجاهز..
ثم تأتي الفترة الثانية لتسجل بداية نشوئها في المنطقة الشرقية على يدي ابراهيم الناصر، وعبد الرحمن الشاعر، لترتحل إلى نوع من المعاناة الحديثة..
فقد ارتسمت شخصية العامل والعسية والبحار كأنماط تقف وسط المجتمع كأدوات قائمه تعيش بسلوك مميز عن عالم القرية الحالم.. ولعل تأثير المنطقة الشرقية كمدن تستقطب نوعيات عديدة من بيئتنا المحلية، إلى جانب الاشتراك في جو عمل واحد، وسط معدات، وآلات انتاج البترول، جعل هذه البيئة تتشكل كوحدة فريدة وخاصة، لكنها غير منفصلة تقليدا عن القرية..
من هنا تفاضلت الأعمال بين الكاتبين الثلاثة من حيث التعبير الصحيح عن هذا المحيط الجديد..
فحين نجد ابراهيم الناصر يتعامل مع البطل كصورة معلقه من خارج الصراع النفسي والذاتي، بحيث جاءت أبطاله من خلال الوصف الخارجي.. يأتي الشاعر ليحاول أن يتقمص شخصية البطل، ولكن ذاتية الكاتب كثيرا ما تفرض تصورها وأحلامها..
من هنا كان انعدام التكنيك المميز للقصة بين الكاتبين لكن هل هذا يعد خللا كبيرا، وبالذات
إذا ما عالجنا الموضوع من خلال المزامنة والتاريخ لكل قصة
ففي حين نجد أن التعامل مع الثقافة العربية كان أوسع، خاصة في انتشار الترجمة في الخمسينات والستينات للقصص العالمي، نرى أن بروز يوسف ادريس في القصة القصيرة حدثا غير عارض في اعطائها لونا مغايرا للترجمات أو النتاجات العربية الأخرى.
فهو يملك نفس «تشيخوف، وسومرست موم» ولكن بروح وشخصيات مصرية صميمه مما جعل أبطال الشاعر في مجموعته الوحيدة «عرق وطين» تدخل نفس الوسط الشعبي لتنفذ إلى المأساة لا كحدث طارئ، ولكنها ضمن مسار الحياة في أي مجتمع..
ولعل الانتقال من مجتمع القرية بكافة سكونه وأخلاقه، إلى منطقه عمل كل شيء يجري فيها غريب وحديث أعطى لأولئك الكتاب مرحله البدايات الأولى كقصة تحمل الصفات الأساسية لأي عمل فني..
وعلى الجانب الآخر نرى أن كلا من المرحوم سالم رويحی، وشيخنا الأستاذ أحمد السباعي يصوران مجتمعا أقل تعقيدا وإن كان البناء الفني يختلف بين الكاتبين
فالرويحي يبني أبطاله على عنصر المفاجأة، أو الكوابيس التي تنهي الحدث بأنه حلم لتنقطع الصلة والتجاذب بين القارئ والقاص على نهايات مبتورة أي أنها صناعه عاديه تقع بين القصص البوليسي، والقصص الفني وبالتالي خسر المنهج السليم في خلق شخصية اجتماعية تكتسب حياتها من ذلك المحيط المتفاعل..
بنفس الوقت نجد عند الأستاذ السباعي شخوصه وأبطاله من الفئات الدنيا ولكن بصفات ابن القرية المتمدين أي أنه لا يعيش ذلك التزمت أو الافتقار إلى محيط مدني راسي التقاليد.. وهذا ما جعل الأستاذ السباعي رائدة بحق، والذي يجعلني أقول هذا أن ثقافة شيخنا أكثر تأسيسا وعمقا من الكتاب الآخرين، لأنه زاوج بين ثقافته التراثية والحديثة وجعل من القيمة الجمالية حالة وسط بين الوعظ القصصي، أو المبالغة في خلق أبطال لا يحصلون في الواقع المعاش..
وإذا كانت القصة العربية عموما في نهاية الخمسينات والستينات واكبت مشكله التحرر العربي من الاستعمار المباشر، فإن معظم كتاب تلك الفترة وقع تحت تأثيرات الأيدلوجيات المتعددة، مما طبع نتاجهم بما سمي «بالواقعية الاشتراكية، والواقعية الوجودية» ووسط ذلك التناقض جاء بعضها كنشرة أخبار يومية.. أي أنها وقعت تحت دائرة التوجيه السياسي، أكثر من الاهتمام بكلية الانسان وصراعاته النفسية والاجتماعية..
من هنا نشأت القصة الحديثة التي تعتمد مباشرة على الحدث والدخول إلى أعماق الشخصية بدون تلك الاضافات الزائدة، والتعامل مع الايحاء النفسي وتنمية الحدث كوحدة خلق مترابطة، واستعمال لغة وجمل مكثفة تصل الى حدود الشاعرية المنثورة..
في هذا الوسط الناشئ عن أزمة القصة «الإعلامية» إن جاز التعبير وقف «زكريا تامر» القاص السوري يهز تلك الشجرة الخريفية لينزع عنها تلك الصفرة ويدخلها عالم الربيع المزهر.. فقد رفض المعادلات السياسية، أو الوعظية أو حتى تلك المثاليات الصوفية، ليدخل إلى عالم الواقع بكل توتره ومصادماته..
وبهذه الحساسية يدخل كل من محمد علوان، وجار الله الحميد.. ذات العالم ولكن من خلال شرائح اجتماعية حاضرة في الوجود.. أي أنها تعلن انتماءها كعوالم ليست مصنوعة من الخارج.. بل معايشة من الداخل بإطار انساني كوني..
فعالم القرية عند (علوان) ليس ذلك العالم الساكن والعالم الذي يصبح على أذان (الديكة) ويمسي على (أنات الساقية) إنه عالم مربوط بأي حدث حتى لو كان زمانه عام (۲۰۰۰) أو مكانه (طوكيو، أو نيويورك) ولا يكتفي هذا العالم بالتفرج أو التقوقع..
فالقروي يسمع نشرة الأخبار ويعرف الممايزة غير العادلة بين القرية والمدينة ويرى في صورة المدني رقما مسحوقا في دفاتر البنوك، وسجلا تجاريا في أدراج موظفي المناقصات..
في هذه المفارقات يضع (العلوان) القرية كعذرية فقدت بكارتها واستطالت لتمتد الى الصراعات البشرية، والنفاق الاجتماعي، يتكون فيها عالم التناقضات بكل حدتها ولكن من خلال موضوعية هادئة، ومترابطة التوقيت والحدث..
على الخط الثاني يقف «جار الله الحميد» في «أحزان عشبة برية) حاملا نعوش الأرض كلها في جمجمة البطل الذاهب دائما، والسائر بكل الطرق للبحث عن (هوية).. يلاحق هذا القصور الذاتي. وأسباب هذا السقوط حتى في الحب.. (.. أوف لقد كانت حصة المطالعة مملة. ومباراة كرة السلة أكثر إملالا، وكذلك وجبة الغذاء.. والأغنية الجديدة لمطرب الأحلام، وفصول الكتاب الذي يحقق رواجا خياليا.. يا الله ما هذه البلوى؟!..)
وفي مكان آخر يقول: (من يتصور حدوث ذلك؟! تنقض الأحرف الجائعة كصقور قذرة، وتأكل خبز القلب؟
وقال قائل.. أنا! ثم قيل له من أنت؟ فبدأ يروي قصته مع التماسيح والأعشاب والشوك.. وقال قوله هذا ثم استعاذ بالله! فما كان من صاحب الفندق إلا أن طلب منه الهوية للمرة الثالثة)!..
البحث عن هوية لا يتصل فقط بحالة نفسية ذاتية، وإنما بهذا الخلل الكبير في التركيبة الوجودية للعالم..
ما معنى الجدوى.. أو اللاجدوى في مصادمات الذات مع العالم.. الموضوعي، مع اللاموضوع؟!
من هنا ينشأ الصراع لترسية أبجدية جديدة للحروف المنطوقة وخلق آذان تسمع الغضب الداخلي لكل مكونات هذا الإنسان اللامرئي إلا في الترقيم الصغير في شئون الأحوال المدنية!..
الكبت، والبحث عن حالة صحو.. واحتواء هذا الكره الممتد إلى الأعماق هي الصور الممزوجة عند بطل جار الله.. أي أنه يخاطب الكائن الإنساني من مواقعه الفلسفية الأرضية لا (الميتافيزيقية).. وهذا الشعور بالمطاردة هو الطابع الغالب على ازدواجية البطل في
مجموعته..
إنه يريد أن يدخل العالم ولو من خلال – سلم الخدم حتى يستطيع حفظ التوازن الموضوعي بين وجوده الذاتي والعالم.. أي يريد كسر هذا القفص الزجاجي وتدمير المواقف (النصفية) ولو كان التوقع غير حسن أو حافل بالمفاجآت..
من خلال هذا الاستطراد أقول إن القصة القصيرة هي التي تبشر بفجر قادم، لأنها أقرب الحالات التعبيرية عن مجمل المواقف والأحداث.. وبالتالي فهي الأكثر انتماءا لواقعنا وتأسيسه للمستقبل..
…
هذه الرسالة:
لا تسألني لماذا كتبت لك ولــ «آفاق» وإلى الرياض وأنا أعمل في الدمام.
ولا تسألني من أي بلد عربي جئت. ولا ماذا أعمل فهذه كلها أسئلة فلربما لا أعرف اجابتها لأنني بلا وطن وبلا حنان.
زمن الحزن
أكتب إليك أيها الصديق رسالة من صديق إلى صديق – من عربي إلى عربي آخر. تجمع بينهما القضايا المشتركة والآلام المشتركة، وهزتهما الآلام التي حولت كلا منهما إلى رقم ليس إلا.. يفكر على أنه رقم.. يأكل على طاولة ولا يعدو كونه رقما من تلك الأرقام التي تأكل ثم تمضي غير ملتفتة.. حتى إلى تلك المستلقية على قارعة الطريق، لا يلتفت إليها أحد. لأنها أرقام طرحت وقسمت وكانت النتيجة – صفر – وربما كنا جميعا كذلك. نلقي بأصفارنا على الجميع. بل ونحملق في كل الناس. نتهمهم بقتل آبائنا حتى على الرغم من أن جميع الأطباء أكدوا أن الموت كان بسبب الشيخوخة. ولكن نحن نصر على أخذ الثأر بل ونتفنن في البحث عن الأساليب للانتقام ونحيطها بهالة من الفوقية والسيطرة. كلنا عظيم وكلنا أسياد وسادة، والحقيقة ليس لها عنوان أبدا بل وأكثر من هذا فهي مضطهدة، مغروس في صدرها ألف سيف وسيف.
وأنظر حولي وأسأل الرجل المتجهم – أنت لم ترني أبدا قبل اليوم فما بال لقاؤنا عدوانيا؟
ويكسر همي على شفتيه ابتسامة صفراء – علمتني الأيام أن أكره الناس حتى أمي وأبي. وأعود فأسأل. أي الايام تلك أهي بعيدة عن زمان نحن نعيشه. وقذفني للخارج ولم ينس أن يعريني حتى تتضاعف أحزاني وحتى يسعد بالضحكات تنصب على رأسي..
وأصرخ في حرقة – وأرى أيد تقتلعني. وأقول:
سأمزق اسمي.. وهويتي.. وسأعجن رمل الأرض لأشيد منه بيتا.. سأغير حتى اسمي.. سأعود كما كنت في التاريخ.. وأتبرع بدمائي.. لكن هي لا.. لا.. لا.. تقذف في وجهي عند كل حدود.. وأكابر.. لا بد من نافذة تطل منها الشمس.. وتعرف أنني موجود أمد يدي ويحدجني سائق التاكسي بنظرة حقد. وأصرخ أتعلق في أهدابه وأقسم له ألف مرة أن أباه مات من الشيخوخة.. ولكنه يحدجني بنظرة تغلي منها دموع عيني..
ولم تغفر لي حتى سمرة عيني ولا زاوية البيت التي أتجه لها في صلاتي ولا طفلتي التي تتكلم العربية.. وتعي ما يقوله عنتر بن شداد ولا حتى اسمي عدنان..
وتشرق الشمس وأراه هناك يتأبط كتبا.. وأتحامل على نفسي وأتعلق بأهدابه.. ويسألني من أي قبيلة أنت وأجيب..
من عدنان من قحطان.
وأفاجأ به يركلني بعيدا.. سارق.. عربي.. جاهل.
أخي..
لا تسألني كيف المستقبل وما ستؤول إليه… أدعوك وأدعو نفسي لأن نكون جبناء طالما أننا نعيش في زمن الكره.. والحقد.. والعلم. والشتات.. بين عدنان وقحطان وعرب عاربه وعرب مستعربة.
زكريا عبد المنعم زكريا
تعليق:
هذا الصديق المعمور بالحزن والتمزق، والهتاف للاشیء تسكنه وتمتزج في كل خلاياه عقم الموقف العربي..
فأنا أشعر أنه وفي إلى حد الجنون لوطنه ومواطنيه وحتى لو غلبت عليه مسحة الحزن والتمزق، والانتحار الداخلي، فإنه يبقى ضميرا متصلا بكيانه وانسانيته..
إنني لا أريد أن أزيد في التعليق على هذه الرسالة ولكن فقط من زاوية أن الألم وصل إلى الأعماق، وفي هذه الحال لا أرى منه أي خطر، لأن الصدمات العنيفة هي التي تعيد المراجعات الذاتية وحتى المواقف المتصلة بهذه الذات..
أشكر لهذا الصديق احساسه وآلامه.. وأبشره أنني متفائل حتى وسط هذه القسوة في المواقف العربية جميعا.
التاريخ: 18 – 04 – 1400 هـ
0 تعليق