الحاكم السياسي.. في الدول العظمى قاطع طريق منظم وفق دساتير، وقوانين واحتياطات خاصة.. فهو ينادي بحقوق الانسان، وعدم تجريد الطبيعة من قوانينها وحاجاتها، بينما هو يمارس الشنق يوميا داخل ذاته لكل ما هو جوهري وانساني..
فالأمم قد ابتليت بالأباطرة المجانين في التاريخ القديم كذاك الذي ترك وصيته بأنه في حالة موته يقتل كل من معه في القصر ويشيد لهم مقبرة خاصة.. وآخر صنع بركة من عصير العنب، وقذف بها أربعمائة فتاة لا يحسن السباحة ليشاهد الموت وهو مستلق ضاحك على أريكته الضخمة بإحدى المدن الصينية..
وهذه الشواهد التاريخية ربما يدخل فيها الخيال كوظيفة مبالغة للمؤرخ ليطبع تلك السير بنوع من التطرف في صناعة الأحداث، أو تزويقها..
تلك القصص تشد القارئ وتضحكه بآن واحد لأنها في مرتبة أي مسلسل تلفزيوني يعتمد الإثارة والمبالغة..
لكن أحداث الحاضر لم تعد ذلك المسلسل الرهيب على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، إنها ممارسات فعلية، كسبت شرعيتها من تفوق القوة العسكرية التي هي الإطار لحماية الاستعمار الاقتصادي بكل خصائصه، سواء ما يدخل تحت معنى الاتفاقات والتحالفات الكبرى أو ما يوضع تحت حماية الصداقة بين الدول الصغيرة والكبيرة..
ما يعنيني هو أن السلوك السياسي لأي قوة، لا يفترض المثاليات في التعامل حتى في أقصى الحالات ضرورة، وهو المبدأ الذي اتخذته أمريكا عنوانا على بوابة التاريخ لتقرأه كل شعوب العالم الحديث كشرعية في التعامل..
فأمريكا الناشئة قامت على أكتاف الهجرات الأوربية التي هربت للعالم الجديد بدوافع اقتصادية، هربا من الإقطاع والتسلط البابوي وحروب المملكات المتطاحنة، في تلك المرحلة كانت أمريكا تشيد أول البنايات الأولى لدويلات شبه اوربية داخل القارة الشمالية..
فالجالية الانجليزية – وهي الفاتحة الأولى – وبنفس الوقت ذات القوة الكبري الذي تستمده من البلد الأم، هي التي شيت أوليات تلك المدن، ثم الولايات، وتبعها أجناس ألمانية، وهولندية وقطاعات أخرى من اوربا الغربية لها نفس الظروف..
تلك القوى المتباينة، لم يصهرها المناخ الجديد بسهولة إذ خرج على السطح صراعات قومية مبطنة بمصالح اقتصادية، وتسابق على كسب أكبر مساحات الأرض لتنشأ اقطاعيات مزروعة بأكبر مآسي التاريخ الأمريكي، سواء بأولئك الرقيق الأسود المجلوب من القارة المستفهمة عن نفسها، أو قارة البؤساء كما يحكي تاريخها، وما لاقوه هم والهنود الحمر على أيدي المهاجرين البيض من تعسف، أو من اقتطاع أجزاء كبيرة من القارة الجنوبية بدون حق قانوني..
وبعد مآسي حرب الجنوب مع الشمال، أو الحرب الأهلية الأمريكية تم اعلان الاستقلال عن بريطانيا بمساعدة الخصم اللدود آنذاك (فرنسا) وقف المصلحون الكبار (توماس جيفرسون) الذي قال: (إن الحكم الذاتي حق لكل فرد ولكل جماعة من الناس).. (وابراهام لنكولن) الذي وقف خطيبا أيضا يقول: (إن بيتا منقسما على نفسه لا يستطيع البقاء.. وإنني أعتقد أن هذه الحكومة لن يكتب لها الاستقرار أو البقاء ما دام نصفها أرقاء والنصف الآخر أحرارا.
وفي وثيقة الاستقلال في 4 يوليو سنة 1776 كان هناك نص وثائقي يقول (إننا لنؤمن بالحقائق البديهية التي تقرر أن الناس جميعا خلقوا سواسية وأن الله وهبهم حقوقا معينة ثابتة منها حقوق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة)..
أولئك المصلحون كانوا لا يقولون تلك الكلمات اعتباطا إنها نتيجة عذاب مر واجهوه، وعرفوا مرارة الاستعمار والانقسامات الداخلية، وحلاوة الاستقلال.. حتى تلك الطيبة الإنسانة (هرييت ستاو) صاحبة رواية (كوخ العم توم) كتبت روايتها بدوافع أخلاقية دينية لأنها شاهدت كيف تحول مصير الإنسان الأسود إلى أقل من مستوى كلب حراسة المزرعة.
وكالعادة، فإن الشعوب التي تعاني من المواقف الصعبة هي التي تبحث في حرية الانسان واستقلاله، وعيشه بسلام وطمأنينة، وهذه حصاد مؤقت يعطى حبوب التهدئة لا يستمر كخط تاريخي انساني لأن أمريكا ذاتها صاحبة الأخلاقية السياسية في بداياتها، بدأت مرحلة الاستعمار المباشر من تاريخ مبادئ (مونرو)..
ففي ذلك التاريخ بدأ التمدد إلى الجارات الضعيفة في الجنوب واستيلاء هذه القوة على ولايات كاملة من المكسيك باسم التوسع داخل العالم غير المكتشف، أو الموحش.. وأحيانا أخرى بطريقة الاستيطان شبه التعسفي، بشراء قطاعات زراعية هامة من ملاكها الفقراء، وطرد سكانها الأصليين، واستيراد فئات غريبة بيضاء لإسكانها بدلا عنهم، أو تحويل السكان الأولين إلى رقيق ملون داخل المزرعة!
وإذا ما تتبعنا صورة الشخصية الأمريكية من داخلها، فإن كل الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، يتفقون على أنها شخصية منتجة، ولكنها لا تبصر العالم إلا من خلال الإعلان الصحفي أو التلفزيوني، وهو الأمر الذي جعل تلك الشخصيات قطاعات شبه منعزلة عن الكون الخارج عن القارة، بالتالي فإن السياسة الخارجية لا تعنيهم بأي شيء، وهي مهمة متروك لتلاعب الشركات الكبرى ومموليها التي تفرض أي رئيس، أو كونجرس معين بطريقة امريكية بحتة أو ديمقراطية أمريكية خاصة!
فمثلا السلطة عاجزة حتى الآن عن كل التجاوزات التي تخترق الضمير الأمريكي، إزاء الممايزات العنصرية بالنسبة للسود.. فالطالب الأسود لا يتحقق له الكرسي في أي مدرسة للبيض إلا بعد معاناة كبيرة، وقد ابتكرت المدارس ما سمي باختبار الذكاء، الذي جعل من كل الفئات السوداء ناقصة التكوين العقلي، وكان نصيب أعداد هائلة من الطلبة دور الأحداث، أو مدارس المتخلفين عقليا، واكتشفت العملية وسجلت أنها مبادرات من المتعصبين الجنوبيين؛
وأمريكا لا تخترق حاجز الصوت، إلا بصواريخها وطائراتها لأنها في غياب تام عن الصوت الإنساني.. فهي تهتك أي ستار من العضوية يحمي مصير أي انسان بأسماء مستعارة، أو بطرقها الخاصة التي تستخدم بها قواها الخفية طالما أن هناك غاية، ولو تجارية لا تدخل في الاستراتيجيات الدولية..
فقد جربت صناعة الزعامات في افريقيا وآسيا، وخسرت شعوب تلك المناطق، لأن العقلية الرعوية، لا ترى في المصافحات، إلا بلبس القفازات الحديدية وملاكمة تلك الشعوب..
ولعل جراح الضربات الساخنة التي كسرت الفك العربي مع الأمريكان، لا بدعوى حجة المفاضلة، أو الانتماء إلى الجانب الاخر وهو الاتحاد السوفيتي..
تجربة العرب مع أمريكا لا تتعدد بالهويات السياسية النظرية، وإنما بالواقع الثابت.. أي بحتمية المصالح العامة، وتوازنات ما تحاوله هذه الدول العربية أن تقف عليه.. أي لا شرقية ولا غربية.. ولكن هذا الاتجاه لا يعجبها لأن فيه استقلالية عن أي نفوذ..
وهي تنحاز كلية وبعماء تام لإسرائيل.. لأن اسرائيل هي التي تقرر الانتخابات، وتملك مفاتيح كل الشخصيات الأمريكية.. وإلا بماذا نفسر أزمة مندوب أمريكا في الأمم المتحدة (اندرويونج) وعزله عن منصبه لأنه قابل شخصية فلسطينية بدون اطلاع اسرائيل..
وكيف كانت تراجعات الرئيس (كارتر) عن كل قرار يتخذ خاصة فيما يمس علاقات أمريكا بالعرب او إسرائيل
إن هذه التجاوزات لأبجديات الأخلاقية السياسية تجعل من امريكا صورة بشعة ليس أمام من تلحقهم النار من العرب ولكن لكل المتعاملين معها، أو من ينوون اعطاءها مجالا للتعاهدات
أيا كان نوعها.. وهذا يجعلنا نقف من امريكا كعدو مبطن، ولكن كحقيقة ثابتة في عدائها..
فإسرائيل لا تملك أي ثبات سياسي او اقتصادي أمام مواجهتها مع العرب، ولا تستطيع بالمنطق العقلي أو التاريخي مهما كانت قوتها ولو كانت نووية أن تعيش إلى المدى البعيد بحالة استنفار..
من هنا نقول إن أمريكا هي التي يجب اعادة النظر في التعامل معها أمام الحقائق القائمة.. فلا يكفي أنها تعادي العرب والفلسطينيين بالوجه السافر لأنها – وكما تقول – أن رد الفعل العربي آني وعاطفي ولا يملك القرار الثابت الذي يستطيع تحويل الموقف لصالحه.
هذه النظرة هي التي يجب أن تحاكم كل المواقف الأمريكية من خلالها، مع إدراك حجمها كدولة عظمى، لها مؤثراتها الكبيرة..
فلا (كامب ديفيد) تستطيع حماية الوضع الامريكي لأنه وباعتراف (بیجن نفسه)، أن المعاهدة القائمة مع مصر ليست مع القطر الشقيق كشعب وأرض ومستقبل، وإنما مع السادات وحده، وبالتالي فإن ثبات هذه المعاهدة تتحكم بها ظروف المستقبل المجهول..
وأمريكا هي صاحبة الأدوار المرتجلة والآنية.. أي لا تبني استراتيجيتها من منظور ما سيكون، بل واقع الحاضر الظاهر.. وهذا ما جعلها تخسر معظم قواعدها ومرتكزاتها في العالم..
إذن يجب أن لا نخرج مع المواقف الملونة والبطيئة أحيانا، ونحن ندرك أنه ليس هناك ثوابت في النهج السياسي الأمريكي لأنه – كما يظهر – أن صاحب القرار هو القوة الخفية.. وساستها تعودوا على المعاملة بالقوة، وهي الظواهر التي قهرت أمريكا أمام خصومها حتى مع الصغار أمثال (كوبا) وإيران
وأمريكا مارست كل ساديتها مع العرب.. ففي النطاق الإعلامي تتذرع بديمقراطيتها، وأن الصحافة لديها حرة لها حق صنع موقفها وشتم كل من تريده..
والمسئول الأمريكي يخرج من أي دولة عربية ليقول للعالم بأنه هو الذي يثبت أسعار النفط والقمح، وحجم الصادرات والمستوردات لأي دولة عربية، وكان قرار تعيين أي حارس ليلي في عمارة لا بد أن يمهر بختم أمريكا!
وحتى في الكواليس الداخلية تمارس سياسة الوجوه المتعددة فهي لا تقرر حقائق، ولكنها تفتح الأبواب والنوافذ للتعامل والتعاون النظيف، وفي العلن تختلف المعاملة لتكون التصريحات عكس كل ما تطرحه للعرب..
من هذه الحقائق تبقى الثقة بأمريكا محل جدل، وإعادة نظر، لأنها في داخلها تعيش أزمة الثقة ذاتها..
فإسرائيل ليست الواجهة الأصلية للعداء.. بل أمريكا هي التي تصنع عداواتنا معها..
وإذا كانت روسيا مميزة الأيدلوجية والعداوة، والغلاف ها مبني على موقف تاريخي وديني، فإن أمريكا هي الأخرى لا تكسب هذه الأفضلية في أن تكون مركز جذب إلا إذا أعادت حالة التناسخ وليس الأردية المختلفة مع العرب.. بأن كانت بوجه واحد مقروء ومفهوم وبصرف النظر عن القصور السياسي العربي، والأزمات المتلاحقة بين العرب أنفسهم، أو بينهم وبين أمريكا أو روسيا، فإن أمريكا في الوقت الراهن وضعتنا في الدرجات السفلى للسلم العالمي.. أي انها ترى بأننا قطيع من العبيد الخصيان وراء راعي البقر المتحزم بالمسدسات والقبعات ذات النجوم الأمريكية..
أعلنت براءتها من الحب!
رسائلها الحاقدة تلبي ذلك الشوق للانتقام والقسوة، تريد تحطيم ذلك الجسر الذي تخطته يوما ليكون جسر الدموع والآهات قالت (سأحطم قلبي لو هتف باسمك يوما، ولو خفق ثانية واحدة لك لقطعته بأسناني)!!
ومرة ثانية سقطت جبهة مقاومتها للحب لتقع في عالم الشك.. القمر والعصافير، ونسائم الربيع التي كانت رسائلها السرية لذلك الحبيب سقطت في طريق زمنها العاثر لتكون كل الطيور جثثا
مرمدة، والقمر تحول إلى قطعة نحاس بارد لا يطل إلا بخسوف.. وحتى شرفتها التي لم تقفلها باتت نافذة سجن كبير تفح منه سموم عقرب الصيف..
أكلت على مائدة ليلها الجمر، والحنظل، وكان مسراها الطويل مع الريح والعذاب القاهر..
ساعة يأس قاتل تناولت مقصا وقطعت شفتها السفلى لأنها أول بيانات الحب القديم حين ارتعشت لحظة قدومه.. وسحبت سكينا حادة لتقطع طرف لسانها وجزءا من ثديها لتزرعهما على لوحة الجحيم داخل غرفتها..
صرخت فزعة.. كانت تحلم..
- .. لا.. لا.. لن أتشوه في سبيل حب ناقص، لا يحميه أي نسب روحي.. لقد مزقت كل الطرق التي تؤدي إلى ذكراه.. ولن أقع كتفاحة فاسدة في ممرات جحيمه.. ووسط حشد من ذكرياتها أعلنت براءتها من الحب، لتبحث في دهاليز الحنان عن منحنى آخر يقف على طريق الواقع!!
الجثة!
الليلة..
في الأحلام
مر على وجهي صوت تنفسها،
فأفقت..
رأيت الجثة،
فوق سريري،
نائمة…،
قمت،
وأشعلت الضوء،
ففتحت الجثة عينيها..
سألتني..
إن كان الليل على أوله..
قلت: أجل..
قالت: ما تأتي لتنام؟!
يوسف الصائغ
التاريخ: 25 – 04 – 1400 هـ
0 تعليق