تصور أن تمر بحالة هذيان أو كابوس رهيب، وتقع على مفردات شعرية تقول:
“كانت صفرا
فأصابتها الأرقام
كانت نقطة
فتورطت بالخطوات وإشارات السير..!!
ثم يضغط الكابوس على قصبة حنجرتك لتكمل..
تعلم
أن “الألف” عصا الراعي
“الميم” كالدبوس
“الياء” خاتمة العذابات
وأن الخبز يأتيه، كما تأتي الحجارة من المقالع”!!
هذا النمط من الكلام المكتوب “لشربل داغر” والذي وصفوه بالشاعر والناقد الأدبي، والفنون التشكيلية، هو صاحب هذه المقطوعة الحديثة..
أما “بول شاوول” في “الهواء الشاغر” فإنه أكثر كثافة في الحس، وثورية الكلمة، واختراق الأبعاد.. قال..
“يحمل يديه
بلماته
ثم
يشق
في الثلج
دربا
ينساها
ثم
لا
يذكر
كم
الشمس
سوف
لن تأتي”!!
هذه الكلمات المتقاطعة تدعى شعرا، وأنا لا أريد أن أعترض على حرية التعبير طالما أنها متاحة، ولا أجد مجالا أن أضعها في القالب الجبري، أي أنها لا تنتمي إلى وجود أخلاقي، وكذلك سأستبعد تماما مسألة المؤثر الإقليمي أو العرقي طالما أن الأزمنة والأجناس تداخلت، وفرضت شكلها الديناميكي المستمر..
المسألة إذن تتصل بالعلاقة بين العالم والذات، وهي القضية التي لها مدارها الكوني، وتتفاعل مع كل جزيئات العصر وعموميته.. وبما أن الموضوع يدخل في الأزمة الكلية لمعطيات الفكر العربي عامة، ومن ثم سقوط الإبداع في الشعر إلى هذا الدرك الجنوني، فإن ولادات أخرى لا تقل عنها غرابة أخذت مسميات مدارس، وطرق.. فهناك ما يسمى بقصيدة “الصمت” ومؤداها أن تدخل إلى مكان ما يتواجد فيه أشخاص، لهم قدرة الاستنتاج والفراسة بقراءة الانفعالات الذاتية التي تعكسها الخطوط الغامضة لوجهك، ليفهم الآخرون جاذبية هذا الانفعال وتصويره بما يفوق المعنى الظاهر، أو على الأقل تصوره كمعنى لقصيدة مكبوتة في دهاليز هذا الإنسان المنفعل ليقاسمها طرفين تتداخل مشاعرهما بخيط اشعاعي مشترك!
أما الثانية فهي ما اصطلح عليها بقصيدة “البياض” وهو أن تكتب رموزا، أو كلمات ما لا ترتبط بعلاقة معنوية أو فنية، ولا بسياق زمني أو حسي، وكل ما في الأمر أن تعلق هذه الكلمة بأعلى، أو أسفل صفحة بيضاء، ويترك الباقي كعلاقة خاصة، تعطي مدلولها بطريقة الإيماء الخاص!
الثالثة، ما اصطلح عليها بقصيدة “الحرف” وهي رسم تشكيلي لحرف كبير تتقاطع داخله مجموعة حروف صغيرة، قد تشكل، في حالة رصفها إلى مدلول كلمة تؤدي إلى معنى شعري، وهو ما قد يتصوره الآخرون بمزج الرسم التشكيلي بجمالية الحرف، لتندمج الألوان والحروف بوحدة خاصة، تصعد إلى ما فوق الإدراك الحسي المباشر، وتتناغم في شفافية متناهية، لتكمل وحدة الإنسان بوحدة الموضوع على شكل خاص لا تناله إلا روح مهيأة للتصاعد مع هذا اللون المتناهي في الوجود..
الرابعة.. قصيدة “الفراغات”.. أي تقطيع القصيدة، وجعل ما بين كلمة وأخرى فراغا.. ثم علامات تعجب واستفهام..
والرمز هنا تجسيد فراغ الشعور باللاشعور لتكامل القصيدة -إن صح ذلك- في بناء رياضي بحت، لا تقع في دائرة الشعور الكائن، وإنما في العمق لماهية الأشياء!
…
تلك هي الرموز التي استطاع فهمي البسيط الوصول إليها من خلال هذا التواتر النوعي في خروج ما يسمى بالقصيدة الهندسية الجديدة.. من وجهة نظري الشخصية، إن تشكيل عواصم، وموانئ ومجرات في الكون الشعري الجديد، لا تغير من شيء في طبيعة الناس، إذا ما وجدوا ذلك مناسبا لطبيعة حياتهم الحاضرة.. لكنني أشك بذلك، لا من موقع أنني عنصر مضاد يحمل أسلحة ومعاول هدم لأي بناء شعري، إنما لإدراكي أن هذه موجة تسربت من مسام المواقع الضعيفة في الكيان العربي، وهي لا تضر بشيء طالما إنها في المقياس العام، صورة متوترة لحالة عصاب خاص!.
الذي يعنيني أن هذ النمط خرج من أزمة القيم العامة للفكر العربي، بمعنى أن التضاد، بين التكيف والرفض، أدى إلى معطيات معاكسة، وتحولت شخصية القارئ، والأديب إلى تابع استهلاكي، لا يتحرك من داخله نمط الرفض لمعنى الرفض المتطور، أو ما عرف بقانون الجدلية الفكرية..
هذه المشكلة انسحبت بسلبياتها على مجتمع الخليج، باعتباره مجتمعا له أمعاء كبيرة في الاستهلاك، وانطبعت الصورة بشكل معكوس تماما، بحيث أطلق اسم.. “الإنتاج التلفزيوني، والمسرحي النفطي، وقصيدة وقصة النفط” الخ..
وإذا كنا لا نريد ربط ظاهرة اقتصادية حديثة بقسوة النظرة الضيقة، فإن المؤدي الصحيح أن هناك أزمة، ولكن ليس بطلها الانسان الخليجي الذي طوع الأفكار، والأزمنة بشخصيته الجديدة..
صحيح أن ظاهرة الهزة العنيفة لهذا المجتمع الساكن أدت إلى تطورات إيجابية وسلبية، ولكنها لم تصل إلى مفاصل تغيير في الأنواع والأنماط الفكرية العربية، لأنها أصلا لا زالت في دور التحضر، واكتسبت تقاليدها الثقافية من المحيط الفكري العربي، وهنا مشكلة الأحكام التعسفية في إلقاء تبعة القصور على عقدة النفط، في حين أن الأنماط التي أشرت إليها في قصائد “الحرف، والصوت، والبياض، والصمت” نمت خارج رحم هذه البيئة العربية البسيطة.. وأنا هنا لست في موقع المهاجم، أو المدافع، وإنما لأصل إلى التجريد الحقيقي، بقدر الإمكان، للأزمة التي تدور في باطن هذا المجتمع الناشئ..
هناك سؤال ملح، وحاد.. لماذا الاستجابة السريعة إلى المنتجات التقنية الاستهلاكية، دون أن يصاحبها بذات الوقت استجابة فكرية، خاصة وأن الكيان الاجتماعي في هذه المنطقة مستقر، وغير متوتر، أو محتاج؟!
من طبيعة الأشياء، وهي بدهية عادية، أن روح التملك واكتناز كل جديد مسألة لا تخضع لمقاييس مجتمع عن آخر، ولو كانت في بيئات متناسقة ومتقدمة في الوعي والإنتاج..
لكن المسألة هنا تتخذ مسارا آخر، إذ إن عنصر المفاجأة، وسنوات الحرمان الطويلة في تلبية الاحتياجات الضرورية الخاصة، وتحسن الظروف المالية هزت هذا الكيان، وإن كانت لم تغير في جوهره الطبيعي، ولذلك كان المحتوى الفكري متخلفا لأسباب نجملها بالآتي:
• عدم وجود تقاليد أدبية ترتبط بصراع محافظين، ومتطورين..
• التوتر الذاتي بين السلوك الاجتماعي العربي، بأزماته الاقتصادية، والسياسية أدت إلى فراغ ضخم في الاستجابة إلى نمط يلبي حاجات هذا المجتمع الفكرية..
• سيطرة العامل التجاري على الإنتاج المرئي من “فيديو.. وإنتاج تلفزيوني..
• وجود كوكبة ضخمة من الذين دخلوا الأدب من بوابته التجارية، لتصوير عمل قاص ناشئ بعمل “موبيان، وتشيكوف” والمبالغة في وصف لوحة، أو عمل شعري بما يفوق المقاييس المنطقية لأي نتاج حديث..
• القصور الذي تعانيه الجامعات الخليجية من أخذ زمام المبادرة بانتهاج خط جديد يغذي هذه الأجيال الناشئة بمراحل تطورها، وربطها بتفاعلات مجتمعاتها التي تنهض وتتكون بمفاهيم ثقافية وفكرية متأصلة الجذور بهذا المحيط الاجتماعي..
• حصار التقاليد، وتفوقها في كثير من الأحيان على الظروف الطبيعية للتطور وهي مشكلة يلتقي عندها قصور التطور التربوي، وبالتالي التطور الفكري..
لكن مسؤولية ذلك تقع على من؟!
أهي ظاهرة في الشعر وحده، أم أنها تلتقي على عارضة الفكر العربي كله؟!
للإجابة على ذلك.. نسأل ما هو الرقم المرصود في مجمل الميزانيات العربية لتطوير هذا الإنسان..
فالغياب هنا يتعرض إلى أسس وأنماط وسلوك تربوي طويل.. ومن ثم الأمن الذاتي بكل حقائقه وأساليبه.. وتلك هي الأزمة على مدار الساعة.. ولذلك فإن قصيدتي “بول شاوول، وشربل داغر” لا تخرج عن ذلك الشاب الذي ولدت له بنت في اليوم الخامس، من الشهر الخامس، وفي الساعة الخامسة وخمس دقائق، وخمسون ثانية، في يوم الخميس، ومن ثم سماها “صدفة”!
التاريخ: 07 – 04 –1403 هـ
0 تعليق