المتقاعدون.. والمدنية!!

آفاق | 0 تعليقات

كنت قد كتبت في زاوية غرابيل بهذه الجريدة عن موضوع المتقاعدين وهي بالتأكيد صورة لحالة المتقاعد بأي مكان وزمان من هذا الكون.
ولما أن الموضوع لامس نفسية هذه الفئة من المواطنين الذين أسهموا في تكوين التعليم والإدارة والجيش وغيرها وأوجد الرغبة في معالجته بصورة أوسع خاصة وأننا لا زلنا نشكو من ضغط قلة اليد العاملة الوطنية وندرة اليد المدربة الجيدة فإن من طبيعة أي موضوع صل إلى حساسية خاصة عند الطرف الآخر لا بد وان يواجه موقعه من الحل.
وإذا ما قدر أن نعيش الرد المباشر لحالة المتقاعد بفعل السن أو الوظيفة والتي تأتي غالبا من طبيعة تحرك الأشياء والبحث عن بديل يناسب الواقع والحاضر فإن الحسابات عند هذه الشخصية هو طريقة صناعة البديل، وإيجاد الموقع الذي يستطيع أن يعوضه عن تلك الحياة الطبيعية التي اعتادها، ومن هنا تكون روح المجازفة واقتحام الحياة الجديدة لا بد وأن يقابله تهيب من المصير القادم لأن الانفلات من أسر الوظيفة وتكوين عادات وسلوكيات جديدة تتنازعه صور شتى لهذا الإنسان المخلوق من جديد مع المجتمع والحياة.
وبما ان مثل هذه السن تبقى في حالة مراجعة دائمة لأن المخزون الكبير من التجربة بقي هو القوة الدافعة عند هذا الإنسان لا سيما وأن القدرات العقلية النشطة قابلة للعطاء والبذل بطاقات قد تكون محددة نسبيا ولكنها ليست معطلة إلى الأبد..
هذه العناصر في بلدنا بدأت تتكاثر وإن كنت في الواقع لا أملك جداول إحصائية عن الأعداد السنوية للمحالين للتقاعد ولا نوعية الأسباب التي تتم بها هذه الاحالات..
ولعل مجتمعنا الذي يمر بحالة تصاعد وتصادم مع هذه المرحلة الانتقالية القوية لتأسيس مسار جديد في انطلاقته الاجتماعية والتعليمية وشق طريقه في أسلوب خاص وهو ما أستطيع تسميته بتغيرات المدن وتبدلها خاصة الرياض وجدة والدمام وغيرها والتي أخذت هذه المعايير تتقاطع جهاتها وتعيد تشكيلها على نمط خاص غير من بيئة الأسرة وتوسعها بشكل ذري وتبع ذلك تحولات كبيرة في جغرافية هذه المدن وأنماطها البشرية والعمرانية..
فالحي لم يعد ذلك البيئة الصغيرة المتلاحمة التي تستطيع فرز أي شخصية أجنبية عنها بسهولة ولا هو الذي استطاع أن يحافظ على تلك الهوية الخصوصية التي حملت لنا تاريخنا وأنماط حياتنا الشعبية البسيطة التي عادة ما تعبر عن أفراح أعيادها وعروسها وتعاونياتها الصغيرة في البناء والتشييد والاعتماد على الذات بحياتها من موجود بيئتها لتبقى على تلك الوحدة الثابتة..
إعادة الماضي كما يحلو لنا، حلم قد لا يتكرر مرة أخرى بفعل حقيقة قانون التطور وهي سمة الوجود الإنساني كله لكن الذي يمكن تطويعه واعادته هو أن تكيفنا مع الظروف الراهنة لا يلغي بتاتا تطوير عادات الماضي بروح جديدة قادرة على ترابط الزمن والمجتمع بوحدة دائمة التطور
لنسأل عن الأسباب التي لم تستطع المدينة الكبيرة مقاومة الهجرة الآتية في المواسم والأعياد والعطل الدراسية..
هل القرية والشاطئ والصحراء ترتبط بحنين الماضي ليكون لها هذه الجاذبية السحرية وان المدينة لم تعد تلبي هذا العشق للنجوم والأبعاد والسلوك.
لا أريد أن أدخل في إشكالية المناظرة الدائمة بين المدينة وقطاعات أخرى ولكن رحلة المدينة بين الحي القديم الذي بقيت بعض ملامحه وصوره العارية وبين النمط الجديد للحي الآخر الذي نبت على تلك الأنقاض ووضع ملامح العزلة الجديدة للناس عن بعضهم وحالة التمازج مع أشكال بشرية لا يشعر بالارتباط بها كون ما أسميه بالوحدات الانعزالية بالمدينة
لنأخذ مدينة الرياض التي توزعت على رقعة هائلة من المساحة الأرضية وكيف أصبحت ذات إيقاع حاد وتنافر حتى في الأذواق العامة.
ولو فكرنا بالوسيلة التي تعيد لها طبيعة المدينة ولكن بهوية متصلة مع هذا الإنسان جاز لنا أن نقول إن ذلك ليس مشكلة طالما أن الإمكانات متوفرة وقادرة على كسر حاجز هذه الرتابة والجدية الملازمة..
فلو أن البلديات الفرعية مثلا احتجزت قطعة أرض بمساحة كبيرة وقدر أن يوضع لها مخطط شامل يحتوي على صالات كبيرة للاحتفالات والأعياد ومكتب للشرطة والعمدة ومستوصف صغير ومركز جباية للهاتف والماء والكهرباء أو بمعنى أصح نستطيع أن نطلق عليه مركز الحي، ومن ثم عهدنا لقطاع من هؤلاء المتقاعدين أن يشكلوا هذه النواة ويقوموا بإدارتها كأن يوجد
• بيت لأفراح الزيجات بسعر رمزي ومعقول
• صالات لاحتفالات الأعياد وإحياء تلك التقاليد التي كانت قائمة بهذه المنطقة كأعياد الشوارع التي كانت متبعة في أكثر من مدينة
• حديقة كبيرة بملاعب للأطفال ومكتبة ومسرح طلابي ومطعم، فهذه الفكرة لو تحققت ستساهم بوجود الحي المثالي، أي أن نعمل على توصيل الصلات الاجتماعية وتقريب هذه العلاقات وفهم الظروف الدائمة والاستجابة لخلق صورة جديدة لمجتمعنا
ثم لو قدر أن توجد هذه الهيئة الإدارية أو مجلس الحي أو أي اصطلاح أو تسمية مناسبة على هذه النوعية من الشخصيات ذات التجربة الكبيرة وجعلناها تقوم بدور المسؤولية الكاملة عنك
• تسجيل المواليد والوفيات والزيجات
• رصد التغييرات التي تتم أثناء انتقال أو إسكان عائلات جديدة
• الارتباط بمدارس الحي للبنين والبنات كدعوة مجلس الآباء أو الأمهات ودراسة ظروف الطلبة والطالبات
• إنشاء صندوق عام يساهم بسد حاجات المعوزين أو المساهمة مع المتزوجين الجدد وإيجاد بطاقة عضوية لأعضاء الحي في هذا المركز
• الاعتناء بهوايات الصغار وتشجيعهم على مجالات الابتكار والعطاء كإيجاد المراسم وتطوير الألعاب الشعبية القديمة بأسلوب جذاب
• إقامة مفاضلات لأجمل حي، ومدرسة، ومنزل، وأحسن لعبة شائعة، أو تمثيلية تعالج قضايا اجتماعية عامة
• إنشاء مسابقات رياضية خفيفة لمختلف الأعمار
• عقد ندوات اجتماعية وفكرية وتوجيه الدعوة لشخصيات رسمية أو أهلية وإلى إلقاء محاضرات عامة بشتى مجالات المعرفة..
• أشياء أخرى لا أستطيع الإحاطة بها، ولكنها قد تأتي ضمنا من خلال مسار هذه الفكرة لو وجدت على صعيد الواقع..
لقد قيل إن الرياض ليس لها طابع خاص، لا في العمران ولا في الشكل الاجتماعي الذي يميزها بأنها عاصمة ذات تقاليد خاصة بها وهو الأمر الذي تواجهه كثير من مدننا الحديثة، ويشكل أزمة الفراغ الحاد خاصة في الوقت الذي لا يقع في ساعات العمل التجاري أو الوظيفي الرسمي..
لذلك كانت اجازات الأعياد كابوسا على المقيمين بهذه المدن الكبيرة والتي غالبا تشبه خزانة من الخرسانة المسلحة الصامتة..
إن تطويع مدننا بأن تصبح مجال تفاعل اجتماعي شيء مهم تزيح انغلاقها على ذاتها أثناء العطلات الأسبوعية.. وتنامي الشعور بالوحدة بين الأفراد والأسر، قضية متطابقة مع الفراغ الكبير تتركه هذه العطلة دون أي شعور بلذة ساعات هذه الأيام، التي يجب أن تكون سبيلا لراحة نفسية وجسمية مطلقة..
نحن ندرك أن حسم الأمر بشكل عاجل والتغلب على تقاليد اجتماعية راسخة لا يمكن أن يتبدل بساعات زمن قصيرة، ولكن الاستجابة إلى الترفيه البريء غير منغلقة على مجتمعنا بدليل أن مسألة تحضير البادية وهي من المشاكل التي تعاني منها أكثر من دولة مجاورة، استطاعت جاذبية المدن، والاستقرار بوحدات سكنية حديثة والاتجاه إلى التعليم ومعرفة أسرار التجارة وتنويع الطعام والسلوك المدني استطاع أن يغزو المواطن من أبناء البادية بسرعة هائلة..
بنفس الوقت صارت مغامرة السفر ومعرفة العالم الكبير والتوجه إلى حضارات الشعوب وربطها بتطوراتها التاريخية ومحاول التمازج معها بأسلوب جديد، كل هذا خلق ما نفهمه بالتفاعل مع العالم بصورة لا تخضع إلى رقابة اجتماعية تقليدية..
ومهما كانت سلبيات هذه الطريقة، فإن الأدعى في المسئولية أن تظل مدننا لها جاذبيتها ومناخ تطويرها، لا أن تتعامل من خلال نقائصها، وبعض أخطاء أفرادها بصورة القرية الساكنة الوديعة لا سيما وأن تفاعل الجنسيات العاملة بيننا لها النصيب الكبير في بعض الأخطاء وهي وإن لم ترد ذلك صارت لها أنماط معيشتها وأسلوبها بيننا..
تبقى القضية المعنية في هذا الموضوع، وهو القطاع البشري من الاخوة والآباء الذين عايشوا الوظيفة بمسئوليات كبيرة..
فوجودهم على صعيد عمل اجتماعي يدخل ضمن مسئولياتنا الاجتماعية لا من موقع الحنان والرأفة على هذه النوعية، ولكن للاستفادة من تجاربهم في مجال نحتاجه في مجال نحتاجه في هذه الظروف من تطورنا..
أخيرا.. وانها مجرد دعوة اجتهادية قد يكون لها ما يبررها طالما أن الأفكار والحوارات متاحة وهي مساهمة أعترف مقدما أنها لا تصل إلى الدراسة وتعميق الفكرة مدعمة بالدراسات الميدانية ولكنني أتمنى أن تكون نافذة صغيرة نطل من خلالها على قضية قابلة للحوار والمداولة وهو شأني مع هذا الموضوع الصغير.


التاريخ: 14 – 04 –1403 هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *