أن تعيش طرفا مستقلا في صراع يدور أمامك، مسألة صعبة وغير حقيقية بتاتا ولأن العربي يحاصره الموقف العام للقضية العربية برمتها، فإن منهج التفكير بها، والتعامل معها من إطار الفعل الصحيح، يأتي دائما من الوعي بهذه المرحلة، وافتراض أن الحيادية غير واردة، طالما أن أي مواطن عربي هو شريك غير مستقل العاطفة والنفوذ عن هذا الواقع، وهدف مقصود بذات الوقت.
العودة إلى التاريخ القديم، وكما تعودنا دائما أن نكون على صلة مطلقة به مهما كانت السلبيات، ندرك أن الأمة العربية تقاسمتها ثلاث قوى، هي بالحقيقة كانت المؤثر في التاريخ القديم وصيرورته.
ففي شمال الجزيرة العربية توزعت دولتان، هما الغساسنة في الشام تحت سلطة الوالي الرومي وتفرده بالقوة على هذا القطاع.
ومناذرة الحيرة في العراق تحت وطأة الحكم الفارسي، وكلا الامبراطوريتين لهما تقاليد القومية والحضارية الخاصة.
وقد جاء انبثاق ذلك الحكم نتيجة تطور الهجرات العربية التي بنت أول حكم عربي في الشام في العهد القديم في تدمر.
أما في الجنوب فإن الأحباش هم أصحاب السلطة المطلقة، والأنداد الفعليين لهاتين الامبراطوريتين الواقعتين على أطراف الجزيرة العربية، ولذلك كانت الاتفاقات العربية الممثلة بالقبائل العربية وعلى رأسها تجار قريش – أن تعقد مواثيقها في أن تكون حرية التجارة مسألة حيوية، وبذلك عقدت أحلافها مع هذه القوى ورفع هذه الوثائق في وجه أي معترض من القبائل لتضمن حرية تجارتها ومرورها في تلك المجاهل الخطيرة من جزيرة العرب، تحت ظل وحماية تلك الامبراطوريات القديمة..
الذي يعنيني من هذا الاستطراد التاريخي أننا في الماضي مجرد (خيمة ظل) تسكنها قوى لا نستطيع مقاومتها أو تحديد الدفاع عن وجودنا أمامها إلى أن جاء الإسلام، كانفراد تاريخي، ليلغي هذه العبودية الطويلة بلغة وقوة عصره..
وإذا كان منا من يرى أن وجودنا الحاضر يقوم بالالتفاف على مقتنيات متاحف بغداد، والقاهرة، ودمشق، أو الرؤية إلى الخلف من مضمون سلفي تاريخي دون مواجهة العصر بتناقضاته وأحلافه والممرات الصعبة التي لم نتجاوزها عقليا أو ذهنيا، فإن هذا الإنسان يقع في مسلسل الأخطاء الكبيرة التي رمتنا إلى البحر بدون نجدة..
لنسأل.. هل الماضي هو ذلك الصراخ والانفعال البدائي كما تصوره المشاهد التي ننتجها ونقرؤها ونحمل مشاهديها من أبنائنا ليروا في العربي هذا اللجوج المجنون الذي يتزيا بلباس الغربة التاريخية والحس الوجداني المعطل في كل محطة تلفزيون عربي؟!
أم أنه ذلك الانقياد بالطاعة إلى الحلولية الزمنية المغرقة بالقدم لنضع رموزها وأفكارها وتلون أزمانها وتاريخها حلا للحاضر رغم الفارق الزمني والتقدم العلمي الكبير؟!
لنضع هدنة خاصة داخل ذاتنا ومن منطلق ما يجب أن يكون بدون عقدة الماضي ونتحد فكريا وعاطفيا وعقلانيا مع الحاضر بدون أي توتر ونطرح المسألة الفلسطينية وحدها كتحد له مضامينه وأسلوبه وقواه المتحركة على رملنا العربي المتغير، فإننا بهذا نكسب لحظة صغيرة في توقيتنا الضائع بأن نناقش قضية لها متغيرات غير زمنية ولا توافقية مع التعاكس الفكري العربي إلا في العموميات التي لم تصل إلى الوحدة الموضوعية في النضال، وتحقيق الذات بدون أزمات وصدمات وعقدة متناقضة مع كل شيء في تفكيرنا ووعينا..
فالذي نفهمه من خلال صراعنا مع الصهيونية العالمية أن مؤسس الدولة اليهودية “بن جوريون” كانت له اشتراطات فلسفية، وحتمية في قيام دولة إسرائيل الكبرى وهي أن “كل شبر تستولي عليه يجب أن يسكنه اليهود ويقيموا فيه، وان الهجرة إلى فلسطين المحتلة هي الشرعية التوراتية لقيام هذه الدولة، وان على اليهود في كل مكان أن ينزعوا إلى الهجرة لفلسطين أرض الميعاد ولو أدى ذلك لعصيان الحكومات التي يقيمون في ظلها”!.
وفي مفهوم آخر حين وظف العقل الصهيوني في الأسطورة والتوراة إلى مضمون عقلي فإن مسألة (التيه) التي سخر منها الغرب ووظفها إلى اسطورة تتناقض ما بين السخرية والعطف من اليهود فإنه بالمقابل نشاهد الدفاع ذلك بمرئيات من اليهود تخترق هذا الحاجز كهدف حين تقول: ان ذلك التيه جاء كرسالة عظيمة لليهود في أن يعلموا شعوب الأرض حقيقة اليهودية التي تتفوق على العنصر البشري الآخر، لتصبح القائد والهادي وبأن هذا الشعب “النقي” لا يمكن أن تذيبه الأجناس المتدنية الأخرى في داخلها..
ومهما كانت النظرية الحديثة التي تركن إليها القوة الصهيونية بأن الحق الإلهي قد أعطاهم التفرد بهذه الخصوصية العنصرية فإن مسألة الهجرة والتكاثر داخل فلسطين المحتلة والتحالف مع قوى كبرى لرفدها واعطائها وجوب البقاء قد نجحت في الوقت الحاضر إلى أبعد الحدود، لكن المسألة هنا ترجع إلى مسببات لا يمكن تجاهلها وهي أن السيطرة المالية والإعلامية جاءت ضمن مخطط طويل مدفوع بغيبة رهيبة للعالم عن هذا الواقع الذي يفكر من داخل العقل الحاضر ويجير مكاسبه إلى مفهوم طويل ممدود إلى آخر المستقبل..
هنا يتعذر الخلط، والتكهن، طالما أن الحرب تقع ضمن حدود عقلية تخضع للوعي والتجربة والأخذ بمبدأ المنفعة والمصالح القومية الكبرى داخل حدود دولية تضيع المسافات بينها..
نحن ندرك أن “الأرض” هي مجال الصراع الحيوي، لا لأنها تقوم على اسطورة تاريخية، أو معنى قومي، ولكن لأنها الثبات في الجدلية التاريخية الصميمة أو الحد الذي يتنازع عليه الخصوم كحقيقة لا تقبل الجدل أو التسليم بالنهايات إلى تفرد شعب دون آخر تحت ظل مزاعم تاريخية أو اسطورية..
وحتى لا نقع في التصور الخاطئ فإننا نريد أن نفهم لماذا التأكيد والالحاح من “بن جوريون” على الهجرة إلى أرض الميعاد، ولو بقوة العصيان على الحكم الذي يعيش فيه اليهودي داخل أي حكومة أو قومية أخرى؟!
العنصر البشري هو العامل المحرك والناتج القومي في الحرب أو السلم، في الإنتاج الاقتصادي، أو الحسم العسكري، وهنا جاء التأكيد على هذا السبب من موقع استراتيجي مهم في صنع القوة كحل منطقي أمام التكاثر العربي الذي يطوق العدو من كل الجهات..
لكن سؤالا آخر يعود للطرح من جديد هل التنامي العددي في الأرقام البشرية يشكل منطق الحسم في هذا الصراع الكبير؟!
الذي ندركه أن الجغرافية السكانية داخل فلسطين المحتلة تشكل واحدة من المصاعب الكبيرة للعدو الصهيوني، لا لأنها تشكل قوة واحدة لها قدرة الصد والدفاع في الوقت الحاضر، ولكنها في منظور المستقبل تضع المشكلة بغير ما تتوقع المؤسسة الصهيونية..
فالنوعية -وهنا القضية الصعبة- أن الفلسطينيين لا يشكلون العدد الهامشي في الوحدات العربية المتناقضة من حيث الأسلوب والرؤية، ولكنهم يتواجدون ويتكاثرون من خلال التحدي الصهيوني، أي أنهم يأخذون بذات القاعدة من حيث التطور والتنوع والانقياد إلى مسار التاريخ الحديث وفرض التطور من نفس التحدي..
فالفلسطيني شخصية متطورة على المدى الأفقي والرأسي، أو بمعنى آخر ان تحقيق التكافؤ عالميا، سواء في الفكر أو الاقتصاد أو الأسلوب الديمقراطي داخل المؤسسة الفلسطينية يأتي من تصور أن القوة في النفوذ لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال هذا الأسلوب، لذلك كانت الواجهات الفلسطينية بالخارج تحمل ذات الأنماط والتصورات لتلك الشعوب لتحقق الوجود الفلسطيني بشكل يغاير الصورة التي وضعته فيها المؤسسات الصهيونية من أنه عديم التفكير والوعي والانسجام بعلاقات إنسانية مع الآخرين..
إننا حين ندرك أن مجاميع كبيرة فلسطينية استطاعت أن تدخل الجامعات والمراكز الدبلوماسية الغربية دون أن تحدث أي انشطار في الأسلوب والمعنى في تقاليد تلك الشعوب إنما يعني امهم يضعون النموذج العربي الحديث دون أي عقدة من الواقع التاريخي أو الحرب الخطيرة التي فرضت عليهم بلا حق أو منطق..
وإذا ما جعلنا المستقبل منظورا للحكم فإن التطور الذي تقوم عله المنطلقات الفلسطينية يأتي استجابة لها التحدي وهنا يكون عامل السكان واحدا من أخطر الحقائق في صياغة المستقبل، ذلك أن النمط العربي إذا وجد بالشخصية الفلسطينية فإنه سيحقق وجوده الشامل بقوة نضال آخر، وهنا يكون العمق البشري العربي واحدا من أخطر المواقع والتحديات التي لا تقبل المؤسسة الصهيونية بطرحها في الوقت الحاضر مهما كانت الأسباب، وإن لم تخف تسريب أكثر من تهديد بأنها تملك أسلوب الردع النووي لهذا الحشد البشري الكبير، وإنها قادرة على استعمال هذا السلاح، إذا تطلب الأمر ذلك فإننا نفهم أن مثل هذه الحماقات لا يمكن أن تقع طالما أن هناك محظورات دولية كبرى لا تسمح بذلك، وأن ذات السلاح سيكون مدمرا للطرفين حتى لو لم يكن العرب يمتلكونه، إذ أن حدود إسرائيل داخل هذا المحيط النووي..
الشيء الذي لا يغيب عنا انه إذا كان لبن عنز ذلك الراعي العربي قد أنقذ حياة “موشي دايان” من الموت حسب اعترافات أمه فإن رقبة أحفاد أحفاده لا يمكن لهم ضمان الحياة السعيدة دون معرفة أن التفسير للتاريخ لا يتحجم داخل مفاهيم خارجة عن قانون الوجود والتطور.. وهنا لا نقول ذلك من قبيل الكبرياء والمفاخرة ولكنها الحقيقة التي لا تستطيع أن تتجاهلها أي قوة في الوجود..
التاريخ: 28 – 04 –1403 هـ
0 تعليق