القاعة الفخمة، والحشد البشري المتكوم على بعضه.. ربطات العنق الفرنسية، والشعبية العادية التي ادخرها أصحابها لمثل هذه المناسبة..
(ميكرفون) الصالة يعلن بداية الحفل، وسط صخب المهنئين للعروسين.. المضيفات بلباسهن التقليدي المرسوم عليه شعار الفندق الكبير…
على طاولة صغيرة، جلس ثلاثتهم لذات المناسبة، لم يغير من طابع الجلسة والحديث إلا ضيفهم الأجنبي.. كل شيء بالنسبة له يثير الجدل والدهشة…
البذخ في كل شيء والرقصات الشعبية.. الموائد المصفوفة، والهدايا الفاخرة.. الغالية الثمن.. كان يواجه الأشياء وكأنه في حلم اسطوري يعيده إلى عالم ألف ليلة وليلة الذي صور شخصية العربي العابث المتدلي الكرش بلابسه الزخرفية الخرافية…
سأل..
- “لا أدري ما هو وجه الشبه بين ما يدور أمامي، وبين عصر السلاطين وبعض خلفاء العصر العباسي المتأخر…
تتحدثون عن المجنون بليلى العامرية بلغة صوفية خيالية، هي أشبه بالأساطير الهندية والصينية، وهو حب بتقديري الشخصي يرقى إلى مستوى الوله الإنساني بالمطلق، وعدم محدودية المشاعر الغارقة (بالماورائية).. وقد صار هذا الحب حسا تاريخيا واجتماعيا عند العربي تتنادمون عليه، وتضعونه بمستوى الطهارة الإنسانية الشفافة..
إذا كان الطرف الأكثر ايحاء وإلهاما هو المرأة، فإنني لا أفهم سر مفارقاتكم، أن تقبلوا ليلى كتجسيد كوني للشخصية العربية ذات الوجدان المتسامي، وترفضون أن يعلق اسم (شهرزاد) كرحلة متطورة في تجسيد الأسطورة بفعل حيوي يتناغم والأفق الإنساني بكل دعاوى الشر والخير…
هل لأن طابع القبيلة وحده، هو الذي حمل هذا القلق بتاريخ المجنون وليلاه، لأنها فقط عربية العرق، والبيئة، واللسان، وان الأخرى -أعني (شهرزاد) هر رمز آخر لا يحمل ذات الهوية العرقية، مع أنني كغربي أتعاطف مع كلتيهما بدون عقدة النوع، أو الجنس، ولأنني لا أعترف أنهما نتائج بيئة واحدة، وأفعال إنسانية واحدة أيضا، وإن كان الفارق الزمني بين المرحلتين، هو الذي طور الأسطورة، وأغناها بالتعددية بالمواقف، والأشخاص..
(أرجو أن لا تفهموا أنني أقيس الظروف، والوقائع من خلال تفسير مضاد، وأن التعسف جاء من نظرة عرقية. مع أنني أفترض أن الحب طرف في معادلة بشرية لا أستطيع تفسيرها في لحظة كهذه)!.
…
إيقاع الأغنية القديمة يهز رؤوس الحاضرين.. صفوف الراقصين تتمازج بالخطوات اللولبية.. والفتيات الصغيرات يفترشن المسرح على شكل ذيل الطاووس، أو كانفلاش مروحة يابانية تناغمت حركتها ولونها بيد عذراء بضة تتدفق الدماء الحارة بكفها كتفتح زهرة اللوتس في اشراقة يوم ربيعي…
الجليس الثاني يتململ.. عقص شعر شنبه المتدلي خارج فمه.. عيناه اللتان لم تفارقا التطلع بوجه الضيف الاسباني تقولان أشياء كثيرة.. وحتى يربط الحلقة بتسلسل الموضوع قال….
- “إذا كان ما تتصوره أن التعامل مع التراث بلغة التعصب تشكل وجها لا زال يتكرر حضوره _ حتى في هذه اللحظة، فإنني أتفق معك في البعض، فالترجمات حتى الحديث منها تركز على النسب قبل الموضوع التاريخي، أو المجال الإبداعي الشعري، وهذا _ بتقديري _ يرجع لفقدان المنهج الموضوعي لقراءة التاريخ من طرف بعيد عن أي نزعة ذاتية، وهنا كان التعامل مع مجنون ليلى وحبيبته، وشهرزاد، من منظار تاريخي بحت قد أوجد هذا التشابك في ضياع المفاهيم.. لكن الذي أريد أن أقابل به اعتراضك على المرأة ككائن بشري متفاعل، وفاعل أحب أن أسقط دعوى أنها مجرد زي فني، تتعالى صفاته الجمالية إلى حد الخرافة عند العربي…
الذي أدركته من قراءاتي المتواضعة، أن (سمراء بنت نهيك الأسدي، تولت الحسبة في مكة أيام الرسول (ص).
وأخرى لا يحضرني اسمها الآن، تولت الإشراف على أحد أسواق المدينة المنورة في عهد عمر رضي الله عنه، وكان معها سوط تحاسب به الغشاشين، والحسبة كما نفهم فرع من فروع القضاء.. “هذا الدليل، وأشياء أخرى يمكن فهمها والقراءة عنها في كتاب (ظافر القاسمي) نظام الحكم في الشريعة الإسلامية”، ومن هنا كان الواقع الشائع يرفض أن تكون المرأة زينة عند العربي، كأي تحفة أثرية…
أرجع إلى إضافة أخرى لها نفس الموقع والأهمية بمفهوم التعامل مع التراث، لا كصنم أجوف تحرق المباخر تحت قدميه، ولا تدخل كهوفه إلا لقراءة التعاويذ، وتلبس أرواح مخلوقات خارجة عن سلطان العقل، إنما هو حدث للماضي ليس بالضرورة أن يساق بسلبياته إلى الحاضر كحل أبدي لمأزقنا…
عرب الجاهلية خلقوا وعيهم من خلال اللغة ورموزها، وتشكلت الشخصية الاجتماعية من خلال مضامين متعددة انطبعت بكيانهم التاريخي، ولكنني لا أستطيع العيش بذات النمطية والأسلوب، حتى أنني في كثير من الأحيان لا أستطيع فك طلاسم اللغة الشعرية، إلا بالقواميس والمعاجم، وهي غربة في اللغة المشتركة، جاءت من تطور المفاهيم وسياق التطور..
بنفس الوقت هناك مئات الملايين الذين يقرأون القرآن الكريم بذات الترتيل _ ولكنهم لا يفهمون معانيه، لأن التعامل معه يأتي من قدسيته دون إدراك سر معانيه.. وهذا يجعلني أصل إلى أن سر التعاطف بينكم وبين شعوب أمريكا الجنوبية يأتي من تراث اللغة المشتركة، ولكن هذا لا ينفي توجه تلك المجاميع البشرية إلى أمريكا وروسيا، كموقعين مؤثرين في السلطة القائمة، ولذلك أصبح التراث الروحي بينكم هو هذا الرابط الوحيد، وبنفس القياس يصدق ذلك على الهند، وبريطانيا من جهة، وبريطانيا، وأمريكا من جهة أخرى…
الذي أريد أن أصل إليه أن تراث اللغة العربية بما فيه (ألف ليلة وليلة) لا ينفصل عنا، طالما أن المستند الوحيد المكتوب به هو اللغة العربية، وهذا يجعلني أتصور أن عقدة ما تسميه (بالتفاضل بين شهرزاد، وليلى العامرية) هو مفهوم اجتهادي ومن وجهة نظر أن التاريخ حق مباح للجميع بالتعليق أو بالتفسير)!.
…
الضجيج يتصاعد، وابتسامة العروسين تغطي مساحة المكان، الأضواء تتساقط على زجاج الصالة الكبيرة.. لمعان الأزياء الموشاة بالقصب على الحاضرات تتراقص في محيط الحاضرين..
أنفاس المدخنين يختلط بحرارة الجو، وضجيج أحداث الآلات الموسيقية…
يأخذ الجليس العربي الثاني الإذن بالحديث يعلق..
- “اعتراضي على أسلوب الطرح يأتي من لازمتين أساسيتين هما تطور سياق الموضوع إلى المرأة، والتراث.. أو المرأة في التراث العربي.. فالقياس بأخذ أنماط بشرية، لا يعني تماما التعميم بصدق عن مسافة تاريخية مغرقة في القد فقد جاء تسجيل الوقائع التاريخية عنها بصوت قوة السلطة السياسية في تلك الفترة، ولكن الذي يرتب الموضوع حسب احتمالات الصدق والمبالغة، أن المرأة في حياة الشعوب ظلت صورة تتردد بين أمة وأخرى بنفس الواقع ونفس المصير.. إذا كان الماضي مصدرا حتميا، فإن القياس عليه، لا يكون بالضرورة لا يحمل الشك…
كيف نفسر حالة تلك الاعرابية التي ترفض مروان بن الحكم لتبقى في كنف زوج فقير يشاطرها عذاب الحياة والحب في بيئة صحراوية تتقاطعها المخاوف والجوع، وترى ان القصر يمثل لها صورة الاختناق الأبدي؟!
ثم كيف نتصور لجوء الخليفة إلى العيش مع جاريته ليتزوجها في النهاية عن حب، لأنه لا يستطيع أن يرى بنات الآخرين، ونشأ في بيئة الحرمان التي أجبرته على القبول بهذا الزواج عن قناعة حرة، كما تقول أكثر الأسفار التاريخية؟!
الازدواجية هنا لا تظهر بشكل حاد، لأن التاريخ كان يتحدث عن عنصر، وليس مجتمع، وهنا الخلاف على تفسير مطلق يأخذ بالحقائق المجردة…
والذي أريد ألا يفسر من منظور آخر، أنني لا أعتبر هذا تجاوزا طالما أن الخيار تم بإرادة رجل وامرأة هما شريكان في علاقة ينظمها الدين، والتماثل، ولو كان ذلك الشخص خليفة أو سلطانا في عصر بني أمية، أو بني عثمان تختلف بعهدهما ومضمونها عن حالة زواج تتم في الوقت الحاضر…
منشأ الخلاف _ إذن _ هو المرأة تمثل حقيقة المجتمع أم لا؟ هنا ندخل في ملابسات طويلة، وتركيبة حضارية لا يجوز أن نتمثلها أو نحاكمها بمنظور اليوم!
…
الجماعات التي أنهكها السهر تتقاطر مودعة العروسين.. ذات الجسد الافعواني الممشوق تسقط الصمت على القاعة، حين وقفت في نهاية الصف الطويل، لتطبع قبلتها على خد العروسة..
الرؤوس الثلاثة تتحرك باتجاه الفصل الأخير من السهرة الكبيرة.. الضيف الاسباني يلتقط الصورة… يبتسم..
- (يبدو أن “شهرياركم” سكت عن الكلام المباح)!!
ترتفع ضحكاتهم.. يعيد الحديث… - (لا أريد أن ترقد معكم الوساوس، والكوابيس الطويلة، وغن عشرتي معكم، كطالب في هذه الجامعة تجعلني أكثر صدقا في التعبير عن وجهة نظري، والتي قد تختلف عليها من موقعين مختلفين تماما.. فأنا قريب الصلة بالعرب، ولكنني غير مضطر للمجاملة على حساب ما دونته كتبكم..
من جهة ثانية لا يجوز لي أن أعطل حواسي عن المخزون الذي تركته البشرية من كم هائل من فن، وتاريخ وعلوم وبذلك لا أغض النظر عن صورة حملتها كتبكم العديدة، وبقيت كشاهد اثبات على الماضي… فصورة المرأة، لا تزال في موروثكم، تلك القينة والمرضعة، أو النادبة على الموتى!!! أي أنها بحيرة من الدموع والمآسي، وهي بذلك لا تختلف عن المرأة في العصر اليوناني، أو الروماني الأول تلك المملوكة التي تؤخذ كرقيقة تربي قطعان الغنم، والخنازير، وإن كان التشابه لا يصل إلى تلك الصورة البدائية عند تلك الشعوب، ولكن الفرق هنا أن حكم التقاليد، في أحيان كثيرة يتشابه مع قسوة نرون وجنكيزخان، وإن اختلفت النهايات.. أي أن بعض المجتمعات هي التي قست على المرأة، وليست العقائد الدينية، ومن هنا كانت التغيرات الاجتماعية تأتي بطيئة جدا، وقد لا تستطيع كسر حاجز التعصب للقبلية، أو الجنس.. لذلك لا يجوز أن لا أفترض أن تلك الشرائح النادرة هي الحكم المطلق على التاريخ، ومن هنا نتفق على أن الطرفين المتعارضين، بقبول زواج الخليفة من الجارية، أو تصوير المرأة بالمرضع والنادبة لا تمثلان الموضوعية في استرشاد الماضي والحكم له أو عليه، وبالتالي فإنني أحتاج إلى أن أجعل تقييمي احتماليا، لا يقينيا، وأنتم مدعوون إلى القبول بالافتراض، ليتأكد من مناخ هذه الحرية الجدلية رسم صورة أكثر استقرارا وتوحدا لماضيكم)..
…
الستارة تسدل على آخر المودعين من الفرقة الموسيقية، ورئيس الخدم يستأذن الثلاثة بالانصراف لأن الساعة تدق الثالثة من صباح يوم جديد….
التاريخ: 05 – 05 –1403 هـ
0 تعليق