ولاَّدة.. بين دمشق وبغداد!!

آفاق | 0 تعليقات

بصالونها الكبير في الأندلس، جلست على تلك الأريكة الملكية.. الشعراء والفلاسفة، وعلماء الفقه والموسيقى، يتقاطرون بإجلال على تلك القاعة الكبيرة التي شيدت من أجل مناظرات هؤلاء النجوم في المدينة الشهيرة في “قرطبة”.
“ولادة” بهيأتها الرائعة.. الخليط من العربي والافرنجي تدير عينيها النجلاوين بالحضور..
العاشق الواله “ابن زيدون” بقامته الفارعة، وشبابه الأرستقراطي لا ينزع نظراته عن عينيها، تلك التي أذابت وجدانه، وجعلته تابعا، صغيرا في حاشيتها الكبيرة..
“ابن عبدوس” بلباقته وجنونه المطلق بحبها، يغترف من عينيها لحظة ود عله يحصل على شهادة رضى تدخله عالم مغامراتها المجنونة.. وهي بجلال شخصيتها وجمالها تلتذ أن يسقط الفارسان في حظيرة واحدة أمامها..
تحدثت.. _ “يقولون ان فارس القديمة يرون في المرأة، والذهب، والأرض ثالوث الجريمة.. الذي لا أفهم انه سقوط متدن بالتعبير، وغلا لماذا المرأة والأرض.. لأنهما يجسدان الأمومة بالكون، ويسيطران على حفظ النوع.. أم انه استدراك لحفظ سلطة الكهان من عبدة النار الذين قالوا بثالوث الماء، والنار والتراب بالعقيدة المجوسية..
عقدة الثالوث تعني تركيبا وثنيا علقت على أحد أركانه رقبة المرأة لتقاد مذبوحة في حضرة هذه الكهانة البشعة..
فالأرض كوكب يحتمل صراع الأضداد.. الحب، والكراهية.. الحياة والموت.. الثنائية بالوجود قائمة منذ سقوط آدم وحواء على أول رقعة يابسة على الأرض وهي الحقيقة في مجرى نهر الحياة منذ الأزل..
قطرات المطر تنقر بهدوء على شباك الصالون الأميري.. الصمت الهادئ يقطعه صوت من الصفوف الأولى..

  • “سيدتي ما تقولين به عن ثنائية الخير والشر.. كقطبين متنازعين يدفعني إلى القبول بثنائية الوجود، لا من وجهة النظر الوثنية، ولكن من مطلق الفعل ورد الفعل.. وهنا يلزمني سؤال شخصي، هو أن سيدتي بلغت عقدها الأربعين ولم تتزوج، في حين ان الأميرة الأموية هي قطب الجدل في قرطبة.. ألا يعني ذلك ان الأمومة بالنسبة لك قطعت بفعل الحدس اليائس”؟!
    الوصيفة الصغيرة تستأذنها بحديث هامس في أذنها.. ابن زيدون يجيل النظر بالحضور.. يسحب طرف ردائه الموشى بالقصب..
  • “سيدتي.. مات الملك الضليل بعد أن خرج من قصر “هرقل” مسموما بحلته التي أهداها إليه الملك الرومي.. قالوا ان ذلك جاء بفعل مكيدة من ابنته التي عشقت امرئ القيس، ولكن وفاءه تضاد مع خلقه العربي، ولذلك سقط ضحية امرأة تحب من طرف واحد.. هل يعني هذا أن المرأة التي تستغل بحريتها تصبح متسلطة على عاشقيها، ولو أدى ذلك إلى اقتراف جريمة القتل، لتحقيق رغبة التملك، أو الفناء كما حدث للشاعر المستنجد”؟!
    تدندن بأغنية أندلسية تقول:
    حالي ينادي على فؤادي
    مسكين هذا لا شك عاشق
    ابن عبدوس يمسح بأطراف أصابعه لحيته الممسودة يرد..

مررت بقبرها من وسط روضة
عليه من النوار مثل النمارق

فقلن لمن هذا، فقالوا بذلة
ترحم عليه إنه قبر عاشق!!

قالت..

  • “إن هذا للسلطان المنصور.. لقد كان من أماني أن أسمعه يلقي هذه القصيدة بنغمة صوته المبحوح وبهذا الصالون على مرأى منكم..

هكذا كان حوارهما وهما الزائران العربيان من بغداد، ودمشق يشاهدان أطلال صالة السفراء.. بركة المعتمد بن عباد، صورة ولادة بنت المستكفي بين حشدها الكبير من النبلاء والشعراء، والصعاليك..
سأل الشاب العراقي، وهو يسحي كرسيا من الخيزران في المقهى الجديد على حافة النهر في المدينة العربية التاريخية..

– “ترى هل كان صحيحا ما قيل ان من حفظ قصيدة وزير الوزارتين الشاعر الأندلسي الرقيق الذي قالها بعد أن فارق مدينة حبيبته…

أضحى التنائي بديلا عن تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا

هل صحيح القول “ما من أحد حفظها، إلا قد مات”!!
الشاب الدمشقي يضحك من هذه المبالغة الحلوة..

  • “التطير عند العرب ارتبط حتى في المشرق هناك، بببغاء ابن الرومي وغراب البين الذي نسجت عليه الحكايات الطويلة ليظل رمزا للشؤم..
    ليست المشكلة أن نتفرج على أطلال الماضي ونندبه.. حتى تلك الشاعرة الرافضة التي نالتها الألسن بكل شيء، ورفضت عن طواعية الزواج من أكبر رجال الأندلس، وأنها رمز لامرأة متمردة على عصرها، وليست هي الأولى التي تحاور بالعنف، وتذبح على عتبة قصرها عشرات العشاق، لتمارس أنوثتها (بسادية) خاصة، ولكن غيرها ممن لم تتمتع بشهرة كبيرة انساقت إلى ذات الطريق…
    هل سمعت أو قرأت عن الإماء الشواعر، تلك النسوة التي تعطر ساحات قصور الخلفاء والوزراء.. لتوقع قرار الحكم في دمشق وبغداد بعد ليلة حمراء.
    المرأة عند العربي احتكار فني، وأنها الصوت والنغمة، والترتيل الرائع.. في نفس الوقت هي الشكل الجمالي الذي تتزين له الورود، والجواهر، وخليط الألوان..
    يقاطعه زميله..

– “أرجو ألا تلقي نثرية جديدة، تستعيد بها ذكريات (ابن عبدوس) حين وقف بين يدي ولادة قائلا:

سقى الله ليلا ضمني بعد هجعة
وأدنى فؤادي من فؤاد معذبي

إلى أن يقول..

فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الماء فيما بيننا لم تسرب

“الجرسون يضع على طاولة الرخام كأسين من الشاي الاسباني المعطر، والممزوج بقطعة الليمون.. الأفق الممتد على طول المدينة التاريخية منائر المساجد.. النافورات القديمة أمام مدخل القصر الكبير.. وكلمة “لا غالب إلا الله” محفورة على حيطان القصر الأثري..
الشاب البغدادي يسحي نفسا عميقا من سيجارته.. يمسح ببطن يده شفتيه..

  • “لقد انتقلنا من أطلال أصحاب المعلقات، إلى بقايا قصور ومساجد اشبيلية، وغرناطة، وقرطبة.. نحن نمارس عادة البكاء، نلوي أعناق الجياد الحمدانية مسرجة باتجاه الماضي، كأنما نعيش حالة التهديم النفسي والعقلي بشكل دائم..
    المرأة بالنسبة للعربي مسلسل من العذاب الذاتي.. تماما كما سقطت آخر حصون الدولة العباسية في المشرق، نجد أن المغاربة الذين طينوا برك مسابحهم بالعنبر المخلوط بالزعفران من أجل جارية، هم الذين ماتوا غرباء محبوسين في قلاع الغزاة الأوروبيين”..
    الدمشقي الهادئ يحرك بأصابعه الخشنة السبحة السوداء، تعجبه مسألة الربط من زميله البغدادي.. “المرأة كائن وحشي” كما صورتها بعض الأشعار العربية.. هكذا إذن هو الماضي.. يسترجع تفكيره قائلا..
  • “ليست الفروق الفردية هي الأساس في هذا التباين بين الرجل والمرأة..
    المرأة يعوزها الشعور بالأمن، كأي أنثى تحارب بطريقتها الخاصة.. لقد عملت تجارب جديدة على إناث السمك.. حقنت بمحلول خاص، جعلت هذا الحيوان البحري يقاوم بطريقة غير عادية أي معترض له.. إن قوة الاستثارة، أو ما ندعيه بالعدوانية المزدوجة عند المرأة ليست كلها حقائق علمية، ولذلك كان التاريخ حتما ظالما عليها.. الهنود في العقائد “المانوية” يؤمنون بإحراق الزوجة مع جثة زوجها، أو تختار الحداد الأبدي إلى أن تموت غير مأسوف عليها، متروكة في القوائم الملعونة عند المجتمع والأسرة..
    أباطرة الصين، وضعوا سجونا خاصة داخل منازلهم، تحبس كل امرأة تأتيها العادة الشهرية، وإذا اقتضى الأمر خروجها من هذا السجن الاجباري، فإنها تلف أطرافها بالشاش حتى لا ينجس من تمسه يدها”!!
    الشاب البغدادي يكرع بقية كأس الشاي..
  • “.. والعرب مارسوا الوأد بالجاهلية بطريقة الهروب من العار!!
    الحبس، والحرق، والوأد.. تلك ثلاثية المأساة عند الإنسان الشرقي القديم.. المكائد، والخيانات.. والتطوع بالنيابة عن الشيطان.. قالت بها كل الأسفار للحضارات القديمة.. هناك من يقول ان الرجل يكمن في داخله الشيطان المتسلط.. وكذا المرأة تعاقر وسائل التعذيب على طريقتها الخاصة..
    هذا الافتراض هو الذي أوجد الجيل العربي المشوه، لأن الطفل يواجه بدايات حياته دون استقلال شخصي، منقسم على نفسه يلزمه أن يحفظ، أن يلقن أفعاله وحركاته من بداية اتصاله بالحبل السري في بطن أمه، إلى أن يسقط رقما في أرشيف المتقاعدين!!
    الهجرة إلى الماضي استخلاص للحنين إلى الأمن، لأن التحرك إلى الأمام عطل من أول يوم ألغي فيه العقل والاجتهاد”..
    الدمشقي، تستيقظ فيه روح الخليفة الأموي، استثارت حواسه بسمتها.. التقاطيع والسمرة، وحتى مشيتها كمهرة عسيف في قطيع من الخيول الصغيرة، جعلت المسافة بين الواقع والتاريخ يقع ضحية نظرة عابرة..
    حقيبتها الجلدية الصغيرة المعلقة على رقبتها، رقصة خطواتها الموسيقية..
    الفحل الدمشقي تجتمع فيه خصائص الاضطهاد الذاتي للمرأة.. تذكر تلك المسافرة من الميناء السياحي من “برشلونة” إلى جزيرة “مايوركا” حين علقت على باب “كبينتها” زهرة القرنفلة الحمراء، لتظل حبيسة تلك الغرفة الصغير طول فترة الساعات الليلية الطويلة، والتي لم تشاهد إلا أثناء الدخول والخروج فقط..
    لقد حاول أن يفهم سر العلاقة، بين الزهرة الحمراء، والسجن الاختياري لتلك القادمة من الجذور “الكتلانية” العريقة..

رفيقه البغدادي ينزعه من هواجسه…

  • “يبدو أن جذر الأجداد سحب تاريخه عليك.. المواقف هي المواقف.. الإنسان هو القادم من المدينة الأموية المشرقية، إلى الأندلس الأموية في شبه جزيرة “ايبيريا”!!
    عنصر التملك صور لك هذه العابرة كجواري بن عباد.. إنك تتمنى أن تشتريها، ولو بالجنيه الإسترليني، بدلا من الدينار العربي”
    يبتسم الدمشقي..
  • “ترى هل تسقط الأقنعة لمجرد أن تستفز حضرة الأمير الأندلسي، أو السائح الدمشقي، صورة امرأة”؟!
  • “يبدو أنها جزء من سطوة متجذرة في الذات العربية، ولذا أعتقد أن مجرد ما كان، هو تجاوز نظري للتاريخ، لا تجاوز للحقيقة الموضوعية الحاضرة..
    إننا مجرد ضيوف في حرة صالون ولادة مهما تعاقب التاريخ.. وذلك هم السر العربي الذي يجب أن يخضع لتحليل خاص للذات العربية”..
    الشمس تنكسر على حافة النهر.. وموسيقى الغجر الإسبان، تبدأ رحلة جديدة من ليالي الأندلس الحاضرة، لتحكي شيئا جديدا، في حضرة عالم لا يؤمن بالبكاء على الأطلال!

التاريخ: 12 – 05 – 1403 هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *