الخيل.. والليل!!

آفاق | 0 تعليقات

أستاذ جامعي من احدى الدول العربية جمعتني به قضية عمل وظيفي، كان محور النقاش قضية المكتبة المدرسية ودورها الإيجابي في التربية.. قال:

  • “كنت في بلد عربي.. دخلت فصلا للمرحلة الابتدائية، المعلم يشرح للأطفال الفروق بين الدجاجة والديك، ونصف أطفال الفصل يتثاءبون.. الدرس كان تلقينا، وتفريغا بطريقة الحشو بأذهان الطلبة إلى حد الملل..
    في بلد أوروبي قادتني الصدفة إلى فصل دراسي مماثل.. وقفت المعلمة، نادت على أسماء ثلاثة أطفال.. قالت إن الدرس سيكون عن الفروق بين الدجاجة والديك!
    قال الأستاذ الجامعي مكملا..
  • “طلبت الاذن بحضور الدرس لأفهم ماذا ستكون عليه النتيجة، جاء الطلبة الثلاثة، وقف أولهم.. حكى عن الفروق بين الحيوانين قال..
  • “الدجاجة تبيض.. والديك يصيح.. الديك لع عرف كبير.. والدجاجة لها عرف أصغر.. الخ..
    تتالت الأجوبة من الأطفال الثلاثة.. سألتهم المعلمة عن المصدر الذي أخذوا منه هذه المعلومات.. الأول قال إنه ذهب لمزرعة والده وسجل ملاحظاته.. والثاني قال انه اعتمد على موسوعة الطالب في مكتبة المدرسة وسجل معلومات منها.. أما الثالث فقال إنه سأل أمه التي أعطته الأجوبة!!
    الفارق هنا لم يكن بالإمكانات، أو الفروق الحضارية غير الممكن تحقيق وسائلها.. الأمر فقط يتصل بطريقة التعليم -والاستفادة من الممكن المعقول.. وهذا غير متعذر حتى في أفقر بلد عربي..
    هذه الحكاية فرضت حضورها علي، وأنا أقرأ كتاب الدكتور “السيد أبو النجا” الذي حمل عنوان “عروبتنا عام2000”.. يقول الدكتور في مقدمة كتابه..
    “يؤسفني أن العرب لا يعرفون كيف يختلفون، والاختلاف هو المقياس الذي يكشف عن ثقافة الأفراد، وحضارة الشعوب.. إن الاختلاف عند العرب خصومة شخصية، وممارسة عصبية، ولذلك يعبرون عنه بالصراخ والشتائم والاتهامات، بينما تعبر عنه دول الغرب بمقابلة الحجة بالحجة، وبالإنصات قبل الإرسال لأنه عندهم عمل عقلاني هدفه التعاون في الوصول على الممكن بعيدا عن التنابذ..
    وكما يبالغ العرب في الخصومة عند الاختلاف، يبالغون في ابداء العواطف عند الاتفاق، فيتبادلون الأحضان، ويقبلون اللحى، ثم ينحرون الذبائح.. ويملأون البطون”!.
    الدكتور أبو النجا يتحدث عن روح الموضوعية عند الغربيين حتى في أقصى حالات التوتر.. يقول “لعلنا نذكر حادثة اللورد اللنبي حين أنذر سعد زغلول بسحب الجيش المصري من السودان بعد مقتل السردار في ظرف 48 ساعة ولم ينس أن يضع قبل امضائه “خادمكم المطيع”!!
    ثم يسأل.. “انني أوجه سؤالا صريحا للعرب.. لو جاءكم وسيط فأظهر استعداده للحصول على قنبلة ذرية تكفل النصر لكم مقابل رشوة في مقدوركم.. فهل ترفضون العرض لأن الرشوة حرام، أو تقبلونه لأن في قبوله خيرا لكم”؟!
    وفي صفحة أخرى.. يقيس الصراع مع إسرائيل بأنه قضية أمن وايمان “إن الصراع مع إسرائيل وغيرها لم يعد يكفي القتال والانتصار للتفوق فيه، وإنما يتحقق ذلك بالعلم والإيمان.. فالحرب الحديثة في حاجة إلى المال والتكنولوجيا قبل الشجاعة، وهذه الحرب لم تعد حرب جيشين يقفان في الجبهة ويتبادلان الطلقات والطعنات، وإنما هي مباراة حضارية بين شعبين”.. ثم يحصر المسألة بــــ “تكنولوجيا حديثة.. اقتصاد سليم.. جيش قوي”..
    وإذا كان الدكتور تعرض في كتابه الصغير إلى مواقع الضعف في الشخصية العربية، وأسباب تدهورها، وجعل مواقفه حتى الظريف منها مسألة انطلق منها إلى مفهوم واحد هو الوعي في ظل الحرية، فإنه لم ينس موقف أستاذ مع طلبته حين أشار إلى أن السائل الحامض قادر على احراق الملابس، مما أثار ضحك الطلبة، حتى أنه اضطر أن يخضع التجربة على ثوب أحدهم ليصدقوا روايته.. أو ذلك الباحث الذي حاول اختبار أثر الإعلام، وجعل بحثه على قريتين تتفاوتان في الخدمات العامة ووعي السكان، واراد أن يكون البحث مستندا إلى بعض العادات يقول في استمارة البحث..

• في يوم الجمعة ساعة نحس
• الطفل يولد ومعه رزقه
• بعض المشاكل الزوجية سببها السحر
• الأحجبة والبخور تمنع الضرر والحسد
• اصرف ما في الجيب.. يأتيك ما في الغيب
• القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود
• النار لا تصيب مؤمنا
• قيراط بخت خير من فدان شطارة

ثم يختتم الدكتور قوله “إن النتيجة جاءت مخيبة للآمال بين العمال أو الطلاب فقد وافقت الأغلبية ممن يسمعون، وممن لا يسمعون.. ممن يقرأون، وممن لا يقرأون على صحة تلك الأقوال وبقيت القيم الاجتماعية هي الأساس”!
باعتقادي أن الأمر يتعدى الصيغ والأحكام المطلقة بعجز الأمة العربية بأن تأخذ دورها الطبيعي، ولكن اليقين بالمصير والمستقبل هما الزمة الحقيقية..
اليقين لأننا لا زلنا نعترف وندرب أطفالنا على الوجه السلبي للبطولة، إذ يكمن داخل ذواتها اسطورة أبي زيد الهلالي، وعنترة.. نعزف في مدراسنا المارشات العسكرية وننظم الشبيبة تحت لواء المقاومة الشعبية وحراس الثورة، في حين أن البيت يمارس سلطة الإرهاب والتخويف بالعفاريت والشياطين، ولتبقى جذور التأصيل في الوطنية والقومية حشد من الصور المبهمة ليشكل الأمر العسكري والخرافة عنصر التشاد وثنائية الأزمة..
فإذا كنا نتجادل حتى الآن فيما إذا كانت المرأة تستحق إجازة حمل وولادة لنقع في محظور انشقاق العائلة عن المجتمع وتعميق شعور الفاصل الكبير بين الاسم المذكر والمؤنث، وكأن البناء الاجتماعي لا يتم بتجانس الطبائع والأحاسيس والقيم المشتركة..
قيل بعد قفل قناة السويس، وحرب 73 أن تصاعد أثمان البترول جاء من هذا السبب، ولا ندري أن أسبابا كثيرة اشتركت في عامل تزايد الاستهلاك وتنامي المنتجات الأمريكية والأوروبية واليابانية، وأن الأسعار ستخضع لعامل تطور مع هذه الأسباب كلها لا لبطولة تلك الحرب أو غيرها..
وبعد أزمة لبنان، وكامب ديفيد تحدثنا وسمعنا بأن شروط هذه الحرب ستكون آثارها الاقتصادية الإيجابية على مصر وحدها، حين ستصب الأموال العربية والأجنبية في هذا البلد الشقيق، وتصورنا كل شيء إلا دوافع الأزمة وتحليلها ورصد النتائج والأسباب التي جعلتنا نقع في الخسارة على مستوى القطرين وتلحق الهزيمة بالعرب جميعا..
البضاعة العربية التي لا زالت أسعارها تتنامى وتتسع هي السياسة، والشك في كل شيء، وإسباغ كلمة الخيانة والجبن والرجعية، والتقدمية، حتى صارت هذه الكلمات نقوشا للخيبة والهزيمة والسلبية في التعامل مع الواقع بشروط الإنسان الذي لا يؤمن أن القيم والتقاليد كلها خير أو شر.
العربي يفقد هويته بالخارج.. يدعي أنه اسباني، أو إيطالي لأن في داخله نزعة الخوف أن يكون هدفا لأي سلاح يقتل فيه النبض او العقل.. القرية المصرية التي باركت حضور الأولياء والسحرة، وعالم الغيب وهي تمارس هذا الأسلوب بحسها الخفي، ولذلك تقع نفس المشكلة مع المفكر والسياسي وعالم النبات والطبيب البيطري العربي لأن التصنيف التعسفي يقع على أي فرد، ويصبح مشكولا بسلسلة طويلة من الاتهامات، وهنا احتمال مواجهة الواقع إما بالهجرة أو قبول المصير المجهول، وصارت حكاية أزمة هجرة الأدمغة والغربة الوطنية جزءا من حقيقة المواطن العربي..
القرية ذاتها رمز لاحتفالاتنا وخيالاتنا لأن الأزمنة والمواقع وجغرافيا الكون، شروقه وغروبه هي خليط من الأزمنة والوقائع التي لا تشدنا إلى الخروج من دوائر الضنك، والتلاؤم مع النفس لنكون حكما على أنفسنا من داخل أنفسنا..
العربي يخطط لمقاييس قبره، وسعة كفنه قبل أن يضع مقدمة جديدة بالحياة لصناعة مستقبله.. عاداتنا وتقاليدنا، وأمورنا كلها تأتي بجرعات كبيرة منذ الولادة إلى آخر لحظة لفراق الحياة وجوهر المشكلة أننا في اذاعاتنا وتمثيلياتنا وحواراتنا في الشارع والمقهى كلها صراخ وانتصار لشخص البطل الذي لا يعترف أنه مهزوم من داخله.. هجين بين المدرسة والبيت، ومفرط بالقسوة على نفسه في المبالغة في الكرم، وفي الصفاقة عندما يتعرض إلى أي سبب يستثير فيه غريزة المجابهة والتصادم..
نحن لا نتلذذ إلا بسير المحاربين وأصحاب الثارات وعظمة الرجال الأشداء، ونشعر بنفس الوقت بالغبن بأن العالم لا يرانا من وجهة نظر محايدة وعادلة، وكيف أننا اكتشفنا الصفر، والدورة الدموية، وقلنا بخطوط الطول والعرض، وسبقنا العالم بتحضير الكيمياء، وزخرفة المساجد والقصور..
الصين من أقدم حضارات العالم، ولكنها أرادت أن تختصر نظرتها إلى الماضي بما يحقق أهداف اليوم، ولذلك جعلت عداواتها وصداقاتها أرقاما، وكلمات مختصرة تؤدي إلى معنى محدد هو ماذا يجب أن تكسب، وما هي حقيقة العداوة والصداقة مع أمريكا، أو روسيا ولم تلتفت إلى عظمة سور الصين، أو تعاليم “كونفوشيوس” لا من قبيل التسلسل الزمني بمرحلة ما كانت عليه في الماضي..
وفي الوطن العربي التردد على بيت مشعوذ أو طبيب شعبي يفوق إقناع أي طبيب يتعامل مع موازين الأدوية الدقيقة ونسبها وقوة تأثيرها، لأن المنشأ والمعتقد هو اللجوء إلى دفع أمراضنا وخطايانا بأسلوب المعجزة التي تتحقق من خارج وعينا، ولذلك صار تحكمنا بالغضب والفرح.. الهزيمة ولنصر، من منطلق أشواقنا إلى المنقذ، ولو كان لا يدخل في دائرة العقل، لأن الحق وصوت العدل في الوطن العربي باطل مع وقف التنفيذ.
المفكر العربي في علوم الدين، أو الفلسفة، أو قانون الأحوال الشخصية هو الذي يواجه الاتهام والمطاردة، لأنه أعلى الأصوات في مجتمع لا يريد له معلموه وقادته إلا أن يصوت بما هو خارج وعيه وحسه..
الدكتور “أبو النجا” لم يقل أكثر مما نمارسه بوعينا، أو ما هو خارج ارادتنا وهو الشيخ الذي تجاوز عتبات السبعين أراد أن يدلي بشهادته في الحضور العربي.. ولا أدري إذا كان من المناسب أن أروي حكايته مع الدكتور العائد من أمريكا متخصصا بمعالجة الشذوذ الاجتماعي.. هذا الدكتور هو الذي أوقف ابنته ساعات طويلة لخطأ عادي وطلق زوجته لأنه حسب (فصوص) الثوم ووجدها ناقصة واحدة.. ثم وجد أبناءه من بين الطلبة المتخلفين دراسيا..
هذا الدكتور هو الوطن العربي الذي يصر على أنه يدري ولكنه يدري أنه لا يدري!!


التاريخ: 19 – 05 –1403 هـ

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *