لم يكن دخول طاحون القمح الآلية بدلا من الرحى، وطاحونة القهوة ومروحة النار بدلا من منفاخ الكير إلى مدينتنا الصغيرة أمرا يمكن تجاهله.. ذلك أن هذه الأشياء تمثل أول تعامل مع منطق التحديث وتوفير الجهد الكبير بواسطة الآلة.
فالمرأة التي تسهر لياليها ومعظم نهارها على طحن كيس للقمح على رحاها اليدوية الثقيلة، فوجئت كيف ان دقائق معدودة استطاعت ان توفر ذلك المجهود العضلي بسرعة هائلة.
بنفس الوقت كان حدثا كبيرا حين دخلت مضخة المياه الزراعية مدننا لتوفر جهدا آخر يبذله الرجل لتوفير الحد الأدنى من العيش المعقول الذي حافظ على تنامي هذا الانسان في بيئة شديدة البخل في الإمكانات الاقتصادية إلا ما توفره سنوات المطر الشحيحة في إيجاد وفرة في الماشية، أو زراعة القمح البعلي، وكنز الأعشاب البرية تحسبا لأي طارئ في المستقبل.
هذه الصورة لم تنبت خارج بيئتنا أو وعينا في تاريخنا القريب جدا، الذي تعايشنا معه جسديا. وعقليا. ونفسيا في إطار التلاؤم مع الواقع مهما كانت قسوة الظروف أو انفراجها.
إذا كان التبدل السريع في حياتنا الحاضرة جاء كحالة ننفرد بها نحن فقط فإن المقاييس التي نتبعها كشروط للمستقبل يجب أن تبنى على منطق الحل للظرف الحاضر والتوجه إلى المستقبل بروح أخرى أقرب للانتماء للعصر بكل موجوداته وتقدمه، أي صنع الإنسان على قواعد موضوعية لا تفرط بالمقاييس الصحيحة، أو تنفي مطابقتها للحقيقة، ونضع جدلية الخلاف تصحيحا لمساراتنا القادمة بدون عقدة الخوف والتردد. وحسم الأشياء لصالح أحلامنا فقط، لنبقى في منطقة مظلمة ومعزولة عن التقدم البشري.
نحن نجابه عصرا برمته ونفهم أن لنا قواعدنا الاجتماعية التي ترسبت بها العادات العظيمة، والسيئة، وهذا لا يعيبنا، لأننا لا ننفرد بهذه الخاصية، ولكن الظروف التي تهيأت لنا قادرة على أن تضع شيئا خاصا بنا من حيث وضوح هويتنا المناسبة. وافراز النمط المتطور الذي يجمعنا على وحدة واضحة.
لذلك فإن دواعي الوعي في حاجتنا وضرورتها لإقامة مجتمع متنام قادر على الاستجابة للحاضر وفك طلاسم ما سيكون، دون أن تظل التأثيرات المفاجئة صدمة حضارية، لا يمكن التحكم بتطوراتها، انه شيء هام بأن يتحقق لنا وعي واضح بحقائق الأشياء ومقاييس تطورها.
أ – بين الوعي.. والثقافة:
هناك تعريف غائم بتحديد معنى الوعي. والثقافة.. وفيما يبدو لي أن الوعي هو التعامل مع القيم والموروثات. ومستحدثات العصر بكفاءة وسلوك لا يتناقض مع الآخرين..
في حين أن الثقافة هي حصيلة هذا السلوك. وتحليل الأشياء وفق معطياتها الحضارية القديمة، أو الحديثة. في إطار علاقة مشتركة بين الإنسان والحياة لكننا قد نقف من الثقافة بما يشبه التعليل الخاطئ. أي أن الثقافة التي لا تتجاوز الوضع الراهن بتقاليده وعاداته، هي ثقافة ساكنة اتباعية. لا تنزع إلى حل معضلة التخلف، وهو ما ظل قائما في معظم الدول النامية..
أما الثقافة الموضوعية فهي النقيض المباشر، أي التي لا تجعل الماضي بكل موروثاته عقدة لا يمكن تجاوزها بحلول عقلانية. تنسجم مع هذا العصر وهنا كان الجدل طويلا عن ثقافة المجتمع ومدى استجابته لثنائية الماضي والحاضر، ومشكلة التكيف مع الظروف القائمة..
لذلك صار التفاوت الاجتماعي بين فئة وأخرى بالإمكانات والظروف وجها آخر لتحديد نوعية هذه العلاقة بين طبقات المجتمع ونشأ ما نستطيع تسميته بالوحدات الاجتماعية الاقتصادية.
فرجل الأعمال الكبير لم يعد محيطه الصغير مرتبطا بنمط القرية، أو العائلة، وإنما أصبح يتعامل مع الفئة التي تتجانس مع طموحه الاقتصادي والتي أفرغت ذهنها من المضامين القديمة، لتظل في محيط الأرقام والبورصات وجدولة الحسابات، أي التمحور داخل نمط اجتماعي له تطلعات، وأهداف نفعية خاصة..
من جهة أخرى انعكس ذلك على طبقات المثقفين من أساتذة الجامعات والمدرسين، والأدباء لتظل هذه النوعية قريبة الصلة مع بعضها لأن الناتج الفكري هو الرابط الأقرب، ولأن التفاوت المادي لا يسير بخط متصاعد كما هو الحال بين رجل المال والفئات الدنيا.
وينعكس هذا على بقية القطاعات الاجتماعية التي تنمو في محيط طبقتها أي أن الطالب يتفاعل مع الفصل والمدرس، ولكنه ينعزل اجتماعيا داخل سور العائلة مع توفر الإمكانات وإتاحة الفرص المادية.
لكن الوعي الاجتماعي بالتقنيات الحديثة التي جعلت المرأة تلمس زرا صغيرا لتنهي مشكلة غسيل الأواني، أو الطبخ بأفران “المايكرويف” أو استعمال التاجر جهاز الكمبيوتر الذي يحسب سعر العملات في كل بورصة نقد دولية وأسعار البضائع في البحار أو المصانع.
وكذلك الطالب الذي بدأ يمارس الحاسب الصغير وربما أصبح يمتلك جهازا آخر يبرمج منهجه الدراسي لعام كامل.
أقول هل هذه المعطيات التقنية قادرة على حل اشكالنا الاجتماعي، سيما وأننا أصبحنا نتعامل مع هذه الأجهزة بروح المستهلك السريع والذي لم يسع إلى المساهمة بصنعها أو تطويرها، ثم ما مدى تطوير الذهن الاجتماعي لربط هذا النمو السريع بالتقنيات بروح الابتكار والعطاء.
ونأتي بقضية أخرى لها نفس الأعراض والتشابك من حيث الأخطار والنتائج..
فالمجتمع الذي يتوسع بالاستهلاك إلى حد الإسراف خاضع فقط لمكاسب الظرف الحاضر أي ان استعمال الأجهزة الحديثة المتعددة التي تستطيع السيطرة على التحكم بإضاءة مجمع سكني كبير وأجهزة التكييف وسقي الحدائق ليست مقياسا حضاريا في نفس الوقت نحن نعيش في وحدات سكنية تزيد عن حاجة العائلة. ويتبع ذلك إسراف في الكهرباء والماء والغاز إلى جانب حتمية وجود عمالة للصيانة والتشغيل هي عبء اقتصادي على الموارد القائمة، ثم هناك غريزة التغيير في الأثاث والمقتنيات الآلية بما فيها السيارات وأجهزة العرض والتكييف لا بدافع أنها غير صالحة للاستعمال. ولكن لغاية مفهوم التجديد والسير في ركاب الطبقة أو الفئة التي ترتبط معها تلك الأسرة مع غيرها في حتمية التقليد والمنافسة على الحصول على أكبر كم قد يكون زائدا عن حاجة الاستهلاك الترفيهي.
ب _ الارتباط بالأرض:
نمو المدن بشكل سرطاني يضعنا أمام حتمية التعايش في ظل الحركة الدائبة. وطحن الزمن بأقصى سرعة. لأن الصراع هنا ارتبط بعجينة اجتماعية لا يصدق عليها شكل الطبيعة والسلوك الواحد، لأن المطلوب انجاز ما بين يديك وفق قانون الرابط النفعي.. أي أنك موظف في مؤسسة تجارية لها شروط العمالة التي لا تتسامح مع ضياع الوقت أو العيش خلف الزمن، لذلك كانت الحركة داخل المؤسسة التجارية معقدة التركيب لأن طبيعة المدنية وضعت أهدافها من خلال هذا الأسلوب في الحياة.
لذلك كان الاتساع في الخدمات والإنجاز وإلحاح المطالب اليومية يفوق صورة القرية أو المدينة الصغيرة. ولكن زحف المدنية السريع على القرية تجاوز الحدود. وانتهى بمجرد أن أصبحت الصلة مباشرة ويومية.. وهنا كانت التقاليد الزاحفة من المدن الكبرى هي التي ألفت تلك الخصوصية لمجتمع القرية.
في نفس الوقت صارت العلاقة بين الأرض والفلاح لا تقوم على العمل المباشر. أي أن يكون المالك هو العامل الأصلي الذي يحرث الأرض ويزرعها ويراقب نموها.. إنما أصبحت الآلة والعامل الزراعي الأجنبي هما اللذان يحققان هذا العمل، والمالك هو الذي تنتهي إليه أرقام الإنتاج والأرباح ولهذا صارت العلاقة بين الإنسان والأرض علاقة وظيفية تقوم على الرأسمال البحت وربما أن ذلك من العوامل التي تضعف الصلة الحسية والمادية عند الفلاح الذي يطور موارده بجهده الخاص، ولا أعني بهذا الحالة الشعرية التي تكون هذه العاطفة وإنما الأثر الذي تتركه المزرعة على التشكل الاجتماعي بكل دواعيه الاقتصادية والذاتية..
وإذا كان الرمز للقرية يرتبط بالمزرعة كتجسيد لهذا الكيان. فإن القرية في الوقت الحاضر، أصبحت ضاحية مدنية تغيرت مفاهيم الخير والشر. والأساطير. ومعرفة الأنواء داخلها. والتقت مع المدينة بكل حيثيات الوجود الحضري وفلسفته الفكرية.
لكن صورة أخرى تبرز بكل توترها. وضغطها، لنسأل هل ستصبح عوائق التنمية في المستقبل متوافقة مع البطالة التي نسلكها الآن بسبب الترف الزائد، والمعونات شبه المجانية التي وفرت الأيدي الأجنبية لتكون بديلا عن ممارسة أي نشاط لنا..
للإجابة على هذا السؤال، نقول هل بالإمكان التخلي بسرعة عن هذا الاستهلاك غير المنظم دفعة واحدة؟
إن المسألة تحتاج إلى دراسة عملية لاتجاهات المجتمع وتطوره وأنماط العيش التي انطبعت في سلوكه العام، لأن مسألة استرداد الإنسان إلى وضعه الطبيعي دون حدوث صدمة مباشرة لا يقف مبهورا أمامها يحتاج منا إلى تطويع حياتنا بكثير من الهدوء والوعي والإقناع.. ويتحتم علينا في هذه الحالة
• أن تكون حاجاتنا على قدر واقعنا، إذ أن نرشد الاستهلاك في الضروريات من ماء وكهرباء وغاز وطعام أم يجب أن نلتقي معه على طريقة تؤهلنا إلى معايشة الحياة بوعي المستهلك المتطور لا الإنسان المبذر الذي لا يعنيه المستقبل واشتراطاته.
• أن ندرك أن الجيل الذي ينمو بيننا تحت ضمانة الظروف المادية السهلة سيقع ضحية العجز، والانبهار لأي سبب يمنع عنه توفر هذه الإمكانات طالما أنه تكيف مع حاضر هو لم يكن مسئولا عنه. خاصة وأن عامل السلطة بين الأب والابن انتهى فانتهى التمايز بينهما في المعاملة والممارسة.. إلا فيما تبقيه العلاقة الروحية من احترام خاص.
• معرفة أن القاعدة الفكرية التي لم نرسم حدودها، أو مضامينها حيث يكون لنا مجتمع صناعي وشبه زراعي سيخلق شروط عاداته وتقاليده وفقا لهذه الظروف. يتطلب أن ندرك أن منزل اليوم قد لا يكون هو المقر الطبيعي لعائلة محدودة سوف يفرض عليها التطور وعوامل الزمن أن تعيش حالة الاستهلاك السريع المنظم، وهو ما سيوقف تركيب العائلة الكبيرة إلى العائلة الحديثة التي تخضع لمقاييس العصر وطبيعته..
• إن المؤسسة الاقتصادية الصغيرة ستضطرها الظروف إلى الاندماج بالمؤسسة الكبرى أو تكون تابعة لها بحكم تطور الإنتاج وهذا يعني أن المؤسسات الخاصة التي قامت على مغامرة السوق المستهلكة ستختفي وتحل محلها مؤسسة ترتبط بالوجه الجديد للاستهلاك وكذا غيرها وغيرها..
أخيرا نقول أن مجتمعنا منفتح على كل شيء ولكنه لم يضع صورة متوازنة بين ما هو كائن وما سيكون، وتلك حالة يجيب عليها الذين يطلون من استنتاج استقرائي له أصول البحث المنهجي لا من مقال كهذا، هو اجتهاد شخصي فقط، ولكنها الأرض والإنسان وتلك هي جدلية وجودنا ورمز مستقبلنا على كل حال.
التاريخ: 26 – 05 – 1403 م
0 تعليق