حين كانت حاراتنا الطينية محدودة وصغيرة، وناسها بسطاء طيبين يؤمنون بالله وملائكته، ويؤدون واجباتهم الدينية بهدوء وراحة بال، كان الجديد بالنسبة لهم مثيرا للدهشة لدرجة الرفض والمقاومة!!
القصص التي كانت تروى لنا نحفظها عن ظهر قلب، نحكيها وإذا نمنا نحلم بها، تطاردنا عفاريت الآبار، والقطط السوداء التي تمتلك أرواح الجان، والحيات التي تسكن على كنوز الذهب، وتحرس جماجم المعتدين عليها في تلك المغارات المجهولة!
الخفافيش وحكاياتها المتجددة.. قالوا إنها بريد الشياطين، ومن يقتلها، او يتحرش بها تحاصره الكوابيس، وتخرج له بالظلمة على أشكال غول، وذئاب، ونسو مناقيرها من حديد..
في الوصفات الشعبية قالوا أشياء كثيرة عن رؤوس الهداهد وأشواك القنافذ، (وحرز) جلد الذئب، ولسان الغراب ودم الأفاعي!!
عشنا حياتنا وأحلامنا بتلك الحدود العادية، أو شبه البدائية، ولكن القضاء والقدر أحد منطلقات الإيمان في مجتمعنا لأنهم يؤمنون بالله بصفاء.
ولأننا في مجرى التغير فقد غزت (الشنطة) واسطواناتها الغنائية بيوت الميسورين، وصار الذين يسمعونها جنسا مارقا خارجا عن قانون الحياة، ويستحقون العقاب.. ولذلك تغلق الأبواب وتدس المناشف والخرق في مصادر الصوت حتى لا تثير حفيظة الآخرين عند خروج الصوت.. المدخنون الذين لا يقاومون سلطة الرغبة بالتدخين يحرقون القهوة، والعود، أو ينثرون السكر على الجمر لتعطي هذه الروائح غلبة رائحة الدخان..
الحلاقون كانوا قضية اجتماعية لأنهم أدخلوا على شعور الرؤوس (التواليت).. خرج الشعراء في مبارزة عنيفة على هذه العادات الخارقة، حتى معلمنا الطيب كان يروي لنا عن عقاب الدنيا والآخرة فيمن يقلد الكفار من النصارى واليهود، أو يتشبه بهم..
إمام المسجد خطب يوم الجمعة، تحدث عن الراديو، واللاسلكي، ولبس الحرير والذهب.. كان قاضيا في مسجده يخاطب الناس بلغة لم يعتادوها، وهو الذي تعلم بالأزهر، وقرأ ابن تيمية والصحاح، وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب..
كان عالما بالقضاء، ومعلما باللغة العربية وعلوم الفرائض لم يظهر أي استنكار لهذه المستحدثات، ولا زلت أذكر وسط غرابة المعلمين في مدارسنا حين قال ان هذه ابتكارات وصناعات بشرية ولكن الخالق هو موجد الوجود ولا بد أن نرى أشياء كثيرة جدا، لأننا في عصر علم وسنرى ما هو أكثر من ذلك!
كتب أحدهم قصيدة ساخطة يندد بهذه المواقف، ويصفها تعديا على الأعراف والنواميس، ولا يقرها الدين!!
رد القاضي الكبير بقصيدة مماثلة حفظها الناس، وفكرا رموزها والغاز معانيها.. ونقلها المسافرون إلى ما هو أبعد من تلك المدينة الصغيرة..
كان هذا الحدث أحد الأساليب التي فجرت الأحاديث والتساؤلات بين المدرسين، والطلبة، والأميين.. اتسعت دائرة الحوار.. القاضي الكبير أصبح على موعد في كل يوم جمعة يتحدث للناس بما يفكرون به.. مسجده الصغير صار لا يتسع للمستمعين وطلبة العلم، والمستنكرين والمؤيدين.. ولكنه عامل الناس بما يجب أن يكون..
سأله أحدهم يوما..
- “هل يجوز يا فضيلة الشيخ لبس أحذية البلاستيك”؟
رد.. - “ومن الذي يحرمها وهي التي تطأ على الأرض نجسها وطاهرها”؟
- “يعني يحللها فضيلتكم”؟!
- “وهل هناك معترض”؟
- “لقد قال لي رجل طيب أنها لا تجوز، وانه يصدق عليها قوله تعالى: “سرابيلهم من قطران”!!
وابتسم القاضي الكبير.. رد - “انه فهم معنى وجهل آخر.. ولكن ذلك لا يحرم لبس هذه الأخفاف”!!
أنا.. وصديقي..
الهاتف يرن..
- “أتسمح بجزء من وقتك”؟
- “وهل هناك شيء مهم”؟
- “مجرد حديث عابر”..
- “عن نتائج المباريات، والفريق الذي سيفوز بالدوري”!!
يضحك.. - “.. لا الحديث عن غرابيل”!
- “زاوية في الصفحة الأخيرة بجريدة (الرياض)”!
- “.. أنا لم أقل إنها لوحة (بنشر) في شارع عسير”
- “وهل تنوي أخذ هذا الاسم لمؤسسة تجارية، أو محل فديو”؟
- “أرجو أن تسمح لي مرة أخرى لأن الموضوع يتعلق في موقف منك شخصيا”!
- “قل ما تريد”..
- “أتابع ما تنشره في هذه الزاوية، وان كنت لا أبدي اعجابي بكل ما تكتب، إلا أنني ألمس فارقا كبيرا حين تريد أن تخاطب الناس بلغة تصل إلى حد اللهجة الشعبية، وتثير عجبي في صفحتك إلى الحد الذي أتعب في متابعة ما تريد في آفاقك”!.
قلت.. - “وهل ترى أن ذلك ازدواجية في شخص الكاتب”؟!
- “الموضوع هنا لا أسميه قدرة الكاتب على مخاطبة الناس باللغة السهلة التي يفهمونها، وإنما لماذا لا تكون قاعدة التعبير عندك واحدة”؟!
قلت.. - “وهل المطلوب من الموسيقار أن يجعل الناس كلهم يطربون لقطعة موسيقية، وكذلك يجب على الكاتب أن يبسط الفيزياء، وشعر امرئ القيس، ويرغب الناس بلون واحد من التعابير، والأشكال والمواقف”؟!
قال.. - “أنت تحاول أن تدافع بإلقاء التهم على غيرك، وهذا هروب من موقف اخترته لنفسك”؟
رديت.. - “طالما أننا في مشكلة التعبير، فأحب أن أقول وجهة نظري بقضية الأسلوب عموما، وان كنت حقيقة أعتبر نفسي مجرد قارئ ورط نفسه في مشكلة الكتابة..
يا صديقي العزيز.. ان الذي يكتب عن مجموعة قصص يجهل معظم القراء نصها الأصلي، لأنهم لم يقرأوها تصبح بالنسبة لهم ألغازا.. وهذا عمل يقال له في مصطلح الأدب نقد..
وان آخر يكتب في السياسة من موقع القوانين، والاتفاقات الدولية، ويتابع سيل وكالات الأنباء، وتقارير المراسلين، يكتب بمصطلح ما يعرف في علم السياسة..
ولذلك فالكاتب تسيطر عليه مواقف اللحظة التي هو بها، لأنه كتلة من المشاعر والأحاسيس، وحين يكتب تحت سلطة هذه الضغوط النفسية يضع نفسه في مجال المتهم والبريء من قبل القارئ..
والفقير إلى رحمة الله يكتب بدافع ما يعتقد أنه لغة الموضوع المطروح ولا بد أن الذي يفهمه في غرابيله يستطيع أن يجد من يفهمه في آفاقه وتحديد المفاهيم، وتلبية الرغبات غير ممكن ولذلك قيل الكتابة هي شخص الكاتب ولا أستطيع أن أعرف نفسي إلا من خلال الآخرين لكن هناك ملاحظة أساسية تخضع لمقياس الفهم عند الآخرين..
لأسألك، هل كل الشعراء يفهمون لامية الشنفري بدون فك طلاسم لغة الشعر الجاهلي؟!
وهل مطلوب للمؤرخ أن يفهم المصطلح الفلسفي، والنقدي ونظريات علم النفس والجمال.. وموسوعات النقد ومحاكاتها؟!
القدرة على التعبير موهبة، وأستطيع أن أقول لك، أن كتابا فلسفيا لم يتجاوز المائة صفحة قرأته في شهرين.. وكتاب “الانسان ذو البعد الواحد” قرأته في ستة أشهر، ومع ذلك لا أشعر أنني فهمت بدرجة كبيرة، ولا أستطيع أن أقول إن هذا عيب بالكاتبين، وإنما هو نقص في إدراكي لمعنى ما يريدونه، ومع ذلك كان تأثيرهما في الغرب فوق ما تتصوره”..
قال الصديق معقبا.. - “إنني احتاج إلى جلسة أخرى مجال الزمن فيها أيسر للحوار.. وأرجو أن لا تشعر أنك أوصلتني إلى قناعة ما.. وسأترك ذلك إلى فرصة أوسع”..
في غرفة التحقيق!!
في مركز (البوليس) بإحدى المدن الأمريكية.. الشرطة والأطباء، ورجال الحراسة..
الجرح الثخين يقطر دما.. لكن الابتسامة لم تفارق وجه ذلك الرجل الأسود..
سأله الضابط
- “سيدي إن الذي اعتدى عليك رجل يجب أن يخضع للتحقيق والفحص الطبي على صحته النفسية”..
يرد الزعيم الزنجي “مارتن لوثر كنج” - “إنني عفوت عن هذا الرجل الأبيض”..
رجل البوليس.. - “ولماذا يا سيدي”؟!
يمسح الزعيم ندى الجرح.. - “إنني على موعد مع ابنتي التي تحتاج إلى هويتها”!
يسأله صحفي.. - “وما هي يا سيادة الزعيم”..
- “إنها عروسة بيضاء لطفلتي الزنجية”!.
هذا الحديث القصير قاله الزعيم الزنجي المشهور، ويومها تظاهر السود في أمريكا، وتحدثت الصحافة، وقنوات التلفزيون.. ولكن الرجل المتسامح ذا القلب الكبير، سقط مرة أخرى.. ولكن إلى النهاية المحتومة التي لم يعد بعدها.
التاريخ: 04 – 06 – 1403 ه
0 تعليق