القائمة البيضاء

آفاق | 0 تعليقات

عقدتنا الأزلية مع أنفسنا أننا نحاول أن نجري على مساحة متر واحد
نلحق اللوم بالآخرين حين نسقط سياسيا بسبب خلافات نتمتع بصنعها وادارتها.. ونخطئ إعلاميا، ونريد للناس أن يفهموا رموزنا ومواقفنا، ويعفوا عن زلاتنا، وتجاوزاتنا..
قضية “الأوسكار” وجائزة “نوبل” هدف راقصة صغيرة بأندية لندن وباريس الليلية، إلى أي كاتب أزجال وأشعار نبطية بإحدى حارات القاهرة، أو قرية نجدية!!
قبل سنوات كانت التغطية الإعلامية وصلت إلى كل زاوية في أوروبا وأمريكا لــــ (فرانك سيناترا).. ويومها جاء أحد تجار الحفلات الشهيرة الألمانية بغرض أن تتظاهر المدن الألمانية بالاحتفاء بهذا المغني الكبير..
جهز أحد الملاعب الرياضية الكبيرة لهذا الحفل الأسطوري.. كانت المراهنات على بيع التذاكر والتي طبع منها ما يزيد عن خمسة عشر ألف تذكرة، حديث الناس، وأصحاب “الأكشاك” والبقالات..
في اليوم المشهود لم يحضر إلا بضع آلاف من الشعب الألماني، وسط غرابة وسائل الإعلام تساءلت لماذا؟. ولكن الجواب جاء من استفتاء حصيلته ان “سيناترا” قد أفلس، وأصبح مرحلة تاريخية للماضي فقط، ولم يعد ذلك الذي يحرك حناجر الجماهير لتعلق صوره على قمصان المراهقين، أو يتسابق عليه الجمهور لطلب الحصول على توقيعه فوق قطعة ورق، أو مفكرة عجوز يسجل ذكريات عمره الطويل!!
أيضا بيننا هنا، في الرياض، شاب أسمر نحيف يحفظ شعر (بن لعبون) وشوقي، وحكاية “سعلوة القليب” وغرام شهرزاد..
هذا الشاب يحمل حفيظة نفوس سعودية مهر اسمه عليها وكتب تحت صورته “محمد القويعي”..
موظف صغير في وزارة البترول.. نقهقه بأعلى أصواتنا حين نعلم أنه جمع “المغاريف” ومشايات الأطفال، و”الخزاري”، وحجارة “الهيب” والمقاليع..
متحف شعبي صغير يرحل من بيت لبيت.. يجمع ويتعب ويمارس عناد الرجل الصابر حتى من أهله الذين كرهوا هذه “الهداريس” والأواني الحجرية والنحاسية..
بعثة يابانية، زارت وزارة البترول.. عرفت أن هذا الشاب يملك مخزونا هائلا لتراث شعبي جمعه بعرقه من بيوتنا وشوارعنا منذ سنوات طويلة..
مندوب جريدة “أساهي” أشهر جريدة في آسيا، والتي توزع ما بين سبعة، إلى تسعة ملايين نسخة يوميا، والتي يساوي الإعلان بها على ربع صفحة ما يؤهل عائلة آسيوية، أو افريقية لشراء مسكن صحي بقيمة هذا الإعلان، تسكنه مدى الحياة..
الصحيفة سعت إلى “القويعي” في بيته.. صورت ممتلكاته الشعبية.. وحاورته على مساحة نصف صفحة بالجريدة المشهورة.. غير هذا تقدمت شركة يابانية، أن تنقله على حسابها الخاص، لتعرض موجوداته في طوكيو.. وتصوره في فيلم وثائقي..
رفض لأسباب خاصة.. ومع هذا لا يعلم به من خلال وسائل اعلامنا المرئية، والمسموعة، أي انسان!!
هذه المقدمة فرضت نفسها علي، وأنا أجاهد ما يدور بين الناس من أحاديث حول “التلفزيون” وشركات الإنتاج.. والتجارة المباحة في تشويه التراث، والسطو عليه..
مثقف من الشقيقة مصر جاء معاتبا، يحمل جملة أفكار وحقائق فيما يعرض على مستوى محطات تلفزيون الخليج.. قال بألم:

  • “هل وجه الشعب العربي في مصر، هو مجموعة النصابين، والمطلقات والمرتزقة، وأصحاب الرشاوي، وغيرهم ممن تصورهم هذه الأفلام”؟!
    وحتى لا أجعله يفقد توازنه العاطفي.. وأحد من انفعاله.. قلت:
  • “أنت تفتح ملفا كبيرا اسمه (تجارة السينما والفيديو)” وأنا أظن أن المسألة تقع ضمن مسؤولية الدول العربية مجتمعة.. وأعني أن الإساءة مهما كان نوعها أو جنسية منتجها يجب أن توضع لها حدود لا تتعداها..
    فالذين يخطئون بتاريخ سعد بن أبي وقاص، أو طارق بن زياد لا يشوهون الرياض، أو القاهرة، أو بغداد.. وإنما يسيؤون لتاريخ عربي كامل.. ولذلك أنا معك أسأل.. هل التراث حق مشاع للمتطفلين والجهلة، وتجار الإنتاج الخاص”؟
    ثم ما هو دور الجامعة العربية، خاصة إذا فهمنا أن القطع الأثرية التي تسرق من أي متحف يعاقب عليها القانون، أو التشريع المحلي.. فما بالك لو صور أحدهم عن جهل، أو حسن نية فقيها إسلاميا مع جارية لعوب من فارس”؟ هذا الموضوع يذكرني بالطريقة التي تمارسها إسرائيل معنا..
    فقد عرض بإحدى الدول العربية مسلسل بدوي طغت عليه قضية الثأر.. والانتقام.. وسائل الإعلام الصهيونية، انتقت هذا المشهد، وعملت عليه شريطا خاصا، جعلت أساس موضوعه هذه الوثيقة من المسلس لتطرح شكل العربي الهمجي.. الخ..
    قد يطول الحديث، عن “مافيا” النشر، والسطو على حقوق المؤلف العربي.. وأرجو أن لا تستغرب أن داري نشر عربيتين عضتا كتابا واحدا، وبسعرين مختلفين..
    صاحب حق النشر حاول أن يوقف الكتاب من المعرض.. فتح قضية طويلة، انتهت بطي قيدها للمعلومية فقط ..!!
    اقتلع نظارته ليمسح قطرات عرق مالحة.. قطب جبينه.. رد معقبا..
  • “أنت تحاول أن تتجاوز، بما تعتقد أنه مشكلة صغيرة، إلى ما هو أشمل وأعمق”..
    تريد أن تتحدث عن حقوق، النشر، والتأليف، والترجمة وتحاول أن تعبر جسرا مقطوعا.. أنا أرغب أن أحصر الموضوع بنقطة الجدل الأساسية، وهي سيل هذه الأفلام التي تعرض بدون رقيب، وتنتج بأسلوب أقل ما أصفه به هو اللامسؤولية الأدبية..
    ربما تحاجني بأن ذلك ليس من مسؤولية المنتج وحده، وإنما هي مشتركة بينه وبين الكاتب، والممثل، والمخرج الذين يحملون الجنسية المصرية..
    وإذا كنت أريد أن ألتمس العذر، كما تحاول أن تروج له الصحافة، بأن لجوء هذه الفئات دافعها مصلحي شخصي، جعلت البعض منهم يلجأ لهذا الأسلوب ليعيش فقط”..
    قاطعته..
  • “ولكنك تنسى أن الأمر يتعلق بمؤسسة السينما والإنتاج التلفزيوني في مصر.. بمعنى أدق يجب أن تكون هذه الأسماء، أو من يتعاون معها قيد رقابة صارمة تطبق أقسى العقوبات عليها وفق القوانين المعمول بها في بلدكم..
    صحيح أنهم لجأوا إلى الإنتاج مع مؤسسات تجارية غرضها البيع والشراء، أجازت لنفسها أن توظف إمكاناتها في شراء (استديوهات) في الخليج، واليونان والأردن، وتنتج لمشترين لا يفرقون بين “شكسبير”.. “وحميدان الشويعر” وتصبح بذلك بعيدة عن العين المباشرة هناك.. ولكن هذا لا يعفيهم من القانون ولا يجب أن تتسامحوا به”..
    أغلق فمه المفتوح.. سكب في جوفه كأس الشاي البارد.. قال..
  • “عفوك.. أخي.. أنت تعرضت للسطو على الكتاب وغيره.. الكتاب يحمل خصوصية ينفرد بها وحده، وقارئه في وطننا العربي أصبح شبه نادر.. لكن الأمر هنا أن المشتري مؤسسات عربية حكومية.. والصورة والحركة في العرض التلفزيوني أكثر عمومية، لأنها تطال حتى الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة، وهنا خطورة التأثير..
    أنا أفهم أن أي مجتمع في العالم، يوجد فيه النقائض، ولكنها ليست القاعدة العامة لأخلاق المجتمع.. وهذا ينطبق تماما على مصر..
    لا أريد أن أكرر أن القاهرة هي مدينة المعز التي أنجبت العظماء من الكتاب، والفقهاء، والفنانين.. هذا أمر مفهوم ولا يغيب عن أحد..
    لكن ما قولك في طلابي بالمدرسة حين يواجهونني بما شاهدوه وكأنه حقائق.. سألني طالب عرض في منزله فيلم يصور ممثلة نصف عارية في حلقة حشاشين.. قال لي.. “ألا تعتقد أن هذه إساءة لكم حين لا يبرز لمصر إلا وجهها القبيح”؟.
    حاولت أن أجيبه بأشياء كثيرة، أن هذا جانب من شذوذ في المجتمع، وأن المعالجة هي التي جاءت خاطئة حين استغلت بوجه لا يرقى إلى العمل الفني الذي يعالج المشكلة من موقع حدوثها واشكالها.. ولكن هذا يحتاج إلى أن أكون محاضرا، أو مصلحا اجتماعيا، وهما ليسا من وظيفتي الأصلية”..
    قلت..
  • “وما هي اقتراحاتك بالحل”؟!
  • جاوبني..
  • “أن تقوم مصلحة السينما والإنتاج التلفزيوني بمصر بوضع قوائم سوداء تفرض مقاطعة كل من يسيء إلى بلده.. ولا تكون حجة أن يتطاول أي ممثل أو منتج أو مخرج بدعوى العيش على حساب سمعة وطنه..
    الشيء الثاني أن يكون هناك من الدول العربية الأخرى رد فعل إيجابي يحظر هذا التهريج السقيم الذي لا يقوم على أية قاعدة أو مسؤولية ترعى سمعة هذا الوطن الشقيق”!
    قاطعته..
  • “إذن مبروك علينا وعينا وأمانينا بأن نحصل على “الأوسكار” وجائزة “نوبل”.. يا صديقي كل له من همومه نصيب ولو ان الغباء خبز عالمي يوزع على كل الجائعين كما يقولون”!!

التاريخ: 11 – 06 –1403 ه

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *