وكل عام وأنتم بخير..
في مذكرات “برزنسكي” التي تنشرها بعض الصحف العربية، تعرض لموقف خاص من شخصيات صهيونية..
قال إن الوفد الإسرائيلي فاجأه بوثائق تقول إن والده كان واحدا من الذين ساعدوا على تهريب اليهود من ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، حين كان سفيرا (لبولندا) في برلين..
وقال إنه تأثر لهذا الموقف، خاصة وأنه الرجل الذي يدين بالمسيحية (الكاثوليكية) ويؤمن بمثل هذه المبادرة الإنسانية..
الموضوع هنا ان الصهيونية العالمية لا تجابه الأحداث بضمير غائب، أو اجتهاد يصح له الخطأ أكثر من الصواب.. فبعث ملف والد رجل هو أحد المحسوبين على خطط القرار الأمريكي، يعني أنها على علاقة مباشرة ومنظمة مع تاريخ الشخاص والأمم.. ولذلك تبني استنتاجاتها على تحليل الواقع من خلال مصالحها وأهدافها ضمن مبادئ هي التي تسعى إلى خلقها لتنسجم مع إرادتها ومتطلباتها..
الواقع العربي خارج هذه الحقيقة، لأن المضامين التي نتبناها أو نسلم بها لا تخرج عن طبيعة انفعالنا، وتكديس أحلامنا الخارجة عن القانون إلا فيما يشدنا بأن نتوتر ونتصادم مع بعضنا..
الصهيونية العالمية قادت حملة رهيبة على الفاتيكان حين كان السيد ياسر عرفات يريد تلبية زيارة البابا.. وعلقت جرائم النازية على الجيل الألماني الحاضر.. وتناولت قبضتها مشردي النازية في الأرجنتين والبرازيل، ولا تزال ترفع شعار معاداة السامية عند أي مناسبة تشم منها أن العرب أصبح لهم موقع في أوروبا..
في قضية المفكر الفرنسي “رجاء جارودي” وزملائه من قسس وصحافيين ومفكرين أثير في المحكمة الفرنسية “لماذا إسرائيل هي التي يجب ألا تمسها آراء الأحرار في العالم إلا فيما يدخل في صف تأييدها والوقوف معها.. وكيف أن القوانين الفرنسية استجابت لاحتجاجات إسرائيل وسحب هؤلاء إلى القضاء ليقول كلمته المنصفة أو المنحازة.. المبرئة أو المدينة”؟!
الحقيقة هنا تفضحنا نحن العرب بكل صراحة، وبكل أسف أيضا.. رد الفعل العربي مظاهرة تحيا وتموت داخلنا.. نحاول أن نقول إن إسرائيل عدو من أول يوم ولدت فيه مشاريع الصهيونية إلى آخر يوم نمضي فيه بالإدانة ورفع الصوت والاحتجاج.. تغتصب الأرض وتذبحنا كالخراف السمينة..
منشأ السؤال، هو كيف أن تل أبيب قادرة على هز البيت الأبيض، والكرملين، وتعيين الحلاق الذي يصفف شعر “تاتشر” أو العامل الذي يربط “كرافتة” الرئيس الفرنسي؟!
المساحة التي تتحرك عليها الصهيونية العالمية، غير الأفق الذي يضيق على الشاعر والسياسي العربي.. إنها تخاطب حس المواطن العالمي بقواعد علمية اسمها التأثير النفسي، ومخاطبة العقل بخطط وقواعد لها منهج محسوب ومقبول من الآخرين بأن واحد لدرجة القبول بها لحقائق لا جدل أو خلاف عليها..
قبل مباحثات الخيمة “101” كان أمام العضو الصهيوني ملفا لكل ضابط مصري يريد أن يحاور.. كيف يفكر.. مستواه العلمي والثقافي.. مزاجه الخاص.. علاقته الأسرية والعاطفية.. الخ..
هذا ما عرفناه أو قيل لنا.. والنتيجة هنا تعلمنا أن الخطط بالمواجهة لها قواعدها العلمية.. ولذلك انطبق هذا الواقع على الوفد الصهيوني في المباحثات اللبنانية الثلاثية، حين قبل ما سبق أن كررته وسائلنا السمعية والبصرية والمقروءة في وفد الخيمة الشهيرة..
المبدأ المطلوب قتل العقل العربي، لا الجسد العربي، وقد كان الهدف وراء المواجهة الحقيقية قد بدأت مع قتل “غسان كنفاني” وزملائه لأنهم البداية المنطقية للتغلغل بالعقل الصهيوني، ودراسته على درجة قريبة من التكافؤ.. ومن هنا اتسم الصراع بالحسم والقوة..
في حصار بيروت الغربية، جاء وفد صحفي إسرائيلي يقوده “يوري أفنيري” للسيد ياسر عرفات.. وبصرف النظر عن الغايات السرية أو المعلنة، إلا أن قبول الزعيم الفلسطيني بمقابلة هذا الوفد كان شيئا جديدا، لا لأن الطرف الآخر يقع في دائرة الحركة الصهيونية، ولكن لممارسة نوع آخر من (التكتيك) مع مستلزمات الواقع.. وقد تكون النوايا غير ذات أهمية، خاصة إذا كان الهدف من ذلك الحوار في وضع الفلسطينيين مع الحرب والاعتقاد باعتذارهم عن مقابلة الوفد الصحفي، وخلق المعاذير لتلافي أي احراج بين الفصائل الفلسطينية..
في تلك الفترة عرفنا أسلوب الاحتجاج على “أفنيري” وطلب تقديمه للمحاكمة، والعدول عنها.. وهذا لا يثير الجدل أو يبطل القضية.. ولكن الأمر الحقيقي وراء ذلك كله أن لا يكون للعقل الفلسطيني أي تأثير، أو قبول داخل الحصانة الطبيعية لما يفكر به العقل الصهيوني..
نأتي لأزمة المفكر الفرنسي.. فالمكسب الصهيوني ليس إدانته وزملاءه بمعاداة السامية، ولكن تسجيل موقف وحضور بأن اليد الإسرائيلية قادرة على القبض على أي رقبة ترتفع بقول الحقيقة عنها..
فقد سجلت مبدأ قبول احتجاجها، وهو لا يغير في الحكم بشيء، ولكنه أجبر الرأي العام الفرنسي على التنبه على القضية مهما كانت الظروف..
المحاكمة الشهيرة تمت خارج أي تأثير عربي.. وهي عادة ألفناها وتمتعنا في قراءتها قراءة عابرة في الصحف العربية المهاجرة.. ولعلها مشكلة طويلة مع الذين يؤيدون القضايا العربية وحظهم العاثر معنا..
“جوبير” الوزير الفرنسي في حكومة “بومبيدو، وميتران” وصاحب الآراء الجريئة مع أمريكا، وكيسنجر.. والمؤيد للقضايا العربية، رفض أن يكون ضمن وفد فرنسي تستقبله حكومة “تل أبيب” وهي إشارة إلى إهانة الحكومة الفرنسية التي قبلتها بدون احتجاج، ودون اعتبار لهذه الإهانة!!
وكما فهمنا أنه قبل الساعات الحاسمة في إصدار الحكم على جارودي، وأصحاب الإعلان المثير الذي أدان مذابح صبرا وشاتيلا، كان التلفزيون الفرنسي يعرض فيلما عن “جولدا مائير” ولم نسمع من الجامعة العربية أو سفارات العرب في العاصمة الفرنسية أي كلمة احتجاج تؤخذ بعين الجد أو جبر الخواطر..
الصهيونية العالمية تعرف تماما أننا “ظاهرة صوتية” وهنا يكمن السبب في أننا لا نقلب الطاولة إلا على بعضنا..
فمحاكمة “جارودي” لا تدين مفكرا عالميا، بقدر ما يكمن الخطر في أن أي عقل بحجمه قادر على الغوص بالحقائق الصهيونية ومجادلتها بالوثائق والوقائع هذا هو الذي يشكل الخطر.. وهنا كان رد الفعل العنيف من كل الأوساط القادرة على التأثير في الشارع ووسائل الإعلام.. وحتى القضاء الفرنسي..
ذاك هو سر القوة عند خصومنا وأعدائنا.. لكن الذي يجب أن يتحمل قسط المسؤولية الكبيرة في مثل هذا المهرجان الذي حركته القوى الصهيونية هو رد الفعل الفلسطيني ذاته..
ماذا لو اتخذ المفكرون والساسة الفلسطينيون موقفا آخر يخدم بالتوقيت والموقف واللحظة الحرجة لهذا المفكر الكبير وأصحابه.. إن الفلسطينيين حدهم القادرون على خلق رد فعل معقول.. وأعتقد أن هذا جزء من معركة يخوضونها على صعيد العقل والسياسة، وكبرياء القضية.. لأن الوضع العربي لا يستطيع أن يتخذ مثل هذه الاستجابة السريعة.. ولأننا محملون بهم كبير عجز أن يدون حادثة كبرى ويعالجها بمنطق صحيح بريء من التوتر والاختناق أو الصمت الأبدي..
إن العدو الذي فاجأ “برزنسكي” بملف وثائقي لأبيه، هو الذي فتح ملف العار الأوروبي ووضع مجتمع هذه القارة، ومعها أمريكا تحت نفوذ الإرادة الصهيونية التي لا زلنا دون تفكيرها، وطرقها حتى ولو وصل رقم تعدادنا إلى المائتي مليون إنسان يعيشون على أرض تسمى أرض العرب!!
التاريخ: 18 – 06 –1403 ه
0 تعليق