لا أفهم لماذا تظل العلوم النظرية هي قمة العمل العربي في عصرنا الحاضر.
فلو أردنا النظر إلى مكتبة ما تأخذ بمبدأ امتلاك الكتاب فيما يخص النشاط الإنساني، لوجدنا أن الحيز العربي في العلوم يتدنى إلى ما فوق الصفر بقليل، والمسألة هنا تتخطى، باعتقادي، الاستعدادات الفطرية، إلى أزمة التخطيط البشري ومنهجية التعليم..
فتطبيق المنهج المنظم يستطيع خلق النوعيات المميزة بهذا التخصص وافتقارنا إلى مبدأ الحرية، والحوارات الجادة في المصير العربي، يجب أن يرتكز إلى تحطيم هذه العوائق، وبهذه المسلمة يجب أن ندرك أن مثل هذا العمل لا يمكن أن يتم بوسائل الوعظ، أو تكتيل الكم الهائل لمنجزات حضارية عالية التقنية لنطالب المواطن تجاوز المراحل والبدء من حيث انتهى الآخرون..
إن الصورة القائمة لا تؤكد موضوعية التنظيم سواء على مستوى التخطيط الأسري، أو حلقات التعليم المختلفة، ومن هنا جاءت مسالة العيش، لتحدد مسار الحوافز عند الأفراد للقبول بالوظيفة كحل سريع لمعركة الحياة العربية..
القضية هنا لم تنشأ من تعارض اللغة مع العصر، أو وجود ما يسمى “بفقدان العبقرية الاجتماعية” للشعب العربي..
فاللغة لم تكن عائقا أمام شعوب كثيرة استطاعت تكييف العلوم وتطبيق القوانين الرياضية أو العلمية على لغاتها، وإنما العائق نشأ من تصادم المتضادات بين مصالح قوى مادية وسياسية، وقوى الشعب برمته..
فالذي يقيس الاعتبارات التاريخية، وجملة الضغوط الدولية بأنها السبب الأصلي في مواجهة الواقع العربي، ينطلق من مسلمات ظروف ليست على كل حال واقعية، وإنما هي مستولدة من مجموع النقائض العربية.. القيم العليا -مثلا- لا يجب أن تفسر بمنظور الحدود الدنيا للمعنى السائد للتقاليد، لأن الرابط أساسا بين الإنسان ومحيطه الكوني لا يفترض الثبات دائما على الدفاع عن سلوك خاطئ، وإلا لأصبحت مسائل كثيرة تتخطى منطق العقل..
نحن نعرف أن أساطير كثيرة حامت في المجتمعات الجاهلة، ولعل بعضها انغرس كقناعات ثابتة في مجتمعنا، مثلا نعرف أن الملدوغ كان يداوى (بخرزة العقرب) الذي قيل انها تمتص السم إذا ما وضعت على مكان اللدغة، (وحرز) جلد الذئب الذي يطرد الجن إلى آخره، هذه الوقائع اختفت إلى حد كبير لأن اكتشاف الدواء ومفعوله، والوعي بالمنفعة الحقيقية لهذا النوع من العلاج طرد تلك الاعتقادات البدائية..
إذن قضية التحول الاجتماعي ليست حالة مستعصية ولكنها قابلة للتكيف مع أنماط الحياة وشروط تقدمها إ1ا عولج واقعها بمنطق سليم وتخطيط واع..
نعود لمسألة العلوم النظرية، وازدياد حجمها لما فوق الطبيعي، وهو تفرد خاص بنا أو على الأخص فيما يشكل أزمة حادة في جامعاتنا العربية..
نحن لا نتصور كيف أن العصر العباسي، والأموي يسيطران على نتاج كليات الآداب والعلوم الاجتماعية، وحتى كليات التربية، أي أن المنظور إلى الخلف هو المستند الطبيعي لاستهلاك المادة والقبول بتفسير تلك المراحل وفق رغبات المؤرخين..
ولو افترضنا أنه لا يوجد اعتراض على خلق عوامل معاصرة من التاريخ، فإن اللجوء إلى هذه الحيل التقليدية ربما نشأ عنه موقف سياسي واجتماعي، أكثر منه طلبا لاستحضار الماضي وعصرنته..
فالخمسون سنة الماضية متوالية التاريخ، ولا تزال في مواقع المحظورات، ولكن المشكل ليس في الطبيعة السياسية أو الاجتماعية لتلك المرحلة، وإنما العلة أنه لا يتوفر مبدأ البحث العلمي فيما هو يقف على الحياد من بقية المعارف الأخرى التي تتصف بالمحاذير السياسية.
ففي المجال الزراعي تدنى المحصول في بلدان عربية كثيرة إلى حدود النقص في الضروريات الأساسية للغذاء، ولم يكن للحجج القائلة بزيادة السكان معنى صحيح، طالما أن ملايين الهكتارات تخضع إما لمنطلقات أيدلوجية فشلت في توزيع الأرض واستغلال طاقة الفلاح وتنمية موارد الأرض، أو الاستسلام إلى قوانين التصنيع، ومحاولة القفز على الحواجز لترحل هذه الطاقات البشرية إلى الأحياء الجديدة التي توفر مميزات المدنية في الصحة، والغذاء والتعليم.. وكلا المنطلقين فشل في تأسيس قاعدة زراعية أو صناعية متينة..
لذلك لجأت جيوش الطلبة إلى المواقع السهلة في التعليم حين أصبح الاتجاه إلى الحقول العلمية يتطلب ميادين للبحث، وحوافز مكلفة مرتبطة بمؤسسات تضع في أهدافها أن الإنجاز العلمي قيمة بحد ذاته، ويساوي وجود عالم ما أي صفقة تجارية مضمونة الربح..
إن المكونات العمرانية، وتزاحم السكان في المدن العربية جاء على حساب كثير من وسائل التنمية المعاصرة، ولذلك صارت الفلاحة، والمهارات التقليدية، والعمالة المبرمجة مسائل لا تجد التشجيع أو التوفيق فيما بينها والحاجة القومية إلى هذا النشاط الجاد..
لقد تحدث كثير من الأخوة العرب بعدم إتاحة الفرصة للعمالة العربية أو الحديث عن مثل هذا النوع من الواقع من التخيل، لأن معظم هذه البلدان التي تمتلك فائضا سكانيا كبيرا، لا تزال تنفذ مشاريعها بأقل المواصفات الدولية الأخرى وعلى كل حال لا يغير من الحقيقة حين نقول إننا لا نملك الطاقات الإيجابية القادرة على تأكيد وجودها.
الاحتمال الوحيد في ان يكون لنا نشاط موزع وفق أسلوب معاصر يحتاج إلى تأكيد أننا حقيقة نختلف عن بقية الشعوب الناهضة أنه ليس لنا قاعدة في التخطيط والتنفيذ، ويبقى الخلاف على المبدأ ناشئا من ضعف الكيان.. وهذا هو المنطق الذي نفتقد إلى ترجمته إلى علم بشروط الحياة والوطن..
مانويل
(مانويل) رجل اسباني يمتلك شهرة عالمية كبيرة.. فهو الصديق الحميم للرسام العالمي (سلفادور دالي) وهو من بين الشخصيات الوحيدة التي رسمها الفنان المشهور.
وإذا كان (مانويل) لا يقل شهرة حين كان في نهايات الثلاثينيات ووسط الأربعينيات للميلاد كان أشهر مصارع ثيران، وراقص (فلامنجو) فإن شهرته ظلت تتصاعد وراء ظل صداقته للرسام الشهير (سلفادور دالي)..
في ركن من شاطئ (الكوستابرافا) في برشلونة أخذ مانويل موقعا ممتازا يشبه حذوة الحصان على ذلك الشاطئ الجميل.. ومن هنا كان خياره أن يكون له فندق صغير متواضع، إلى جانب مطعم يديره بنفسه مع مجموعة من العاملين، أحد معالم ذلك الشاطئ..
أصحاب (اليخوت) من المليونيرات الغربيين يمضون ليلة أو ليلتين في ضيافة (مانويل).
والفنانون من مشاهير الشاشة بدءا من (اليزابيت تايلور) و(صوفيا لورين) وكذلك المغنيون والرسامون الذين توزعت صورهم على حائط مطعم مانويل، تحت صورة ضخمة له مع صديقه (دالي) أصبحت أحد المعالم الرئيسية لتلك القرية السياحية.
جلست مع صديق لبناني يعرفه جيدا في مقهاه.. شيخ تجاوز الستين، ولكنه نشيط جدا، مبحوح الصوت رصف على أصابع يديه العشر دزينة من الخواتم، وكذا ذراعيه وعنقه المثقلة بالذهب والأحجار الكريمة.
ولأن المشاهير ارتبطت حياتهم بالشذوذ عن القاعدة الطبيعية الحديثة عن ذكرياته مع حلبات المصارعة والرقص، والنتيجة التي قادته إلى صداقة الرسام المجنون.
مزاجه لم يكن طبيعيا رغم الجو الربيعي الجميل.. أدار نظره بنا مرتين، لكنه كان يمارس عمله بتنظيف الطاولات والمقاعد بشكل لا يثير أنه صاحب الشهرة الكبيرة.
قال الصديق اللبناني..
- هل مات صديقك دالي، وما هي آخر أيام لقائكما مع بعض؟. شفط نفسا عميقا من سيجارته.. مد لسانه وأشار إلى الأرض أنه دفن وأن لم يمت نهائيا..
كرر الصديق سؤالا آخر عن مشاريعه للصيف، والرواد الجدد.. مرة أخرى لم يجب.. وإنما سرح نظره في البحر، وجمهور الناس الذي جلبتهم شمس ابريل..
دون مقدمات سأل.. هل تريدان خدمة..
الصديق اللبناني.. قال - إن الذي معي صحفي عربي يريد الحديث معك..
فجأة اختفى، وكان الجواب من عامله أنه لن يظهر إذا لم تغادروا المكان!!
التاريخ: 08 – 01 –1404 ه
0 تعليق