حديث عن الإرادة.. والقوة..

آفاق | 0 تعليقات

كل منا بحمل في ذاته عنصرا هاما للأحلام، وربما أن هذه الظاهرة هي التي تؤكد توازن الذات وسط جحيم هائل من المصادمات العنيفة في حياة الانسان مع مختلف وسائل حاضره ومستقبله..
وكل منا يحمل بناء كبير لحياته.. شهادات عليا، ثروة مالية، أطفال أذكياء، صحة نفسية وجسمانية، ومع ذلك فان جبروت تحقيق ذلك قد لا يكون خاضعا لأي منهج أخلاقي، وتلك هي الخاصية العنيدة في الأنانية المركبة عند كل انسان مهما سما أو حاول الضغط على مركز أعصابه وتجاوز رغباته أو طموح الخاص..
قد يكون هذا الواقع هو الذي فجر مبدأ الإصلاحات الاجتماعية، أو هو الذي فجر الحروب حين اختلفت موازين الطبقات الاجتماعية، وانقسمت المجتمعات الى سادة وعبيد، أو اقطاعيين وأُجَراء لتحدث تلك الانقسامات التي أدت الى حروب أهلية في أوروبا في عصرها الوسيط، وبعد ذلك تأتي الكشوف الجغرافية ليبدأ عصر جديد من الاستعمار المباشر، واملاء سلطة شعب على آخر..
مثلا من يتخيل أن بلدا كالبرتغال لا تتجاوز الخمسة ملايين نسمة في العصر الحاضر، تسيطر على افريقيا، ومضيق عمان وقارة توازي ملايين الأضعاف لمسلحة البرتغال هي امريكا الجنوبية وتسيطر على هذه الاقطار بلد بهذا الحجم والسكان ..؟؟
نفس الموضوع مع سكان الجزر البريطانية الذين فرضوا سيطرتهم على ما يزيد عن ثلثي العالم، وهم الذين لو وزعناهم أفرادا ومساحة أرض داخل امريكا الشمالية وحدها لأصبحوا قلة ضائعة في وسط تلك القارة الكبيرة..
المسألة لا تحتاج الى فلسفة، وقوانين، فقط هناك معادلة واحدة هي القادرة على فرض الحكم، تلك هي وعي الشعب، وامتلاك القوة وبعد ذلك بصبح كل شيء مملوكا لهذه الارادة الصلبة..
يبرز هنا سؤال هل للأعداد البشرية قيمة استراتيجية؟!
بالطبع لها قيمة إذا كانت تنطلق من نظام صارم قادر على توظيف قدرة هذه الأعداد على خلق كيان مترابط واع..
الصين والهند كانتا قطاعين غير مهمين من حيث التأثير السياسي أو العسكري، ولذلك كانتا هدفا للاستعمار من مختلف الشعوب القوية، لكنهما الآن عكسا الصورة وأصبح استقطابهما لأي قوة کبری يعني اختلال التوازن في الموازين، وهنا مؤشر صادق على مبدأ استراتيجية البعد السكاني، ومثله البعد الجغرافي الذي يوازي نفس القوة من حيث الأهمية..
قبل عامين جاء رجل من كوريا الجنوبية لجريدة (الرياض) وقال انه يحمل هوية صحفي ويريد أن يعرف وجهة النظر العربية في الصراع الدائر بين العرب واسرائيل، ولأن المسألة لا تعدو المناظرة بين طرفين فقد كان الموقف يستدعي أن أحاول أن أكون واقعيا قدر الإمكان ولا سيما وان الخيار وقع علي أن أكون طرفا في النقاش..
سأل..

  • “هل تعتقد أن العرب قادرون على قلب الموازين والانتصار عسكريا وسياسيا على اسرائيل مع إدراك أن أكبر قوة عربية لديكم وهي مصر أدركت معنى استحالة ذلك وبالتالي عقدت صلحا مع إسرائيل”؟!
    قلت..
  • “في الواقع القائم لا أعتقد أننا قادرون على هزيمة اسرائيل، ولكن هذا لا يعني بتاتا أننا لا نملك القوة..
    إسرائيل تحارب جبهات عربية منفصلة عن كيانها الموحد وهذا ما سهل عليها ضرب تلك القواعد والتفرد بها وسلبها ارادة الحركة والمقاومة..
    لذلك لم نعد المسالة كما تتصور، استحالة الانتصار عليها حتى بخروج مصر أو غيرها، القضية هي من يمتلك القوة يستطيع أن يملي سلطته، ولذلك فإن العالم لا يمكن أن يكون محايدا لأن مبدأ الانتصار هو الأساس في الحكم..
    دعنا من هذا لنرجع الى ما قيل عن تطبيع العلاقات بين مصر واسرائيل.. أنا شخصيا لا أتصور أن هذا سيدوم لأن السلام ذاته لا يخدم اسرائيل، ومن غير المنطق أن تقع في خطأ تفسير التاريخ، إذ أن المستقبل سيحمل متغيرات كثيرة..
    فالعرب، أو مصر بالذات لن تظل على حالة الضعف الدائم اقتصاديا وسياسيا، إذ أن نزيف الجامعات والمعاهد، والاهتداء الى ایجاد صناعات متطورة وبناء انسان قادر على التفاعل مع العصر، ستكون في غير صالح إسرائيل جغرافيا، أو سياسيا.. فما بالك إذا كان بعد مصر يمتد عربيا من الخليج العربي الى الجزائر”؟!
    قاطعني متسائلا..
  • “أنت تحلم بوحدة عربية شاملة، رغم التقسيمات الجغرافية والدينية، وكذلك الأقليات التي لا تنتمي الى جذر عربي، وهي التي لاتزال تطالب بوطن قومي على غرار إسرائيل”؟!
    قلت..
  • “المسألة خارج نظرية الاحتمالات.. العرب يمرون بحالة فقدان الذات نتيجة قصور التجربة والوعي بمصيرهم السياسي، ولكن التحديات القائمة فرضت نوعا من الإبصار دون النظر الى المخاطر القائمة، والخلاف هنا لم يكن ناشئا من الأهداف، وإنما من الأسلوب، وهي حالة مرت بها كثير من الأمم التي لا تملك التجانس والتطابق في واقعها الجغرافي والسكاني ولا حتى في المعتقد الواحد”..
    قال مقاطعا حديثي مرة أخرى..
  • “نفس الأهداف والمنطلقات تقول بها اسرائيل.. إنها تريد بناء دولتها الكبرى من الفرات الى النيل، ولا تنسى أنها تملك رصيدا كبيرا من القوة، ومن الحلفاء الذين يسندونها في السر والعلن، وهي أقدر منكم على تحقيق أهدافها لا سيما وأن نظامها القوي قد يؤدي الى تحقيق هذا الهدف”؟!
    قلت..
  • “لها الحرية أن تحلم.. أنا لا أقول بمبدأ المستحيلات إطلاقا، وإن كان الخلاف على الحقيقة ينطلق من ظروف الحاضر وحده..
    العرب – کما قلت – يملكون بعدا استراتيجيا لا تملكه اسرائيل، ودایان قال إنني لا أتخيل ظروف اسرائيل بعد ثلاثين عاما حين يصبح للعرب قوتهم الكبيرة..
    النتائج دائما لا تأتي قياسية خاصة في مجال صراع الأمم، وهذا ينطبق على مستقبل العرب واسرائيل..
    فلو قلنا بمبدأ احتمالات قیام سلام نام بيننا وبين اسرائيل ماذا تشكل اسرائيل بظروفها السكانية والجغرافية مع العرب مستقبلا.. دعنا نقول ماذا سنكون عليه بعد جيلين أو ثلاثة أجيال مع مراعاة حركة النمو في الوعي والمعرفة وخلق ظروف مواتية لنهضة قومية عند العرب..
    حتما ستذوب إسرائيل مرغمة في هذا المحيط العربي، حتى لو أرادت ان تتماسك على تقاليدها ومنطلقاتها التلمودية.
    بنفس القياس دعنا ننقل هذا التصور الى جنوب شرق آسيا وواقعها الحاضر المضطرد..
    أعرف أن كوريا بقطاعيها الشمالي والجنوبي، كانت ممرا عسكريا بين اليابان والصين.. ولذلك كان عند نشوء اي حرب يكون الهدف الأول الاستيلاء على كوريا لتكون منطلقا للاستيلاء على الصين من جانب اليابانيين، أو صدهم من قبل الصين..
    في الوقت الحاضر كوريا تمزقها قوتان كبيرتان ونظامان مختلفان تماما، ولذلك لا زلتم تحلمون بوحدة الوطن الواحد رغم قسوة الظروف وسيطرة القوى الكبرى على مقدراتكم..
    الشيء الثاني إنكم تقعون تحت ضغط قوتین ناشئتين هما اليابان والصين.. والأخيرة، وإن لم تعلن عن أهدافها، باعتبارها لا تزال تصارع تخلفها، إلا أنها تؤمن أن جميع الشعوب الصفراء هي شعوب تنتمي الى الجذر الصيني بدليل أن المطامع القائمة بينها وبين فيتنام على سيادة جنوب شرق آسيا، مع تلاقي الأيدلوجية الواحدة، تعتبر أهم المحركات الخطيرة في تفجر الأزمات، ومع ذلك فأنتم تحلمون بالوحدة، والصين تحلم بتوحيد هذا القطاع الآسيوي الكبير.. واليابان من جانبها تعد لمعركة المستقبل بتفوقها التقني، ولكن المجهول لا يغير من وجود أهداف مرسومة للمستقبل..
    في هذه الحال هناك تطابق بالأهداف والرؤى، وإن كانت الظروف العربية أقل حدة من ظروفكم بين تلك القوى المتنافسة..
    فهل تتصور أن كوريا قادرة أن تسيطر على جنوب شرق آسيا في المستقبل لتستخدم قوتها وتفرض وجودها على الصين مثلا”؟!!
    قال..
  • “إنك تجادل على المستحيلات، وإن ظلت المقارنة لا تستوفي شروطها الواقعية خاصة في بلد مثل الصين”؟!
    قلت..
  • “ولماذا لا يكون هذا الحكم مطابقا لأهداف إسرائيل في المستقبل مع العرب”؟!
  • “القياس مختلف من حيث المبدأ، لأن الصين وحدها لا يمكن أن تترك تمدد سيطرتها على آسيا دون اعتبارات قوة روسيا وأمريكا، ذلك أن نشوء قوة ثالثة بعني توسع دائرة السيطرة للصين وهو ما تحاول ردعه كل من القوتين”؟!
    قلت….
  • “هذا صحيح لو أن الصين لا تملك شخصيتها القومية، وبناء ذاتها من داخلها وقطعا تدرك أنت أن موازين القوى لیست خیارا، تنفرد به أمريكا أو روسیا، وهذا يدعم الرأي القائل بأن أوروبا ستوحد نفسها كقوة ذاتية لتحافظ على وجودها المستقبل.. وبالقطع نحن نسعى أن يكون لنا تمثيلنا السياسي والقومي في المستقبل مهما كانت المصاعب..
    ابتسم.. ثم مد يده مودعا….

التاريخ: 1 – 01 –1404 ه

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *