طبيعي ان يكون أي مجتمع مشدودا إلى واقع داخلي نحو بناء ذاته، وإلى عالم خارجي يتعامل معه من منظور اقتصادي أو سياسي أن يحاول أن يخلق هذا التوازن من خلال طرحه للأبعاد السياسية الخارجية، والداخلية..
لقد كان يصور للعالم الثالث أنه بعامل جغرافي، ونوعي للإنسان وبأثر اقتصادي – كعامل ثالث – أصبح تقدم هذه الشعوب موقوفا بأثر رجعي إلى تلك الأسباب!! ولو صح أن التأثير الجغرافي منفرد بهذه الميزة خاصة على أبناء المناطق الحارة الرطبة أو الصحاري الجافة لما استطاع هذا السبب أن يقنعنا بالكيفية التي تقدمت بها شعوب أمريكا اللاتينية وخاصة (البرازيل) أو استراليا.. ولو كان عامل النقاء العرقي يوقف المد التطوري البشري على الجنس الأبيض لرفضت هذه الفرضة اليابان والصين، وكوريا.. ولعل السبب الثالث وهو تدني المستوى الاقتصادي هو الأكثر تعليلا لأسباب التخلف وسط المحاور الثلاثة.
إن مقاومة الواقع لا يأتي بأسباب تعد للشعوب النامية من مصادر قوى معادية أصلا لنموها..
وهي التي تدرك بحساباتها البعيدة ان نمو هذه القوى يغلق عليها مجالات اقتصادية وحضارية وحصرها وتقليصها في قوقعة إقليمية تقضي على بنيتها المستقبلية..
إن مقاومة التخلف هو النزاع الذي يرافق مسيرة العالم الثالث بأكمله والذي (نحن) نشكل عضوا يأخذ بنفس الأسباب ويحاول مصارعة هذا المأزق والخروج منه بتصور جديد، وبناء..
إن مشكلة (التكنولوجيا) لم تعد ذلك العلم المتجرد المنعزل بذاته داخل تراكيب معقدة، إنها أخذت مسار المصالح السياسية أولا، والاقتصادية ثانيا، وأصبحت، بفعل العالم المتقدم، سلطة استبدادية، وآلة مساومة، أو حركة قمعية في وجه هذا العالم المتخلف..
إنني لا أريد أن أركن إلى تلك المواقف التي تسير العالم بفعل سلطة القوى العظمى، إن ما أرمي إليه هو محاولة خلق تصور يواجه حركة التاريخ من مواقع العالم الثالث، ومن خلال تراكم مشاكله مع التطور، والذي – كما قلت – نحن خلية في بنائه العام لنا نفس المصائر ونفس النظرة بكل منطلقاتنا وتحديات العصر لنا..
وإذا ما أخذنا، بافتراض أن مشكلة البناء لقدراتنا الوطنية تنبع من تلك المصاعب التي تفترس أرض واقعنا والتي يحددها..
• العوامل الاقتصادية..
• القوى البشرية..
• الظروف الاجتماعية..
فإننا لا نجد في المشكلة الاقتصادية في الوقت الحاضر سببا جوهريا بسبب أن مواردنا الجيدة من البترول هي الرافد الكبير لنا.. يبقى الحالة الثانية والثالثة أشد انجذابا وتوترا لواقعنا..
نحن نعترف أن قدراتنا البشرية محدودة، ولا تتفق مع طموحنا في خططنا للسنوات القادمة، لكن إذا ما أخذنا بالاعتبار أن “التقنية” قد تساعد في حل هذه المشاكل على المدى البعيد، بحيث أن برمجة التعليم والإدارة، قد يوفر بعض تلك القوى البشرية، لاستخدامها في مجالات أوسع، فإننا نجد عللنا لا تزال واقفة على نفس المضامين التي تسيرها من قبل عشر سنوات أو أكثر.. إننا نشاهد ما يسمى (بالبطالة المقنعة) داخل الإدارة الحكومية، أي ان هناك قوى زائدة عن العمل الوظيفي، ولكن بفعل تقصير الأنظمة سواء في الإدارة العامة – الموظفين، الشئون المالية، المستودعات، الميزانية، والفهارس والأرشيف، أو في الإدارة الفنية والتعليمية..
وصحيح أن هذه نتائج أعوام سبقت خطتنا الحالية، بحيث ان الدولة كانت تواجه خريجي الكليات النظرية والمعاهد العلمية والمهنية، وتواجه معهم فرض إيجاد وظائف لهذه الأعداد، والتي لا يمكن استيعابها إلا داخل المجال الحكومي، لضعف الحوافز وضمان ما بعد الخدمة لدى القطاعات الخاصة.. إلا أن هذا لا ينفي أن أنظمتنا لا زالت أقل بكثير عن ما نطمح إليه في المستقبل القريب، على الرغم من مظهرية عدد الوظائف المعلنة التي لا تلقى القبول بأشغالها لأنها جزء من تراكم اعتمادات الميزانيات السابقة..
وتبقى المسألة الأهم.. أن التعليم لا يزال أسير تلك البرامج التي لم تراع حاجاتنا من القوى البشرية وتوجيهها تبعا لمصالحنا الآنية والمستقبلية.. مثلا لقد واجهت شخصيا، ونتيجة تجربة عادية مع (ابني) الذي هو بالسنة الأولى الابتدائية حل رموز استعمالات (العين، أو الصاد) بأول الكلمة، أو وسطها، أو آخرها، وهي (الألف باء) في منهج التعليم!! وإذا ما تصاعدنا إلى التعليم الثانوي، أو الجامعي أو المهني، فإن الاتجاه إلى العلوم النظرية والإنسانية أكثر من الاتجاه إلى الأقسام الأخرى، وربما أن نظام الامتحانات الحديث قد ساهم بشكل حاد على الاتكال على امتحان الدور الأول، والذي ربما يكون تأثيره على باقي التحصيل التعليمي في النصف الثاني من العام، وإن كان الحكم على جواز أو عدم جواز هذا النظام لا يزال في حكم المستقبل.. إلى جانب ضعف اعتمادنا على تكنولوجيا الوسائل التعليمية لا تزال في بداياتها الأولى، وهي التي لو توفرت لقضت على النقص المتنامي في أعداد المدرسين..
ويأتي بالترتيب الثالث للقطاع البشري تلك القوى في مضارب البادية، إنه على الرغم من استيعاب أعداد كبيرة منهم في المجالات العسكرية، فإنهم لم يندرجوا أو ينسجموا مع عالم المدينة، وهم في هذه الحال يجرون معهم مشاكل الأمية بين الأبناء والبنات، صحيح أنهم في هذا العمل جزء في البناء الاقتصادي في إثراء الثروة الحيوانية، لكن هذه الثروة مقيدة بعوامل جغرافية تبعا لأزمنة نمو المراعي أو قحطها، ولذلك فهي خاضعة لحالات يصعب التكهن بها، على عكس بعض الدول العربية الأخرى كالسودان والعراق التي توفر الأنهار حل هذه المشكلة..
ويبقى علة استثمار قوى المرأة هاجسا انها إذا كانت تشكل قطاعا هاما وفاعلا في المجتمع، فإنه لا بد من التخطيط لتلك القوى من خلال تقاليدنا وقيمنا التي لا تعارض وتوظيفها داخل المجتمع، إنها تبقى قوة مهملة، وهامشية إذا لم نجد مخرجا لحل مشكلتها بشكل يرقى على الأسر الاجتماعي.. وإن كنت لا أريد الخوض أكثر في موضوع متشابك الأضلاع، فإنني أحب فقط أن أدرجها ضمن عموم مشكلة القوى العاملة في بلدنا لأنها تشكل حرجا اجتماعيا كبيرا، وتثير أكثر من سؤال يجاهد على إجابة واقعية وسريعة..
ثم نعود لأزمة العمالة والوظائف الدنيا، وصغار التجار، وهي لها مواقع هامة في البناء الاجتماعي البشري.. إن الاتكالية على الدولة أوجد ذلك الجيش من الفراشين والخدامين في الإدارة الحكومية، وهي وظائف سهلة لا تتطلب مجهودا عقليا أو جسمانيا على عكس ما نجده عند المواطن نفسه في حقل الشركات في القطاع الخاص، فالعطاء محسوب ومقنن ومربوط بنظام نفعي أي بقدر طاقتك تحصل على حوافز أفضل، وبذلك تنتفي تلك السلبية في المجال الحكومي المضمون في كل حالاته.. وحتى النظام الجديد الذي أعطى للمواطن حق الأفضلية بالتجارة في السوق المحلية، فإنها جرت معها نفس السلبيات.. وأن نموها يخضع لاستثمار هذه القوة بدوافع خاصة فإن التاجر الحديث الذي جاء بهذه الدوافع من الإدارة الحكومية، ومارس هذه المهنة من خلال نفس التقاليد الإدارية، بحيث لم يراع لعامل الوقت، وحركة السوق أي مبدأ يتطور معه، في فن علاقة المبادلات التجارية وليأخذها بنفس التهيب والروتينية، وهذا لا ينفي أنه من خلال التجربة ربما يحسن مواقعه ويطور مفاهيمه ويتحرك بصورة أفضل مما هو عليه الآن..
ونعود ثانية للحالة الأخرى.. وهي الظروف الاجتماعية:
إن مجتمعنا نشا نشأة قبلية رعوية في الغالب وفلاحية في الدرجة الثانية، وترتب على ذلك علاقات اجتماعية جاءت استجابة لهذه الحالات، كالتعصب القبلي أو الإقليمي أو الأسري وإن كان التعليم طور بعض المفاهيم إلى الأحسن.. إن اعتماد القبلية على سطوة رئيسها هو الذي أوجد الاعتماد على شخص رب الأسرة في المجتمع المدني، ولقد تبع ذلك أن الأسرة الحديثة كثيرا ما ضحى الأب الأكبر في تعليمه في سبيل اعاشة عائلته، وتطوير تعليم اخوته، وهذه التضحية، وإن كانت إيجابية ومثالية، فإنها بحسابات بسيطة أغلقت على هذا العائل أن يستفيد من استغلال إمكاناته بشكل قد يعود على المجتمع بمكاسب اقتصادية واجتماعية أكثر، إنه ميراث لأب استعمل كل الزواجر القمعية في تربيته وبالتالي فهو الوارث الأول لتلك المسئوليات، وما يصاحبها من محاولة تحسين المستوى لأسرته على الرغم من أن هذه المواجهة جاءت لا اختيارية، فإنه يجاهد أن يكون شيئا جديدا في الأسرة والمجتمع، ويخلق ظروفا أحسن مما كانت عليه..
وعامل مهم وخطير الأسباب السابقة.. لقد صاحب الطفرة المادية الحديثة ظروف قد تكون أكثر إلحاحا في معالجتها، ودراسة سلبياتها وايجابياتها، إن قراءة وتصور الماضي، حيث تلك المجتمعات الصغيرة في المدن والقرى، كانت تواجه تحدياتها من خلال تضامن اجتماعي.. إن تشييد المنازل ومكافحة الكوارث الطبيعية كالسيول والجراد، وتلك الاحتفالات بالأعياد بطرح الموائد في الشوارع، وتلك الحلقات الاجتماعية التي تنتقل من مجلس لآخر، وذلك الاحترام المتبادل بين الأبناء والآباء، والصغير والكبير، تلك الأشياء أسست أخلاقيات عاش عليها المجتمع، وأثرت في وجدانه.. عن تلك القراءة للماضي، لا تجعلنا نتصور أن التغيير الكلي والنوعي في المجتمع، عالم المدنية.. الوسائل الحديثة في المنزل والمكتب والشارع، وطرق استعمالنا لها، تركت امتدادا أخلاقيا لنفس المعايير التي كانت عليه القرية والمدينة الصغيرة في الماضي.. لماذا؟ لأن التفاوت في الدخول المادية والمعاشية كانت إن لم تكن متساوية فهي متقاربة إلى حد بعيد، على عكس الحاضر، فبقدر التغيير الكبير في تناسب الدخول، وتلك المصادفات العجيبة والسحرية التي خلقت معها نوعيات أثرت بشكل غير متصور دونما الاعتماد على قدرات ذكية، أو على الأقل متعلمة خلخل البنية الاجتماعية، وأصبح المؤهل فنيا وتعليميا يقف يشاهد مسرحية درامية يعجز عن تفسير حقائقها أو الاندماج معها.. من هنا كان التأثير عميقا بدأت بوادره تتواجد في المدرسة، فعلى الرغم من أن المدرسة بناء واحد، ومقاعد واحدة، ومناهج لها نفس التساوي، فإن الحالة المظهرية مختلفة تماما.. إن شباب يلبس “ساعة” بعشرة آلاف وسيارة (بويك، أو شفروليه) هو عكس زميله الذي لا يستطيع، مهما حاول، توفير هذه الأشياء، وإن البنت التي وعت حاضرها من خلال تعليمها، واجازاتها السنوية مع عائلتها للخارج، عادت ومعها تصور كامل أن التفاوت في التفكير بينها وبين والدتها أو والدها ليس حتما عليها سلوكه.. إن الطبخات الشعبية، (القرصان والجريش) وغيرها تشاهدها داخل البيت، ولكنها لا تمارسها كنشاط في المطبخ، هذا النزوع إلى حقيقة المدنية أبطل استعمالات كثيرة، وربما تندثر معه لغة تلك الاستعمالات.. ثم إن الاتكالية التي فرضتها التأثيرات المالية على أبناء هذا الجيل قد لا تكون سلبياتها حاضرة في أذهاننا، وغير مدركة بشكل يسمح لنا بطرح الحلول المناسبة.. إلا أنني أعتقد أن فتح الحوار بواسطة الأجهزة الإعلامية من علماء متخصصين في التربية وعلم النفس، ودراسة المنطلقات النظرية، والهموم المشتركة لهم، وتوسيع تلك الدائرة للبيت والمدرسة، واستثمار الاجازة السنوية أو الموسمية والتي هي نشاط حر يشكل فراغا مفزعا لكل بيت، وتحليل عاداتنا وتقاليدنا بشكل يعطي لهذه العادات والتقاليد بعدا حضاريا متماسكا، ونسف ذلك الحاجز السميك بيننا وبين الثقافة التراثية، أو العالمية.. إن استنطاق التاريخ العربي الإسلامي وتحديثه بمقاييس العصر، ونسف تلك الصنمية أو القدسية التي أبعدت جيلنا عن فهم ذلك الماضي بخيره، وشره.
إن الثقافة هي الحصانة التي تواجه بها تحديات العصر وتمد لنا جسورا نعبر بواسطتها إلى العالم.. وإن الثقافة هي أخطر الأسلحة التي تتحارب بها الشعوب.. فالتسلط الدعائي الذي تنثره المكتبات العالمية، وأشرطة التسجيل السينمائية والتلفزيونية هي نشاط لا ينكر تأثيره.. إنها لم تعد ذلك الترف الذاتي لعالم الصفوة تزين (ديكور) منازلهم، إنها أصبحت أدوات تبشير خطيرة عبر وسائلها المتقنة، والمدروسة، تزيف على الشعوب قدراتها وقيمها بما يسمى (بالعلمية الحديثة للإعلام)..
إن العوامل التي أثرت في صناعة الأمم، هو وعيها لهذه الأساليب، وإدراك كل لحظات تاريخها، وإنجاب بدائل تثري في تاريخها.. لقد خرجت ألمانيا، ومعها اليابان من الحرب بجراح استنزفت كل مواردهما الطبيعية والبشرية، ولكنها تحركت كل منهما من عمق مأساتها إلى مواجهة المواطن بنظرية أن الدموع لا تسترد شيئا ضائعا، وأن المستقبل مرهون بالخروج من الأزمة الآنية ببناء جديد وإنسان جديد.. وقد كان!! لقد خرجتا إلى العالم كأقوى قوتين في آسيا وأوروبا.. وهذا هو التفسير الحقيقي للرؤية الحضارية.. أن التحدي لا يأتي بإنشاد المواعظ وسط عالم يبني نفسه من منطق العقل، واستخراج مكنونات الطبيعة بمنهج علمي، ومنطق رياضي..
إن أخطر ما يواجه عالما كعالمنا هو بناء الإنسان، والذي صرخ ديجول يقول “إنه أغلى رأسمال في الوجود”..
فقهر التخلف وسط هذه المتغيرات العالمية لن يتم بشكل عفوي أو سطحي وانه لا بد من استلهام التراث الحضاري العربي من روح العلمية الحديثة ومن خلال البناء الروحي اللذين إذا ما اتحدا بشخص هذه الأرض فإنه مؤهل مستقبلا للخروج بوجه جديد للعالم..
كذلك، إن استثمار قوى الشباب بمنطق جدلي يرقى على التقاليد الجاهلة.. ويفتح مسام تفكيرهم هو رؤيتنا للمستقبل، وتنمية الفرد من منطلقات ما ترك لمستقبلنا هو ما يجب أن نفكر به ونحاوره ثم نطرح الأساليب بمعايشته على أسس وقواعد خاضعة لمسيرة مستقبلنا..
ثلاثة أصفار للكلمة
من حق كل إنسان أن يتمتع بحريته بحدود التشريعات التي تسمح له بذلك، ومن حقه ممارسة هواياته بشكل لا يغير من النمطية الاجتماعية أو يضع تأثير ذا غرض سلبي.. ومن حقه ثالثا أن يكون له نزوع يطور به ذاتيته، ويعطي – إن كان قادرا – للأسماء أفعال جيدة يكون هو منها له فعل يضلل اسمه بقناعة الناس إن كان عطاؤه يحظى بالقبول والترحيب..
كلنا يذكر كيف كان تأثير (حبيب كحالة) في مجلته (المضحك المبكي) والذي كان يعد كل سطر فيها، بتلك الأزجال الساخرة التي حرك بها نفوس الشعب العربي في سوريا على الاستعمار الفرنسي.. وكلنا، أو معظمنا، قرأ أزجال الشاعر الفذ (بيرم التونسي) وصاحب نشيد (بلادي.. بلادي) وكيف واجه السجن والطرد والنفي في عهد الاستعمار الإنجليزي، وأصبح جزءا من ملحمة شعبية لا زالت في نفوس الناس حاضرة تعيش في كل مناسبة..
ومن منا لا يستشعر السعادة والنشوة ويغرس في ذاكرته ووجدانه تلك المنظومات الخلاقة (للرحابنة) التي من خلال حنجرة فيروز تنسلخ عن العالم والكون إلى عالم سحري طفولي تغيب فيه الحواس بنعاس لذيذ هائم إلى الأبعاد الكونية..
وأيضا لا ننسى أننا ومن خلال تراثنا في الجزيرة العربية في السامري بانتظام تلك الحركة في الصفين المتقابلين على إيقاع الطبول وتنغيم القصيدة، وتجزيئها بغنائية ساحرة وتلقائية، والاندماج بين الحركة واللحن مع الصوت المنغوم الذي يحرك المشاعر بقيمة هذا التراث المنسلخ لنا من الأجداد وعبر رحلة الشقاء، والانتصار على تلك الأزمنة، فإنه تراث يحمل لنا أصالتنا بتعابير لا يحملها من الشعوب ولا يعبر عنها إلا نحن..
وغذا كانت الثقافة العربية تنادبتها مراحل انحطاط نتيجة أوضاع اجتماعية وتاريخية كتلك المرحلة التي كان الحكم التركي يسيطر على البلاد العربية، والذي أفرز اتجاهات أدبية ميتة تحمل سمات ذلك العصر وانحطاط الكلمة فيه وغرقها بذاتها، أو ما سمي بالزخرفة اللفظية، لانطواء الأديب تحت ولاء المكاسب الفردية، وانحسار الحس القومي والوطني.. فإنه أيضا لم يسلم من نبات طفيليات أدبية حتى في مراحل مجد أمتنا الخالدة.. اسمع شاعرا يقول:
ربابة ربة البيت
تصب الخل بالزيت
لها سبع دجاجات
وديك حسن الصوت
وفي الحاضر القريب يخرج من كهوف المجتمع العربي، وفي غيبة من الوعي الشعبي (أحمد عدوية) بــ “حكشنجي ذبح كبشه، يا محلى مرقة لحم كبشه.. ذبحه، نكشه”.. الخ..
وأيضا تلك الأصوات الشعوبية الحاقدة والتي تمثلت بدعوة سعيد عقل بكتابة الحرف العربي، بالحرف اللاتيني لتقريب ثقافات الشعوب من بعضها – كما يدعي – وألف كتابه الشهير (يارا).. ونفس الدعوة تبناها كل من توفيق الحكيم، ولويس عوض في مصر.. وانتهوا في المسيرة العربية كأصفار سعد زغلول!!
وهنا أيضا، بدأت (موضة) إصدارات جديدة بما يسمى “قصيدة الشعر الشعبي الحر” صدر منها حتى الآن ثلاثة كتب أعطت لنفسها حق تسمية دواوين شعر!.
إننا لا نعترض، إذا كانت لها إيجابيات حسنة وتنزع إلى تحديث الشعر (النبطي) بأسلوب ورؤيا جديدة تأخذ بمضامين استيعاب كل التراث الشعبي من غناء، ورقص وايقاعات، إلى شعر وأمثال وأصوات منفردة بأبعادها، مقرونة بالاطلاع على التراث العربي كاملا، والمقارنة بين أبوية ذاك وبنوة هذا..
لقد استحدث (اليوت) المعمار الفني للقصيدة بعد أن قرأ واستوعب كل التراث الأوربي القديم والحديث ورسم الخط الذي أقام مدرسة مستقلة عرفها المحدثون باسمه.. وحينما تأثر كل من الشاعر العراقي العظيم السياب، ونازك الملائكة بتلك المدرسة وطرحت أولى نماذجها عام 1947 بقصيدة نازك المشهورة (الكوليرا) والتي مطلعها..
طلع الفجر
اصغ إلى وقع خطى الماشين
في صمت الفجر، اصغ، انظر ركب الباكين
عشرة أموات، عشرونا
لا تحص.. اصغ للباكينا
اسمع صوت الطفل المسكين
موتى، موتى، ضاع العدد
موتى، موتى، لم يبق غد
في كل مكان يندبه محزون
لا لحظة إخلاد لا صمت
هذا ما فعلت كف الموت
الموت.. الموت.. الموت
تشكو البشرية تشكو ما يرتكب الموت
وبنفس العام، أو في منتصف الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب (أزهار ذابلة) فيه قصيدة السياب – والرؤية هنا للشاعرة نازك في كتابها “قضايا الشعر المعاصر” باسم (أزهار ذابلة) تقول القصيدة..
هل يكون الحب واني
بت عبدا للتمني
أم هو الحب اطراح الأمنيات
والتقاء الثغر بالثغر ونسيان الحياة
واختفاء العين في العين انتشاء
كانثيال عاد يغني في هدير
أو كظل في غدير..
إن طرح القصيدة العربية الحديثة برائديها السياب ونازك لم يأت اعتباطا أو من مجانية استباق الحوادث.. لقد درسا العروض من مركز المجدد وعرف كل منهما أسلوب الشعر العربي ومصادره وأغراضه وربطا ذلك بالتراث الإنساني من خلال قراءة كل منهما بلغة أجنبية وبالتالي عرفت القصيدة العربية الحديثة من منظار جديد كان رائدها السياب ونازك..
وإذا كان ليس هناك وجه مقارنة بتاتا، وغير وارد أصلا بين من يتثقف من أعمدة الجريدة اليومية، وأشرطة التسجيل المحلية وبين من يبني معمارا شعريا منفردا بخصوصيته.. إلا أن هذا لا ينفي وجود مثل هذه المدرسة للشعر الشعبي والذي رائدها الآن الأستاذ الشاعر (عبد الرحمن الرفيع) والذي كثيرا ما أطل علينا بأشعاره من خلال (التلفزيون).. أسمعه يقول في قصيدة طويلة اسمها “الله يجازيك يا زمان”..
الله يجازيك يا زمان يا بو العجب
صار التنك غالي.. وطاح سوق الذهب
والحنا والمشموم ما عاد يشتريه
إلا الغريب
اليوم، يوم ورود
نايلون وخشب
وفي مقطع آخر…
وين النشل ثوب الزرى
يهفهف على غصون الدلال
وينك يا ثوب؟..
الله يرحمك في زمان الميكروجوب
• • •
وينك يا نفنوف الهوى
ما يندرى
أهلك ترى عافوك
يا لبس الكمال
وأصبحت من بعدك أقول
وكلن يقول
الله يجازيك يا زمان
الشعرى الربعة بثمان!!
التاريخ: 26 – 05 –1398 ه
0 تعليق