قد تكون أهم الوسائل في تقريب المفاهيم من بعضها تناولها بشكل مباشر، وهي ميزة لا تتحقق إلا على مقاعد الدراسة، أو في المسرح، أو المناقشات الصريحة بالطرق المتعارفة بالمواجهة القريبة، أو المباشرة..
في مساء الأحد الماضي حاولت جامعة الرياض بشخص امينها الدكتور (أسعد عبده) أن يطرق هذه المواقف في ندوات شبه عامة احيانا، ومتخصصة ف ي بعض الاحيان.. لكن هذا التطوير في المفهوم التثقيفي او الحواري الايجابي كان خط اعتراض حقيقي لهذه الغاية الرائعة..
فالقضية التي يجب ان نجمع لها نوعيات من الناس الاغلب الاعم فيها تهتم بالثقافة، أو المفاهيم الحقيقية الابسط انواع التوعية، امر تربوی هام.. لكن ان نحشد هذه الفئات، وكأننا في حفلة زفاف في ( بروتوكولات ) قبيلة افريقية، يسقط تماما في حقل هذه التصورات، وسلوك غاياتها الحقيقية..
الجامعة من أخطر المؤسسات العلمية والثقافية، ولذلك فالحساب معها يقع في دائرة المسئوليات الهامة والصعبة، وإن لم نقل الخطيرة جدا والحساسة جدا.. لذلك لا تكون الخيارات في طرح أي مشكلة ما تدخل في مضامين التصورات وحدها، دون المضمون النفعي للموضوع المطروح، طالما أن الجامعة في حقيقتها أعلى الأجهزة في أي أقليم، لا من خلال التحديد العملي أو العلمي، بل في تحديد المفهوم القانوني – سواء كان – علميا أو ثقافيا.. لكن الجامعة في ندواتها الماضية حققت الفراغ الذهني والفكري في طرحها لمواضيع هي نفسها لم تفهمها أو تضع لها حدا موضوعيا يؤدي إلى نتيجة منطقية مقبولة حتى من طلبتها المستجدين..
شيء آخر أن الدكتور (أسعد) رغم مركزه الخطير في الجامعة – ونقول خطير – ولا نبحث عن دفاع مدنی أو نجده، أو أي وسيلة إنقاذ أخری، وإنما نقول أن هذا الدكتور لا يطرح مواضيع محددة مقبولة، أو حتی محسوبة على توجه مقبول، وإنما تعودنا أن يكون (دکتور) فقط، وهذه مسلمات جاهزة للوظائف التي تعلن عن قبول المؤهل كشرط أساسي للوظيفة، ولكنها لا تعلن حقيقتها الأهلية العلمية أو الثقافية، وهو الامتحان الذي وقف فيه (الأمين) وسطا بين الضحالة والتعجيم للفكر..
أنا لا أريد أن أتعامل على أحد، ولكن لا أريد أن تتجاهل الجامعة بكل مؤؤسساتها الثقافية هذا المواطن الواعي الذي يريد أن يكون الوضوح الممر الحقيقي لعقله..
شيء آخر نحن لم نعرف أن للجامعة شخصية تعددية في موضوع لا يقبل إلا بعدا واحدا، ثم أن ما يجب أن نراه في حلقات النقاش أی کان هدفها أو عدم موضوعيتها، هو أن نجد شخصية الجامعة حاضرة،لا أن تكون ميدانا للجهل والتجهيل، و كأنها تقف كمدرسة متوسطة تعودت على أن تطرح على طلبتها مواضيع الصغار (صف رحلة برية في يوم مطير)!
أقول أن الجامعة – وبشخص أمینها – اختصرت سلطة وعي الآخرين لتحول الندوة إلى لغو ساذج، وغير مرتب لا موضوعيا، ولا فكريا..
كالعادة بدأت الندوة بالتسابق على الخطابة، واستعجال الكلمات غير المحددة، بدليل أن العنوان وهو (الصحافة السعودية بين الأصالة والانطلاقة الحضارية) لم يحدد هذا المفهوم أي من المشتركين في الندوة، لضبابية المعني أولا، ولتوسط كلمة (حضارة) البراقة (کسبورة) يكتب عليها أي مادة انشائية..
الطرح لموضوع الصحافة مقبول، لأنها أداة تحريضية، وإثارة، وموقف.. لكن العنوان يخلو من أی اتفاق ضمني على الغاية المطلوبة من الصحافة . ثم أن العنوان أيضا – رغم مظهر شاعريته العادية – أهدى للموضوع صياغة في زحمة التعابير المجتهدة التي حاولت رفع الحرج عن اللجنة التي اختارت هذا الموضوع، دونما تحديد للمعنى المطلوب..
بدأ وزير الإعلام افتتاح الندوة عن مسئوليات الصحافة والصحفي ومصاعبها ومشاكلها.. الخ.. ثم تلا الموضوع الدكتور (عبد الله مناع) مبینا کیف أن الصحافة سلطة تتراوح بين القبول، والرفض لدرجة أن زعيما تمنى أن يكون له سلطة على إنتاج الحبر والورق ليمنع انتاجهما.. ثم عرج على صحافة الافراد والمؤسسات..
فالأولى كانت صحافة رأی، رغم إمکاناتها الضئيلة.. والأخرى بعد انطوائها تحت النظام الجديد، أخذت مسار الصحافة الحديثة، في توظيف الخبر والصورة والتعليق والتحقيق، إلى باقي الوظائف الأولية للصحيفة..
ويعرج الدكتور (المناع) على المشكلات التي تواجهها الصحافة في الحرب القائمة بينها وبين وكالات الأنباء، والوقوع في أزمات حادة في تكييف الخبر من منظور الأيديولوجيات تلك الوكالات ومصالحها الاستراتيجية او الإقليمية..
ثم يأخذ الحديث الاستاذ (عبدالله القرعاوي) ليعقب على نجاح الصحافة في الخمس سنوات الماضية، مع أنني لا أدري لماذا التحديد في هذه السنوات الخمس فقط؟ ليطرح موضوعا في غاية الأهمية والحساسية، وهي الضمانات المطلوبة للصحفي الذي لم يتضمنها أي نظام لتحديد سلم هذه الوظيفة، سواء من الناحية المادية او المعنوية..
وبنفس الأسلوب والعرض يتمحور الموضوع حول هذه النقاط، وإن اختلف الأسلوب، سواء ما طرحه الاستاذ (أحمد محمود) أو هروب الصديق الاستاذ (إياد مدنی) إلى فلسفة الأصالة والمعاصرة في المجتمعات الحديثة، ومجتمعنا بشكل خاص الذي يمر بفترة تحول سريعة انعكست ثنائيتها على السلوك الاجتماعي في هذا الوطن..
وكنت تمنى لو ربط هذا الموضوع بمقاييس أخری سواء كانت التحولات الثقافية لهذه الفترة، والأثر الذي تعاكس فيه وسائل الإعلام بما فيها الصحافة هذا النحو الفريد في تكوينه..
بهذا الاستعراض السريع تنتهي كلمات الندوة، دون الحصول على تعريف عام، أو محدد لمعنى (الصحافة السعودية بين الأصالة والانطلاقة الحضارية) اللهم إلا إذا كان هذا الاستعراض التاريخي الصحافة الأفراد والمؤسسات هي النقلة الحضارية المطلوبة او المعنية؟!
بعد ذلك يقف أمین الجامعة الدكتور (أسعد عبده) معلقا بنفس الأسلوب و التعمية أحيانا لينتهي إلى طلبه للحضور المناقش بشرط عجیب وغریب.. وهو أن أی مناقش يجب أن يوضح اسمه رباعيا وعنوانه، ولست أدری لماذا لم يتحقق من هوية كل واحد في القاعة ويطلب زيادة على التأكيد رقم (التابعية) وصورة شمسية مقاس (4×6) ومختومة من الجهة الرسمية التي يعمل بها!
هذا التعسف، وعدم الثقة بالحضور أعطی منظورا مترجرجا لمسئوليات هذا الأمين، وشرخ صورته أمام الحضور الى شكل مزدوج.. نحن حتى الآن لا ندری عن الغاية لهذا الطلب طالما أن السائل يقف أمام الحضور (والكمرات) التلفزيونية ليسجل صوت وصورته.. أم أن القصد نوع من التحذير غير الإيجابي وهو ما جعل كل المشاهدين يحجمون عن الأسئلة الجادة خوفا من المأزق المنتظر وخاصة الطلبة الذين يعلقون مصيرهم بأساتذتهم ويخشون الوقوع في الخطأ لیکون الثواب والعقاب.. وهو ما أستطيع ان أسميه التسلط الفكري حتى داخل ندوة عامة، وفي حرم جامعة كبيرة كجامعة الرياض..
أما إذا كان سعادة الأمين يقصد الاختصار بالأسئلة تبعا لضيق الوقت، فإن الدكتور أسعد كان بإمكانه اللجوء للمباشرة في الغاية من هذا الطلب دون اللجوء إلى أسلوب التخويف..
الشيء الثاني أن اختيار أسماء عاملة في الصحافة وإشراكهم في ندوة واحدة مع وزير الإعلام، جعل المشتركين في موقف حرج للغاية.. لأن العلاقة بين الصحافية كمؤسسات أو وزارة الإعلام كسلطة تنفيذية جعل جو المجاملة طاغ إلى أبعد الحدود، وهو أمر يقرره الموقف أو أبجديات الأداب العامة..
ولو أن لجنة الجامعة أرادت تحقیق أسلوب صحيح للمناقشة الإيجابية لتركت الصحافة تحاور وزير الإعلام الآمن موقع الفوقية الوظيفية بین مسئول أعلى وآخر أدنی ولكن من موقع أن الإعلام يدخل في المسئوليات السياسية والاجتماعية لأي بلد بما فيها وطننا..
إنني أعرف أن الزملاء بالصحف أدركوا حراجة الموقف مع الوزير فقط، وإنما مع الجمهور الذي انتظر شيئا آخر، خاصة من المسئولين الأوائل في صحافتنا.. ينتظر تقييما عادلا، مبررا لحالة الصحافة وإمكاناتها المادية، وتصورها للمستقبل.. موقفها من القضايا العامة والخاصة، ومجمل سلوکیاتها كوسيط، أو ناقد للمجتمع أو المؤسسات الأخرى..
إنني أدرك تماما أن صحافتنا – رغم قلة امكاناتها المادية- لم تصب بمرض الصحافة العربية المستأجرة في أغلبها، وأنها حتى الآن تعيش داخل الآداب العامة لهذا البلد وأخلاقياته.. ولكنها ليست بدون عقبات أو مشاكل أو مواجهات صامته، أو علنية مع مختلف القطاعات..
فهناك ما عرف بسلطة مجالس الإدارات في هذه الصحف، ورؤية بعض الأعضاء أنها مؤسسات تجارية لابد أن تحقق الربح، بالوسيلة التي تكون في تنمية رأس المال.. وهناك من يعتقد من الأعضاء أنه المسئول عن قيادة التحرير، والإدارة، وهي مشاكل قد تحصر داخل المؤسسة نفسها أو تنفجر ليكون الضحية المحرر أو الصحفي، أو الكاتب..
والأمر الذي لم يتعرض له الزملاء، أن أبسط أنواع الحماية من سلطة مجلس الإدارة لأي جريدة هو إدخال مدراء التحرير وبعض المحررين المتفرغين كأعضاء لهم نفس الاصوات والمميزات، حتى لا تكون العلاقة وظيفية يطغى فيها المزاج على المسئولية، ويكون الضحية مدير التحرير أو السكرتير أو أی عامل جذبته الهواية وعذاب الصحافة عن امتهان عمل اسهل وأنفع…
هناك أشياء كثيرة كان من الممكن التعرض لها، ولكن – كما قلت- أن الموقف المجامل هو الذي فرض السكوت عن الأشياء الملحة في تطوير الصحافة، وهو سکوت الحيى للمأزق الذي أكله الزملاء.. وتحية للجميع…
ستنهض خيول طارق.. وتشهر سيوف المعتز
في عينيه تكسر ملح العالم، ومن لسانه وقفت الكلمات ثكالى تستحم بصديد نفسه، مئات الآلاف من الساعات التي أحرقها في طريق غربته عن الكون والعالم کشهيد في عيد (نیروزی) وقف أمام نفسه يقول…
- ماذا بقي من صواري السفينة المهاجرة؟!
الكلمات ماتت على شفة التاريخ، واللفة بصقت عليها الفئران، وامتصت حيويتها ديدان الكتب الصفراء وأشعار المهازل، وأبو الطيب خجل من رصف مجلدات شعره على طاولة الشعوبيين ونخاسة بيع التزویر..وكأنه يسمع صوت همس (معين بسيسو) يقول
يا أبا الطيب
قم صح النواطير،
قم صح القياثر
صار درع الفارس المقتول
بيتا للعناكب..
آه
یا سیف المحارب!
وتضيع الأقدام في الطرقات المتعرجة، والدرب (زلق)، ومخفية هي العبرات في خزانة (صقر قريش) وأردان الرشید..
لقد كسرت الرماح، كما مسخت اللغة، وانتثر لحم العربي لكل الكلاب، وبنات آوی.. ولتضحك القنابل من فصل الشتاء ففي كل الفصول تنبت مشاتل الحنظل، وفي كل المواسم تكون الخيول مهجنة.. ولكن الكبرياء تظل البقية التي تعاند لأنها تكبر من درم الأرحام، وتمد أجنتها إلى المساحات التي لم تغطها أقدام المهجنين وأصحاب الدفاتر المستوردة، والوجوه المستورده المباعة لكل الخصيان وستحيا على الخارطة العربية كل سيوف المعتز وخيول طارق، وستزف الى آبار الصديد كل مهجنات الطحالب، وعبيد الليالي السوداء..
تعقيب على التعقيب..
الأستاذ عثمان الأحمد نائب ديوان الخدمة للشئون التنفيذية، عقب على مقالي السابق عن الوقت (الضائع بين الموظف والوظيفة) وما أوردته عن المشاكل التي يتعرض لها المنخرج الحديث من تقييم شهادته.. الخ، سعادته يقول : (لقد كان هذا القول صحيحا في الماضي، وربما حدث مرة أو مرتين، إلا أن الديوان عمل مؤخرا بیانا بالجامعات، والكليات الأجنبية التي سبق أن عودلت من وزارة المعارف والتعليم العالي، وأصبح المتخرج حال عودته ومراجعته لإدارة التوظيف يتم ترشيحه دون أي عقبات، أو يتم التعاقد معه لمدة ستة اشهر حتى تنتهي إجراءاته)..
وإذا كان هذا جزءا من شريحة للموضوع الأصلي، فإنني أشكر الأستاذ عثمان على تجاوبه أولا، وإن كنت أتحفظ على هذا الموضوع لا كمثال أوردته وإنما علی الإجراءات البطيئة التي أعرف أن ظروف الديوان العالية غير قادرة على حلها، مع إدراکی للنيات الطيبة والنزيهة التي تطبع الديوان كجهاز تشریعی وتنفيذی.. ولكنني لا أنسی أن أقدر فيه الحماس للتجديد، وهي الغاية التي ربما تحققت مع الصبر والعمل ومعاناة الأيام..
التاريخ: 23 – 05 –1400 ه
0 تعليق