مثل أي فرحة للطفل الصغير بلعبة متحركة، قد نعود كلنا إلى هذه الطفولة أمام لقاء صديق أبعدته الغربة سنين طويلة.. أو ما يصدق على هذا الموقف بتجرد أكثر هو أن يجد كاتب ناشئ موضوعه منشورا، ومحاطا بالقابلية الجيدة من المجلة أو الجريدة، هذه الفرصة كثيرا ما أوجدت الكاتب فعلا من خلال فرحة هذه البداية…
كلنا يدرك تلك اللحظة والتجربة التي مر بها أي كاتب وكأنها حفل زفاف محاط بالسعادة، والتجدد في ك ل فصائل الجمال الأزلي..
أن اللحظة الكبيرة في عمر أي كاتب، ليس العمل الناجح، وإن كان الأخير، وإنك لا تجد شاعرا، أو كاتبا في أي مجالات الأدب إلا يتذكر البداية الأولى، وكأنها صرخة البداية حين خرج من رحم امه..
هذه الخاصية الأدبية نحتاجها في موقفنا الحاضر كعمل أخلاقي أولا، وكموقف وطني ثانيا..
لنتذكر مواقف للصحافة، والمجلات العربية من فتح النوافذ الحديثة للكتاب الناشئين، والذين هم الطلائع القادمة في الدم العربي..
في أحد الأقطار العربية، ظل الكاتب ملزما بأن يعمل رتبة وظيفية أو عائلية كبرى، حتى يستطيع الدخول لهذا المعترك، وكأنه (تحفة) متممة لديكور الصالون، أو غرفة الجلوس الداخلية.. إلى أن جاء الدكتور (طه حسين) من أعماق الريف، يحمل عصا التأديب، لكل تلك الصالونات الأدبية، ليزيل هذا التركيب الطبقي في الفكر، ويضع الموهبة، والقدرة على البناء والتجديد محل كل الوظائف الشكلية لذلك المسار الضعيف..
ولأنه رائد وعظيم، بدأ يدرك مسئوليته أمام الأجيال القادمة وصار من أوليات خطه الجديد، اکتشاف الوجوه الجديدة التي ستواصل حضورها الفكري، ولم يكن إقليميا، او (حارويا ) على طريقة بعض المجلات، او دور النشر..
لقد كان يناقش رواية (المسدي) من المغرب العربي مثل ما يناقش البستاني، أو الرصافي من المشرق العربي..
وعلى نفس الخط كانت (الرسالة) حين بدأت تبشر بالأقلام الجديدة، وكان (الزیات) رائدا في الاكتشاف والاحتضان.. وسميت مدرسة الرسالة، لأنها أنجبت من أخذ المسئولية من جديد، ليورثها للقادمين من النوابغ…
وإذا فهمنا أن الفكر كخط الحياة العام، لا يموت وإنما هو يحمل بذور بقائه من خلال المزاوجة، والنمو، ثم العطاء والتجديد، فإن مجلة الآداب البيروتية، قادت جيلا كاملا يحتل الآن كل الساحات الفكرية العربية بمختلف أقطارها..
لقد كان الدكتور (سهیل ادریس) بحق علما رائدا في حمل لواء التجديد، ونزع كل الألوان المزيفة عن الأدب العربي لقد أوجد منطلقا حديثا بأقلام عربية ترفض سکونية اللحظة، وانعدام التحديث، ورفض كل سلطة زمنية على إيقاف المضامين الأولى، وكأنها الرمز الذی لا يتعدى عليه..
لقد طرح الأسماء الجديدة، من معطيات أنها من خلال الزمن هي التي ستفرض وجودها، وتقود عصا الترحال إلى الأفضل.. ولعلنا نتذكر كيف كان كل من (رجاء النقاش) مراسلا للمجلة من القاهرة (ومحيي الدین صبحی) مراسلا من دمشق.. وأن الاثنين في الوقت الحاضر يحتلان مجالا كبيرا في النقد الأدبي الحديث..
من هذه النظرة العامة كانت الحركة الفكرية محتاجة إلى قيادات بمستوى أولئك، وهي في هذه الحال تعتبر حالة صعبة، وتحتاج إلى إرادة وصبر ومعاناة، وحتي في أقصی الحالات التشرد والمقاطعة كما حصل للآداب بالذات على مستوى عدة أقطار عربية تحركها المراهقات السياسية..
على هذا الخط، ومن منحنى التطور هل نحتاج إلى هذه المواقف، ولو كان بشكل مغاير وبنفس الوقت يكون الكاتب أمينا ومنطلقا من البداهة إياها بأنه لا سكون في حركة التجديد في الفكر، وأنه من خلال تصاعد الثقافة وتفاعلها يكون لك الوجه المميز، والمفهوم؟..
نحن نشتكي بالفعل، من علمية التمازج، أو التنازع المنطقي بين من أعطى، وبقي محافظا على منهجية مكررة، وثابتة، وبين من يرغب أن يمنح الزمن فعله، وتفاعله دون تحديد لعامل السن، أو الوظيفة، بأن يطرح أبعاد الحركة الفكرية من زاوية حيويتها وضرورتها، وتكوينها المنفلت على قيود التحديد، او التعجيم..
من هذه المسلمات أريد أن أناقش هذه الفرضيات، وخاصة الأسماء الجديدة التي تحاول أن تطرح نفسها بذات الصفة، والتسلسل التاريخي لأي فكر يتواصل فيه العطاء والتجديد..
هناك ظروف متعددة، تقف كخطوط منکسرة على هذه الساحة تساهم فيها المؤسسات الثقافية من جهة، وأعني بها مجالات النشر والتوزيع والتشجيع لهذه الأقلام الجديدة، ومن جهة ثانية تقهقر الملاحق الأدبية في صحافتنا جميعا، عن عطاء هذه الأسماء فسحة، إلا ما ندر منها ممن تثق في هذه الوجوه، بأنها وريث شرعي لا يجب حجبها عن الساحة لمجرد الرغبة بخطورة حضورها ومناقشتها للأقلام الثابتة..
في حين أن هناك ملاحق أشبه ما تكون بقراءات صغيرة في صحف حائطية لطلبة الصفوف الأولى في المتوسطات..
لقد ورثنا ما يسمى (بأنانية) الكاتب، أو المشرف على أي مجال نشر، خاصة في الوطن العربي، وبنفس السلسلة طغت هذه الموجة على بعض وسائلنا، وهو الألم الذي يضعنا في موقف اتهام من الحركة الفكرية في وطننا…
وإذا كان هذا يصح على بعض هذه الوسائل، فإنه لا يقبل التعميم، حين نجد أن الملاحق النشطة هي التي تدرك لذة أن تكتشف شاعرا أو كاتب قصة أو ناقدا جديدا..
وهذا لا يجعلنا نفترض أن كل من كتب يستحق هذا التشجيع، ولكن هناك أبجديات يدركها ای مشرف على ملحق أدبي بالكيفية التي يستطيع بها موازنة القلم الناجح من القلم الذي لا يدخل إلا في زوايا القراء..
ولعلنا ندرك أن الكاتب الناشىء كثيرا ما يضع نفسه في حالتين من التصور التي قد تفرضها عوامل السن أو التسابق مع الزمن، بإدراك أنه يستطيع أن يقفز كل الحلقات الباردة والساخنة..
ففي الوقت الذي نجد كاتبا يتطرف بافكاره، ومعارضاته، وحتى توظيف أسلوبه للوقوف من كل شيء بأنه قائم على تراكمات من الأخطاء الفاضحة، ولابد من إعادة البناء بهذا الأسلوب الحاد.. في حين أن آخرين، رغم إدراكهم لنجاح ما يعطونه، يظل الخوف عقدة ثابتة، بل هو محور تصوراته ويخشی إن هو طرح أفكاره أن يتعرض للنقد، أو اللوم…
من ثبات التصورين يتحقق لدينا أن الأزمة تأتي من النشر أولا وأساليبه المتغايرة، وفقدان الناقد الإيجابي، الذي نفتقر إليه بشكل اكثر تأزما..
فالنشر – كما قلت في مقال سابق – يبقى حركة مشلولة إن لم تكن معطلة.. ولنأخذ بالأسلوب أي كان متبعا في أي قطر عربی له أسبقية في هذا المجال..
فلو وجد مؤلف ناجح، وأقول (ناجح) من معطيات أنه يجب أن لا يخضع للتقييمات (الكلاسيكية) التي ترفض الشعر الحديث رغم تواجده في الشارع الثقافي کفرضية حقيقية، وتجد في تكنيك القصة الحديثة مسميات، ورواسب فلسفية من الفكر الغربي، وبالتالي خضوع هذا النشاط لتقاليد أدبية لا تعايش الموقف الحاضر لطبيعة الفكر الحديث، بل وأن تحاول أن تفرض عليه عقلية العشيرة الثقافية الجامدة..
أقول لو وجد هذا المؤلف، ووجدت الدار الناشرة أو لتكن حكومية مثلا، وأعطت هذا المؤلف مكافأة سخية وطرحت الكتاب بربع التكلفة الحقيقية للقاريء.. سنجد أنفسنا كسبنا طرف المؤلف ودفعناه إلى العطاء والنشاط وکسبنا القاريء، الذي يتواجد بين يديه کتاب أنیق وجيد في مادته بسعر معقول و مقبول.. ولتأكيد هذه الأشياء سئل أحد أعمدة المسرح العربی کیف توجد النص، والمشاهد، والجمهور؟
قال بكلمة صغيرة وبسيطة… ( عند تشييد خشبة المسرح ستأتي هذه الاشياء جميعا )…
إذا أدركنا هذا، وأدركنا معه أن الكاتب العربي، لم يكن معتمدا أبدا على نشاطه الفكري كوسيلة عيش فاضلة، ندرك أنه حالة ثانوية جاءت إليه من نفس الأسباب التي عرضتها، وهو أنه غير قادر بجهده المحدود أن يتخطى صعاب هذه الأزمة الثابتة والأزلية.. ومن خلال هذا التصور، نقول أنه لو وجدت الوسائل التي تطرح نشاطه، لوجد له القاريء، والمنتج المسرحي، و التلفزيوني
وبوضوح تام لن نجد فكرا عظيما، وهو المرسوم في قوائم التحريم في كل البيوت، والأزقة الصغيرة، في البلاد العربية، ولن يستقيم العقل المبدع طالما أنه يحيا على طرف الرداء المرقع.. ولكننا لا زلنا نقول، أن مفاتيح الأزمات كلها لابد أن تجد نافذة على الحياة تطل بأضاءة جيدة، ونرجو أن تتم وتكون لنصفق للفكر الناجح العظيم، الذي هو أحد المداميك التي تبنى عليها بيوت المستقبل..
فن الأغنية في أزمة
الأغنية العربية تمر في أزمة، كما هي تاريخيا تدور في حلقات الفراغ الفني إلا من نواح فريد، ومرددات أم کلثوم، وهمهمات عبد الوهاب.. أي لا ظل للفن، والتحديث، إلا في مخاطبة الفراغ العاطفي الذي يبكي نفسه، ويرثی عقله .
لقد عشنا على مطولات أم کلثوم نحتفل بضياعنا، واحتقار زمننا بالساعات الطويلة التي نفرغها في هزهزة الرؤوس ليلة كل جمعة، وكأننا في مأتم (بوذي) يسكنه رهبان حليقو الرؤوس مدثرون بلباس الموت الأصفر..
ووسط هذا التكسير العاطفي، والضياع الفني، تخرج (فيروز) وسط الظلام كقمر ربیعي يضيء قرية جبلية مسكونة بأزاهير الحناء، والسوسن وعقود الياسمين…
تطل فیروز کفن، وقضية.. أی أنها تدرك أن الفن ليس هذا البكاء والانسحاق، وكأننا (بهم) لا تعرف إلا وضع رؤوسها في معالف البرسيم، والشعير…
لقد غنت للقمر، والعشبة الخضراء، كما تغنی للقدس، والحرب غير الشرعية في لبنان، ومع كل مقطع ترتعش من وقع الحدث، وترتعش من هول صدمة المصير، وضبابية المستقبل..
فيروز لم تكن هذا الغياب الأفيونی، وراء المرئيات الباكية والعلمية، كانت ولا تزال ضميرا متصلا مع صدق الإحساس، واستشراف الحدس، ولهذا ظلت جديدة، ورائعة . تجمع العرب على وقع الأزمة، ولكنها لا تضع فنها مخدرا يعطى جرعات لحالات الغياب غير الاختيارية.
وإذا كانت فيروز هي الحالة الفريدة والوحيدة التي تخاطبنا من مواقع متصلة بين أزمتنا كأمة تبحث عن وجود لها، ولو بلغة الفن العليا كحالة تعبيرية صادقة فإن بقية من يهتفون باسم الأغنية العربية يظلون في الحلقات إياها في تراكم الأثقال الموروثة من الرواد الكبار بدءا من سلامة حجازی، إلى عبد الحليم حافظ..
في الجزيرة العربية عموما، حاولنا أن نوجد شيئا من تراثنا الشعبي نضعه في خدمة الأغنية العربية، لنخرجها من إطارها النواحي، إلى الحلم والفرح والتفاؤل بمستقبل جدید..
لكننا، ولضعف المستوى الثقافي لجميع المحيطين بهذه الأغنية، جئنا كمن يطرح جهالة جديدة في إطار ما يسمى فن.. فلا التراث الشعبي، ولا التقليدي أصبح فریدا في النغم، والصوت، وحركات الإيقاع، ولا الكلمات التي تنور في فراغ اللهجة التي لا هي خليجية، ولا يمنية، ولا نجدية أو حجازية، بل خليط من شامية ومصرية وعامية حجازية ونجدية..
وإذا كان المجرور والسامري، والصوت الخليجي إرثا فنيا متصلا بقواعد خاصة مميزة، فإن الذين حاولوا تطوير هذا الفن، وقفوا على ذات الخشبة الصغيرة في وسط أمواج، وشواطیء هذه الجزيرة..
ذلك أن الذين حاولوا هذا التطوير – إن صح المنطق – لا يملكون أي خلفية ثقافية لهذا التراث، بمعنی أننا عایشنا نفس هذا الفن بكل تقاليده، وكل ما حملناه من تطوير هو استيراد الآلات الموسيقية، لتقوم بنفس الأداء، وبنفس الأنغام في بعض الأحيان، وفي حالات أخرى تهجين هذا الفن أخری..
فإذا افترضنا جدلا أن طلال مداح، ومحمد عبده، يأتيان على رأس الأغنية في الجزيرة العربية، كما يحتفل بذلك كل سائقي التكاسي، وأصحاب الملحقات الفنية في صحافتنا، وأصحاب التعليقات الطويلة في إذاعاتنا . نسأل ما هي المكونات الحقيقية لهذين المغنيين، ولا أقول الفنانين؟
بتجرد أقول أنهم خليط من فن الصوت الخليجي، والإيقاع اليمني التقليدي وترخيم، وتطويل، لنواحية جديدة باسم السامري، الذي ظل هجين هذا التراوح الضائع.. ويبقى (السندي) الوحيد الذي يحاكي اللون الحجازي التراثي دون أي إدخال للتحديث أو التطوير، ولكنه يبقى شاهدا على أصالة معينة وفريدة..
أما المقلدون من الصفوف الصغيرة، فهم يرون مثلهم العليا بكل من محمد عبده، وطلال، وصار عامل التناسخ الضعيف هو الأسلوب السائد في التحولات الجديدة..
الموهبة وحدها ليست حالة وحيدة لدليل النجاح، وخاصة في الفن الغنائي.. لأن موهبة الصوت، تحتاج إلى شاعر، وملحن، وتوزيع موسيقي يستلهم من هذه الموهبة بعدا جماليا خاصا، وهذه الأقانيم التي تنفرد كل منها بموهبة مكملة للصوت، تنعدم بيننا في الوقت الحاضر لأسباب كثيرة، أهمها التواضع الثقافي، و التخصصي بهذه الفنون من موقع دراستها دراسة تحديثية من خلال كل مكوناتها التاريخية، أو التقليدية..
إن (ديمس روسس) المغني اليوناني الكبير، وقف موهبته في الموقف التاريخي لوطنه، وتحدي الفاشية بقيثارة وصوته، مثله كذلك الآن (عادل امام) الذي وقف من خلال فنه يعلن موقفا وطنيا متحديا..
الفن إذن ليس هذا النواح، وتراخي الأحناك بالكلمات الممطوطة والألحان الممدودة والمكرورة.. الفن قيمة تتعلق بذات الوطن، و الأمة، ولذلك ظل (بتهوفن، وفاجنر، وتشایکوفسکی) أعلاما عظماء في التراث الموسيقى الإنساني لأنهم كانوا يحملون كل أدوات النجاح..
إنني لا أريد أن أحارب بطريقة (خالف تعرف) ولكن بلغة من يدرك أننا لا نمايز بين الفنان كقيمة كبرى وبين الفن كحدث عظيم، وبين الأصوات التي احتلت صورة من ضياع في حي الأغنية في هذا الوطن..
للشاعر (محمود درويش)
هو الآن يرحل عنّا
و يسكن يافا
و يعرفها حجراً.. حجراً
و لا شيء يشبهه
و الأغاني
تقلِّدهُ..
تقلِّد موعده الأخضرا.
هو الآن يعلن صورته
و الصنوبر ينمو على مشنقهْ
هو الآن يعلن قصَّته
و الحرائق تنمو على زنبقهْ
هو الآن يرحل عنّا
ليسكن يافا
و نحن بعيدون عنه،
و يافا حقائبُ منسيَّة في مطارْ
و نحن بعيدون عنه ؛
لنا صُوَرٌ في جيوب النساء،
و في صفحات الجرائدِ،
نعلن قصَّتنا كل يوم
لنكسب خصلة ريح و قبلة نار….
التاريخ: 08 – 06 –1400 ه
0 تعليق