في الوطن العربي ليست هناك كثافة سكانية عدا مصر والتي هي بنفس الوقت مصدرة للعمالة لبقية الاقطار العربية..
وتظل أقطار المغرب العربي هي الوحيدة التي تشكل عمالتها في أوروبا ظاهرة بارزة، وهي نتيجة طبيعية للأزمة التي عانتها أوروبا في فترة استعمارها لهذه الأقطار في تشغيل كياناتها المتحركة حتى تستطيع سد العجز الذي نتج عن الكثافة البشرية في قطاع الجيش الموزع على مستعمراتها..
ولعل ظاهرة النزوح للقوى البشرية العربية في العصر الحديث في قارتي أمريكا بقطاعها الشمالي والجنوبي وكذلك أفريقيا بشكل ظاهر من بلاد الشام يرجعه معظم الباحثين إلى أن الأسباب الهامة في هذه الهجرات ان الشاميين، رغم أن رقعتهم الأرضية التي تشكل مصدرا زراعيا هاما، فإنهم بطبيعتهم مائلون للتجارة أكثر من الزراعة، وهو الأساس في عدم تموضع الحركة البشرية في مكان واحد للبحث عن مصادر جديدة لتنمية التجارة، وتحديث وسائلها..
وفي الوقت الحاضر ربما تكون اليمن هي أهم الأقطار العربية نزوحا إلى خارج قطريها الشمالي والجنوبي وقد تكون كثافة الهجرة إلى بلدان الجزيرة العربية والخليج أكثر منها في بقية الأقطار الأخرى، اللهم إلا الهجرات التاريخية القديمة التي غزت أفريقيا وإندونيسيا وربما تأتي أمريكا الشمالية أيضا منطقة استيعاب لهذه القوى في الوقت الحاضر..
وقد تحددت هذه الهجرات على نوعية الرجل فقط، أي أن المرأة تظل هي المستوطنة الثابتة، والعاملة في الحقل الزراعي هناك والذي هو أهم الموارد الاقتصادية وقد يكون السبب الأهم في بقاء المرأة هناك عامل التقاليد القبلية، وضعف انتشار التعلم بشكل جيد، وهو الأمر المشاهد حتى عند الرجال الذين بقوا فترة طويلة في المملكة ودول الخليج بأن بقى الرجل وحده الذي يعايش مغامرة الهجرة..
أما في وسط الجزيرة العربية – وخاصة المنطقة الوسطى فإنها إلى عهد قريب كانت مصدرا هاما للهجرة إلى الشام والعراق، ويعزى ذلك إلى أن أهم مواردها كانت تنمية الماشية التي تعتمد على الرعي، ولذلك اختلطت قبائلها بالشمال تبعا لظروف مواسم الجدب أو الربيع، وقد استوطنت أعداد كبيرة منها في قطاعات زراعية حافظت على ذات التقاليد القبلية في القطرين العربيين سوريا والعراق..
وفي الوقت الحاضر ربما أن أهم الأقطار العربية في استيعاب الهجرة المعاكسة هي دول الجزيرة العربية والخليج للظروف التي استجدت حديثا في تدفق النفط كواحد من أهم المغريات التي جذبت هذه القوى.
وتظل المملكة هي أكثر الأرقام تصاعدا في قبول هذه الأعداد وكذلك بقية الأقطار الخليجية، حتى أن العراق الذي يعد صاحب كثافة بشرية هامة أصبح هو الأخر منطقة استيطان لقطاعات كبيرة من الفلاحين، والعاملين المهرة، وهذا القطر يختلف عن بقية أقطار الجزيرة العربية بأن التنمية الزراعية ترقي على الأهمية الصناعية لتوفر جغرافية زراعية ثابتة لم تستطع القوى البشرية المحلية استثمارها بشكل اقتصادي جيد..
وإذا كان هناك من يتحدث عن إمكانات اقتصادية عربية كبيرة وأن القطاع البشري واحد من أهمها على الإطلاق فان هذه القوى تظل بالحدود العليا لها محدودة العطاء إلا في مجالات التعليم النظري، أو العمالة التي ترتكز على البناء العمراني، وبعض الحرف الصغيرة في (ميكانيكا) الآليات المتحركة وصيانتها…
لكنها على المستوى التصنيع عالي التأهيل الفني تبقى الأقل حصولاً على امتيازات صناعية، وحتى عمرانية تأسيسية كالطرق والموانئ والمطارات وغيرها، وهذا يرجع الى ضعف إمكانات التدريب، والممارسة من ناحية وعدم وجود استراتيجية اقتصادية ولو محدودة بين الرساميل العربية، وهذا ربما يكون علة المواقف السياسية التي هي العائق الدائم والمحرك لعوامل التثبيط في إنشاء مشاريع مشتركة تعطى في المستقبل وجودا لتنمية عربية عامة..
وبنفس الوقت فان هناك الآلاف من القوى العربية المهاجرة في دول أوروبا وأمريكا والتي تحتل مكانة بارزة في تخصصات تحتاجها أقطار الوطن العربي وخاصة في مجال الطب والهندسية والعلوم، هذه الأعداد ربما يسهل جذبها مرة ثانية إذا وجدت المناخ والبيئة الصالحة لاستثمارها، لكن ما يسيطر عليها هو الشك في القدرات السياسية التي تخطط لهذه الأقطار بأنها تستطيع تعوضها عن المكاسب التي وجدتها في بلدان الهجرة..
وإذا كان من عودة إلى دراسة وضع أقطار الجزيرة العربية والخارج والتركيز على القيمة البشرية كواحدة من أهم المشاكل المطروحة حاليا في بناء اقتصاد جيد ومستمر فإن هناك من المظاهر السلبية ما يدعو إلى الشك في الحصول على كفاءات جيدة تستطيع القفز بالنقلة التنموية الى الحدود المستقرة والمتنامية، ولعل أهم هذه العامل السلبية:
أ- التقاليد المحلية التي لم تستوعب بعد الظواهر الحديثة والتعايش مع هذه الظواهر، دون الإخلال في ميزان الثوابت الأخلاقية التقليدية، ولذلك نما الحذر حي أصبح حاجز وقوف وشك في وجه أي تحديث في المجال البشري، أو المادي، ولم تسلم حتى التجارة التي هي فلسفة مصلحية ذاتية ترتكز على الربح المباشر فقد بقيت تتمحور في تجارة الأراضي أو الاستيراد لمجمل الصناعات أو المحاصيل الزراعية التي يحتاجها السوق المحلي..
وحتى العلاقات الاجتماعية داخل المدينة الكبيرة التي اختلطت بها كافة الأجناس من مختلف البيئات ظلت محصورة في تطلعاتها إلى احتراف التجارة السهلة، أو الوظيفة في القطاع الخاص، ونما معها أيضا التوجه بكلياتنا إلى المظاهر الكاذبة للتعويض عن النقص الذي تستشعره ذاتنا الاجتماعية..
فنجد السكن الذي متوسط العائلة فيه لا تتجاوز ستة أشخاص يستوعب في الحقيقة أكثر من عشرين فردا، وتقوم على هذه العائلة قوى بشرية هامشية لخدماتها كالخدم والسائقين وغيرهم.. ناهيك بأعداد السيارات والأثاث والبذخ على المأكل والملبس… الخ… هذه السلوكيات ربما أنها ظاهرة مشتركة في أكثر البلدان التي تحصل على مواردها بأقل جهود عضلية أو عقلية وهذه الحالات هي أهم ما وصل إليه انحدار الحضارات الإنسانية كما تقول دراسات التاريخ الحضارات الماضية.
ب- قلة تعداد السكان، وهو الشرط الملازم للحصول على تنمية اقتصادية جيدة متكافئة مع الموارد المادية الضخمة..
فاذا ما أدركنا – على سبيل المثال – أن العاملين في أي أسرة متوسطة، لا يتعدى الثلاثة أشخاص، هذا إذا ما افترض أن هناك فتاة متعلمة وأبا وابنا حاصلا على مؤهل مقبول، فإنه بالتالي يبقي الأطفال والمسنون من النساء والرجال، أو النساء غير العاملات بحكم التقاليد دون عمل، ويصبح من هو مؤهل للعمل أقل من الربع… وإذا ما عرفنا أن أهم القطاعات التي تستوعب هذه الفئات هي القوات المسلحة بكافة تشعباتها وكذلك التعليم، ثم الإدارة الحكومية، فإن التوجه إلى القطاع الصناعي أو الخدمات الأخرى وحتى الزراعية منها أقل من الحد الأدنى في استثمار هذه القوى البشرية.
وللتغلب على هذا النقص يطرح على المستوى النظري حلان متظاهران.. أحدهما هو معالجة هذا الواقع بالتجنيس على أن يتم الاختيار حسب الحاجة لكفاءة المتجنس..
ولهذا الرأي مخاطره المحسوبة، سواء في الإشكالات الاجتماعية من تزاوج وانتماء، وقبول في الاندماج في هذه البيئة بكل حالاتها، وكذلك من ظهور حالات فوارق طبقية سواء ما كان منها ماديا أو اجتماعيا، وخشية أن تطغى هذه الفئات على تغيير البنية الاجتماعية إلى تقاليد متشعبة تنفرد بخصوصيات خارجة عن التقاليد العامة..
لكن هذا قد يكون مدعاة للتجنيس في الحدود الدنيا، وعلى نوعيات لا تختلف بالديانة والتقاليد إذا ما افترض أن المتجنس قابل للاندماج بأقل التأثيرات المتعاكسة.
الناحية الثانية، هناك من ينادي بتعدد الزوجات، ولكن وفق الشروط الدينية من عدل، وإنصاف، وإمكانات مادية تستطيع حماية الأسرة من الانتكاس، وهؤلاء ينطلقون من فرضية أن التربية الاجتماعية يجب ان تدخل كأساس في التخطيط البشري، بحيث يكون هناك تعليم الزامي من سنوات الطفولة الأولى، إلى غاية الشباب، وفي مجمعات حكومية تزول فيها الامتيازات الخاصة، أو الإهمال الذي ربما يطرأ من الأبوين..
هذا الرأي أيضا ربما لا يتحقق بسهولة، ذلك أنه إذا كان الرجل هو الطرف القابل لهذه التعددية، فان الفتاة ربما لا تستطيع القبول بسهولة بحشرها مع ضرات مختلفات المزاج والتعليم، وتخشى أيضا على مستقبل أولادها من الضياع، ولو كان هناك شبه ضمانات حكومية.. كذلك عدم إدراك أن هذه الحالات لا تأتي إلا بطغيان أعداد النساء على الرجال وهذا ما لا تثبته أي إحصائية سكانية لهذه الدول…
إذن ما هي الوسائل التي يمكن بها رفع الأعداد السكانية لهذه الأقطار، طالما أن النمو السكاني، رغم وسائل التغذية والطب ونجاحهما في قهر كثير من الأمراض؟
إن ارتفاع نسبة المواليد لا تزال هي الوسيلة الوحيدة المأمونة العواقب حاليا، ولكنها ليست الحالة السريعة في حل نقص الأيدي العاملة، ثم أنه إذا ما بقيت التقاليد الاجتماعية ترفض التكيف مع المنطلقات التنموية، وخاصة في إتاحة الفرصة للفتاة بالعمل في الحدود غير المتعارضة مع أوضاعنا الدينية، أو التقليدية، فإنه بالتالي ليس ممكنا الاستفادة منها وحصر نشاطها فقط في مجال التدريس، أو الوظيفة الإدارية وهي الكفاءة التي يمكن أن تنتج في قطاعات زراعية أو صناعية، اذا ما توفر لها الجو والتدريب، وازدياد المعاهد المتخصصة التي تستطيع أن تستوعب امكاناتها العقلية والعضلية.
إن الخطة الجديدة للمملكة أثارت هذا الجانب، وتحاول أن تركز عليه شعورا بأهميتها كقطاع غير مستثمر ولكن النظام التعليمي الذي نعيشه لا يزال يركز على الجانب النظري، إلا من أتيحت لهن فرصة الدخول للكليات العلمية، وهذا معناه إبقاء العالة كما هي، أو أن يتم اعتمادات وظيفية تتناسب وأعداد الخريجات دون معرفة منهجة التعليم واحتياجاتنا في المستقبل، لتظل الوظيفة للوظيفة فقط…
لكن مع هذا ستظل اليد العاملة في كافة القطاعات أدنى من مستوى التخطيط، وهو البحث الذي يحتاج إلى معدلات إحصائية واجتماعية متضافرة تدرس الجغرافية السكانية من داخل فواصلها، وتطرح الحلول الإيجابية لهذه المناطق التي تشكو بإلحاح دائم عجزها عن سد هذا التناقض في كفاءاتها البشرية…
جامعة في كل مدينة!
ظاهرة تعدد الجامعات والكليات في المملكة صارت (موضة)..
فنی مطالب القراء تجد في صفحة أي جريدة إلى جانب طلب تحقيق المرافق العامة من ماء وكهرباء وهاتف، طلب فتح جامعة في الطائف، وكلية في حائل، وربما في قرية عدد العاملين الأجانب فيها اكثر من السكان الأصليين…
هذا التوسع في الجامعات تبديد للجهود، وإضاعة لفرص خلق جو جامعي تلتف فيه جميع التخصصات من هيئة تدريس، أو طلبة..
الجامعة ليست مدرسة ثانوية، أو متوسطة تبقى تکالیف منشآتها معدودة، إنها کیان كبير يحتاج الى الكفاءة قبل المبالغ المرصودة..
ألا يكفي مثلا أنه لدينا ست جامعات كلها تشكو حالة ضعف في تأسيسها، وإمكاناتها البشرية من الوطنيين ؟
إن التوسع في فتح کلیات أو جامعات على حساب الكليات المتوسطة، بكافة فروعها المهنية أو النظريه وكذلك عدم مراعاة الأعداد البشرية للسكان أمر يحتاج إلى إعادة نظر..
ولست أدري كيف يوجد ست جامعات لم تخصص واحدة منها للبنات ؟ ولا أدري لماذا ست جامعات، وعند الطلبة المبتعثين تقريبا، اكثر من ستة عشر ألفا، وهو رقم لم تحققه بعض الجامعات في داخل المملكة.
ولا يعلم إلا الله كيف أن الكليات النظرية بهذه الجامعات أکثر ألف مرة من الكليات العلمية، ولا ندری الى أي يوم ستكون الكليات تخضع نسب المدرسين فيها من المتعاقدين أكثر من الوطنيين؟
إن التخطيط لهذا التعليم العالى دون المستوى الحقيقي لما يجب أن يكون، ونرجو أملين أن لا تخضع النزعة الإقليمية بحيث يتم تعدد الكليات بعدد المدارس الثانوية، ثم يأتي دور تعليم البنات لتطالب بالمساواة..
لقد سبق أن أشرت لهذا الموضوع، وقلت أن کلیات التربية والآداب تدرس مادة الجغرافيا بنفس الكثافة التي يدرس بها الطالب هذا التخصص، وهذا معناه اضطراب في التخطيط وعدم وجود سياسة ثابتة لهذه الجامعات الست.
إننا نرجو أن تكون هذه إشارة لإعادة النظر في سياسة التعليم العالي على ضوء حاجاتنا الأساسية، لا على رغبة سكان المدينة الفلانية، أو المنطقة العلانية..
لمجنون ليلى
قَضاها لِغَيري وَاِبتَلاني بِحُبِّها
فَهَلّا بِشَيءٍ غَيرَ لَيلى اِبتَلانِيا
فَلَو أَنَّ واشٍ بِاليَمامَةِ دارُهُ
وَداري بِأَعلى حَضرَمَوتَ اِهتَدى لِيا
وَدِدتُ عَلى حُبِّ الحَياةِ لَوَ اَنَّها
يُزادُ لَها في عُمرِها مِن حَياتِيا
على أنّني راضٍ بأنْ أحْمِلَ الهَوى
وأخْلُصَ منْهُ لا عليّ ولا لِيا
ولمّا اشكوتٌ الحبّ قالتْ كَذَبتَني
فما لي أرَى الأعضاءَ منكَ كَواسيا
فمَا الحبُّ حتى يلصق الجِلدَ بالحَشا
وتذبُلَ حتّى لا تُجيبَ المُناديا
التاريخ: 29 – 06 –1400 ه
0 تعليق