فصل في نشأة المواقف السلبية!

آفاق | 0 تعليقات

يطغى شعور مؤلم عند المتعلم بأنه قيمة مستبدلة، ليس لها أي أهمية في جدول الأوليات.. ويتكون هذا الشعور بشكل حاد وضاغط عندما لا يكون هناك توازن او تجاذب بين أبناء المجتمع الواحد..
في منطق الاقتصاد الموجه، أو رأسمالية الدولة، يتأصل مفهوم لا واعي، أو أنه مفهوم يحترق عند اصطدامه في ثنايا الواقع.. ذلك المفهوم يعرف أن المثقف، والمهندس والطبيب لا يدخلون في حيز الصراع الطبقي للفئات الدنيا، لأن طموحاتهم (البرجوازية) تطغى على انتمائهم الحقيقي لتلك الفئات!
هذا التنظير في الفلسفة الماركسية يسقط إيجابا، لأنه ليس هناك من منطق سلفي، أو حديث يعزل هذه الطبقة عن مجتمعها إلا في حالة سقوط النظرة الجدلية للمنطق التقدمي، وبالتالي عزل كافة أبجديات قطبي الصراع في النفس البشرية من حيث استعدادها للغلق والابتكار وهو ما يعطيها سر ديمومتها وبقاءها..
من نظرة ثانية تتحرك المجتمعات الرأسمالية لتجعل من القيمة الإنسانية مجرد رقم متحرك في دولاب الإنتاجية الخاصة ذات الربح المضمون والمتنامي وبصرف النظر عن السلوكيات، والغايات التي يتبعها، ولذلك تصير مسألة الحرية شكلا ليس له كیان، أو مضمون إلا داخل هذه الشبكة الرهيبة من السلطة غير المباشرة في قمع أي حركة يسعى إليها الانسان في خلق استقلالية خاصة..
من جهة ثالثة يتوحد الصراع، والتمزق داخل المجتمعات الأخرى، الأقل إنتاجا، وثباتا في سلطاتها التشريعية والعسكرية لتكون هي مجال اللعبة، وميدان تكثيف الأحداث وتصعيدها.. هذا الاختلال أثر بشكل مباشر على حياة المتعلم المثقف، وخاصة في بلدان الخليج والجزيرة العربية، وجعلها في موقف المبهور المحتار في اختيار الاتجاه الذي لا يبدد قواه العقلية..
أ‌- فهو يدرك أن قدره المعاشی وتثبيت مستقبله لا يتم إلا بأن يبقى سنوات عمره في الثقافة، أو التعليم، أو أي مرفق يتناسب وتحصيله الدراسي…

  1. ومن هنا عاش صراع مرير بين…
    ‌أ. غياب الجو العلمي، أو الثقافي الذي يعطيبه الرضى النفسي، ويستجيب لرغبته في استمراره في الإبداع في حقل تخصصه..
    ‌ب. القيم المادية التي طغت على فئات المجتمع، والمتمثلة في ثراء العديد من الأفراد، والفئات التي لم تواجه أية معاناة زمنية، أو ذهنية، وأصبحوا يملكون كل شيء بفعل الصدفة فقط، بينما المثقف، والمتعلم يعانی أصعب حالات التحديات المادية..
    ‌ج. الأهمية التي أصبح محتما عليه أن يعطيها لتلك الفئات التي أثرت بمعزل طبيعتها الاجتماعية، وما يجب أن تكون عليه حسب نوعية تعليمها او ثقافتها..
    ‌د. شعور الفرد المثقف بالغربة عن مجتمعه، نتيجة تعارض بين ما يحمله من قيم إيجابية، وبين ما يسود في مجتمعه من قيم مادية عارضة..
    ‌ه. أيضا شعوره أن طاقته لم تستثمر، لعدم توفر المناخ المناسب لاستثمارها داخل هذه المعارضات العجيبة..
    هذا الخلل في الموازين الاجتماعية جعل الفئات الواعية مشدودة لعنف الواجبات الصغيرة التي لم يتم تحقيقها، أو أصبحت مجرد مشاريع في الخيال، أو حلم يطاردها حتى في صحوها، ولهذا تملكه ( أی المثقف ) شعور بالقهرية واستعداء العالم عليه، وصار يطارده موقف اللا انتماء..
    افهو معنويا، وكصفة إنسانية، له شخصية الفرد الذي يتميز بحقيقته العلمية وأهليته لأن يحتل الوظيفة الاجتماعية التي لا تتعارض مع العدل الاجتماعي، لكنه في مواقع يخضع لمعادلة معكوسة، إذ تحتم عليه اما أن يمارس سلوكيات غير اخلاقية، ويخضع لطموحات المادية تبعا للموقف الذي أفرزته هذه الأوضاع الطارئة..
    وإما أن يحتمي وراء قيمه ومبادئه، وبالتالي تنشل قدرته وإرادته عن العطاء، ليستهلكه الغبن والضمور في كل قواه..
    لذلك صارت تجربته وخبرته في موقف المتعارض، وصار انقسامه على نفسه واحدا من أقسى حالات القلق غير المنتج، أو الحضاري وصار الاعتماد على الطموح داتی، وسط معايير مختلفة لا تحقق الفعالية التي ينشدها..
    فالمادة قوة معتبرة وضاغطة، وبالتالي لها تأثيرها الواضح في مجرى التحولات السياسية والاقتصادية، وطالما أن التاجر لا ينشد إلا الربح مهما كانت الوسيلة والغاية فإن انقسام المال بين قوتين مختلفتين من المواطنين في اتجاهها وتفكيرها يعطينا سلفا المحاذير القادمة..
    فالرؤية التي تحكم الأولى هو الارتباط بصيغ التجارة التقليدية التي تعتمد على التجارة الهامشية كالاستيراد وخاصة السيارات والمواد غير الضرورية أو الاتجار بالأراضی، وإذا ما حاولت الخروج عن هذه الدائرة الضيقة تقع في تحايل القوى المادية الخارجية التي تستغل قلة خبرتها، وإيقاعها في سلسلة من الوقائع الخاطئة التي تجر إلى إفلاسها أو تقوقعها…
    وفنة ثانية قد تنتمي إلى قاعدة منهجية في تخطيطها الاقتصادي وتعتمد على أسلوب واقعي في تطلعاتها وتنمية رأسمالها، إلا أنها أو بعضها على الاقل لیست ذات جذور وطنية راسخة، ومن هنا كانت تجاوزاتها السلوكية طاغية وهذا ما يهدد مستقبل القطاع الخاص الذي لا تحكمه قواعد ثابتة وطنية، وأخلاقية…
    وعلى الرغم من عدم انتماء هذه الفئات لأی فکر سياسی عربی أو أجنبي، أو تأطرها بفکر خاص بها إلا أنها عزلت مختلف الاجتهادات التي يمكن أن يساهم بها رجال الفكر الوطنيون، وهذا الافتراق سببه كما قلتسابقا الهوة الفاصلة بين طرازين من التفكير، وتحقق فرص غريبة حولت المثقف والمتعلم إلى قطاع ملحق بوظائف الأثرياء، وعزله عن طموحه في خلق تنمية فكریة واقتصادية بعيدة عن هذا التعارض…
    إن الطفرة المادية الحاضرة ليست كلها في الخط المناوئ لتطلعات المواطن العادي، ولكنها أيضا لم تحقق مكتسبات خاصة ذات هوية محلية، أو بناء استراتيجية لا تقع في التصورات المثالية العليا الصوفية أو تنطوي تحت ساعة الخوف من بناء مجتمع متماثل في تفكيره وتخطيطه…
    خروجنا – ولو شکلا۔ من أس العقلية القبلية في إدارة الرأسمال الخاص، وأعني به القطاع الذي يمتلكه المواطن، لم يتجاوز محور التفكير الاستهلاكي والمظهری، أی لم يحدد الطريق الى قاعدة ثابتة في المنهج والتفكير في المستقبل…
    لذلك كانت العزلة بين ما يحمله المتعلم – المثقف من تفكير حضاری وإنسانی و بین ما يعيشه فعلا صاحب المال من تصرف غارق في هواجس الحياة الشكلية..
    لهذا ليس مستغربا أن يتحول المهندس والكيميائي الى احتراف الإنتاج التلفزيوني، أو يصبح أستاذ الجامعة تاجرا عقاريا، لأن الأصل في التقييم الاجتماعي، هو بالكم المالي وتحويل هذه القوى المنتجة الى قوى تحتية وهامشية..

أن الصدمة الحاضرة ليست عنيفة بحيث تقودنا إلى اليأس والتقوقع، وليست الغاية أن تتحول كل الفرص المادية في يد الفئة المتعلمة أو الواعية، وإلا لقلبنا ذات المفهوم إلى انتكاسة جديدة، بحيث صارت الفئات غير الواعية قطاعا من المنبوذين في سلطة الواعين.. إن الغاية هي تجاوز هذه النمطية الحاضرة، بتخطيط واع يستشعر آفاق المستقبل، بأقل الاعتراضات السيئة، ذلك أننا مقبلون على تحولات أساسية، سواء في التفكير أو السلوك، إذا ما أدرکنا کیف سیتم عليه تخطيطنا الصناعي، والزراعي وبالتالي، التخطيط الأهم للقوى البشرية فإن الخشية من تغيرات جذرية في تقاليدنا وعاداتنا، وتحولها إلى أنماط هجينة تكتسب عاداتها من سلوكيات خارجية هذا السبب هو الذي يعطي الأهمية الأولى في اكتساب القطاع الواعی والمتعلم إلى صفوفنا، وتحويله إلى مصدر إیقاظ في هذه المرحلة الحرجة من واقعنا..
إن العزلة للمثقف أو المتعلم، أو شعوره فقط بهده العزلة هو الجانب السلبي في تحقيق تنمية أصيلة تقودها أید وطنية، تتوجه في كل تطلعاتها وحسها إلى بناء وطن خال من صراعات الايدلوجيات الخارجية..
وطالما أننا نملك الثروة، ونملك الانسان، فإننا الاقل في التعرض إلى انقسامات داخلية، لكننا أيضا يجب أن ندرك أن الثروة البشرية هي الأساس في التخطيط والتنفيذ، وما هذه السطور إلا دعوة صادقة لمجابهة الحاضر بكل سلبياته وإيجابياته، لأننا المعنيون بكل ما نملك في جعل هذا الوطن ملكنا، وتحت حمایتنا، ولأن الوطنية شيء لا يستورد، أو يقايض بأي مفاهيم مادية أخری..

لغتنا المسكينة

الدول الأجنبية تشعر أن من فلسفتها القومية، كسب أكبر قدر من الشعوب في تعلم لغاتها.. لذلك نسمع بالشعوب التي تتكلم الإنجليزية والإسبانية والفرنسية.. وإذا كانت هذه الفلسفة قامت على مبدأ استعماري في الأساس فإنها ظلت تحمل ثقافة أصحاب اللغات الأصيلة وتقاليدها حتى بعد الاستقلال..
واللغة العربية بدأت تدخل الأهمية ذاتها ولكن من منطق مغایر، ذلك أن الاهتمام بها جاء نتيجة للأهمية الاقتصادية والاستراتيجية للوطن العربي برمته من جهة ومن قوة تصاعد الدين الإسلامی کحركة بدأت تأخذ مجراها التاريخي في إيقاظ الشعوب الاسلامية بكليتها..
وإذا كانت اللغة العربية رافدا مهما لكلا الواقعين العربي والإسلامي فإن هناك من ينشد تعلم هذه اللغة وإن اخلفت الغاية من ذلك..
فهناك من يسعى لتعلمها لغاية سياسية أو اقتصادية للوصول إلى حقيقة النفسية العربية وطرق تفكيرها أو تطلعاتها وهو سعی، بالقدر الذي يختلف مع أهدافنا فإنه يجب ألا يخيفنا لأن تراثنا الروحي منبع خصب ورائع لأي عقلية تنشد الحياد في التفكير ولذلك لن نعدم من سيفهم أننا نملك تراثا إنسانيا إلى جانب الملكية المادية..
أما الطرف الثاني فهي الفئات المسلمة الوافدة التي تتعلق باللغة العربية لأنها لغة القرآن وبالتالي تريد أن تستغل هذه الفرصة لتعلم هذه اللغة في منبتها الأصلي، وأعني بها الجزيرة العربية والخليج العربي…
وإذا تجاوزنا العواطف في كلا الحالتين، فإن الامر يتعلق بنا کأمة عربية، هناك من يسعى حتی من بین العرب لقتل هذه اللغة لذلك أجد من المناسب الدعوة إلى إنشاء معاهد للغه العربية ليس لتعليم اللغة لذاتها، وإنما التعريف بتراث أمتنا العربية والإسلامية كحقيقة تاريخية لها إنارتها وعطاؤها في التراث الإنساني القديم والحديث.. وهذا الامر يلزمنا بانتهاج طريق جديد لتحقق منه الغاية الهامة…
فجامعة الرياض أنشأت معهدا لتعليم اللغة العربية للأجانب ولكنه لا يستطيع استيعاب أكثر من طاقته المحدودة، تبعا للامكانات الميسرة له.. ولكن بجانب هذا لماذا لا تنشأ معاهد مساعدة سواء عن طريق جمعيات وطنية أو تنشأ برأسمال خاص، وتدعم من الدولة؟!
إن هذا يتعلق بإدراكنا لأهمية هذه المرحلة التي يمر بها وطننا الغالي، هذا إذا ما عرفنا أن قطاعات كثيرة وهامة من الخدمات في الفنادق والأسواق التجارية والمستشفيات وغيرها، تدار بأید أجنبية لا تفهم حتی أبسط كلمات التعامل مع المواطن..
وإذا ما عرفنا أيضا ان هذه القوى العاملة ضرورية في الوقت الحاضر لاعتبارات عديدة، فإنه بالإمكان إلزام أی متعاقد تعلم هذه اللغة ولو في حدود التفاهم البسيط مع المواطن ذلك أن غياب لغتنا داخل وطننا أمر يتعارض مع أبسط مباديء قيمنا وتقاليدنا…

فالأفراد أو الشركات التي تستقدم هذه الأجناس الأجنبية لا يهمها في الموضوع إلا تحقيق غايتها فقط دونما “اعتبارات تتعلق بمسؤليات الوطن.. لذلك أجد من المناسب أن يعطى أي متعاقد لا يحسن العربية مهلة ستة أشهر أو سنة في تعلم مباديء هذه اللغة، وفرض جميع المعاملات في كل قطاع تجاری، أو مشترك باللغة العربية حتى لا نظل الغرباء، في وطننا…
وكم هو مؤسف أن تجد مرفقا حكوميا تقل فيه إلى حد الصفر من يتكلم العربية، وحتي في مبيعات قطع الغيار عند «الجميح» مثلا تحتاج إلى مترجم، هذا عدا المطاعم والفنادق وغيرها..
لقد نشأت في أفريقيا وآسيا جمعيات التبشير بمؤسسات أهلية غايتها نشر الدين المسيحي وتعلم لغة الإنجليز أو الفرنسيين، بينما نحن الذين تملك كل مقومات نشر لغتنا وديننا تظل المؤسسات الأهلية تحارب بعنف هذا المبدأ، بل وتسلك طرق الإعلان حتی لحملة شهادة الكفاءة أو ما دونها في إجادة اللغة الانجلزية قراءة وكتابة وترجمة، حتى ولو كانت الوظيفة معقب جِوازات او مخلص جمركي!!

لنزار قباني


ألاحظتِ؟
كيفَ اكتشفنا طفولَتنا
بعدَ ستِّ سنين
وكيفَ رجعنا أخيراً..
لمملكةِ العشقِ والعاشقينْ
أأحسستِ مثلي؟
بأنَّ رجالَ المظلاّتِ كانوا..
يحطّونَ مثل الحَمامِ على راحتَيْنا
وأنَّ جنودَ المغاويرِ كانوا..
يمرّون فوقَ عروقِ يدينا..

ألاحظتِ؟
كيفَ نثرنا عليهمْ
عقودَ البنفسجِ والياسمينْ
وكيف ركضنا إليهمْ..
وكيف انحنَينا..
أمامَ بنادقهمْ خاشعينْ
ألاحظتِ كيفَ ضحكنا..
وكيف بكَينا..
وكيفَ عبرنا الجسورَ معَ العابرينْ


التاريخ: 14 – 07 –1400 ه

مقالات مشابههة

التقابل.. والتضاد!!

التقابل.. والتضاد!!

في عدد الأحد الماضي من جريدة الرياض رقم 5412 في 27/6/1403 كتب معالي الدكتور "عبد الله التركي" مدير جامعة الإمام محمد بن سعود مقالا عن فن التعامل مع الظروف...

شارك برأيك

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *