وسط المدينة؛ أو حتى الأطراف المحيطة بها، تحاصرك المخاوف من كل اتجاه… تقود سيارتك بعد منتصف الليل، وأنت تشعر بالمطاردة من أشباح مختلفة.. السيارة لم تعد وسيلة لاختصار الزمن الضائع في مشوار العمل، السيارة صارت نعشا متنقلا يختزن أوراق الوصية الأخيرة…
تقود سيارتك وليس المطلوب أن تكون بثلاث عيون – كما يقول نظام المرور- إنك تستخدم خمس عيون، وعليك أن تقود كل سيارات الشارع التي تمر به، وتحمل كل براءات النظام من رخص وشهادات، وحتى بوليصة التأمين على الحياة والغير….
لست أملك إحصاءات بالموتى كل عام بهذه الحوادث ولكنني أعتقد أنها على مر السنوات العشر الأخيرة، لا تقل عن ثلثي ضحايا حرب لبنان…
تهزمك المدينة في كل لحظة.. والزمن لم تستطع كل الحسابات الحديثة أن تثبت موته، أو تطويله أو تقصيره، لكنه عندما يتحول إلى رقم أبكم في الجيوب، والرؤوس..
دفتر “الشيكات” أصبح كصكوك الغفران في العصور الكنسية الرهيبة، يعلن فتح المدن والصدور والعقول بدون معارك…
أرقامه أصبحت وشماً على الوجوه وجدران المدينة وعلى علب الدخان وصحون المائدة…..
في المدينة الكبرى تتصل الحركة بكل موجاتها مع الوقت وتتظاهر أمامك بسخطها، ومعلقاتها المائة المنقوشة على لوحات المتاجر ودفاتر الدوام الرسمي، وعدادات الهاتف والكهرباء…
حالة الارتداد إلى الخلف، هي التي تهزم التوقعات لأنها انتماء إلى الوقاية من الصدمات النفسية، ونقطة ضوء في سراديب العتمة…
الذي يعلن عن بيع مساحات اليابسة على الكرة الأرضية بشيك مقبول الدفع، لا يعيش حالة اللامعقول على خشبة مسرحنا، والذي يعلن حجز الممرات المائية والمسطحات الكبرى بالمحيطات، لا تختفي شخصيته وراء حركة رسام ” سريالي”…
فهجرة الأسماك، والمد والجزء، وتيارات البحر قابلة للامتلاك طالما أن السيد “الشيك” يتكلم لغة الماء والرمل ويحفظ حكاية الريح الجنوبية…!
المدير العام الذي كتب في أوراقه الرسمية إنه معقب ممنوح رخصة خاصة في تحصيل مبالغ الأرض المباعة على الشوارع الفسيحة والمختلفة، يمثل ظاهرة التوافق مع تشكيل الحياة الحاضرة..
إنه أكثر صراحة مع نفسه والآخرين، لأن مسألة التعارض بين المهنتين شكلية، وقانون العقوبات في هذه المرحلة يصبح أبكما معصوب العينين، ومدير المدرسة الذي يمنح طالب المرحلة الرابعة الابتدائية شهادة مختومة بتقدير جيد جدا، والطالب لا يعرف كيف يقرأ في كتاب الصف الأول، يمارس نفس البراءة في إجازة هذه العقوبة..
والمواجهة التربوية التي تراقب أحذية البنات، وألوانها وطول الكعب بالسنتيمتر، لا تدري كيف انتشر (القمل) في رؤوسهن، ولا من أي البيئات غير الطبيعية قادمة هذه الأفواج الجديدة التي سكنت رؤوس الصغيرات..
الهجرة الصامتة هي الموقف، لأن المدينة تعيش على نظام اللذة.. الجميع يتكلمون بصوت مرتفع، يطلقون شحنات ضخمة من الكلمات الطفيلية، والكل لا يعرفون هذه الكلمات، ولا يدرون كيف يمكن أن يوجد مستمع واحد يعلق على لسانه قطعة حجر صغير، ليحل هذه الرموز المدنية، ويكيف الكلمة لتكون أداة تعارف، أو حتى قانون في السجل التجاري…
اللون الأسود في المدينة، وهو اللون المفضل، لا لأنه ضد التفاؤل أو شكل من ألوان الحداد، ولكنه يبدأ حقيقة من الحذاء إلى العباءة إلى خط الأسفلت، وشعارات الأندية والمدارس وحقائب (السامسونايت)..
بنت البادية تتزيف في المدينة، ولن تعود إلى طبيعتها تشتري الروائح الباريسية، وتخلطها في غررفة النوم مع “الفكس” وشراب الكحة… وتختلط في مطبخها قلاية التيفال مع قربة جلد الخروف، ولا تفرق بين الموكيت والعدل بكسر العين وتسكين اللام.. وهو ليس ذنبها ولا ذنب القروي الذي يضج المذياع في بيته كل يوم عشر مرات لنشرات الأخبار، وأن أمريكا فيل ثائر وسط آنية زجاجية) كما يقول معلق فرنسي! أو عن اكتشاف “اليورانيوم” وتصنيع قنبلة ” النيترون” في فرنسا، وهو الذي لا يهمه معونة الآلات الزراعية، وبيع محاصيل مزرعته…
وحتى عجائزنا الكبار ممن افترشن سوق (المقيبره) يمتهن تجارة (القرصان) أو الأزياء ولعب الأطفال، يشعرن أن المدينة تكيف إنسانها وتلونه حسب مواصفات الزمن واللحظة..
والرقم في المدينة دستور المعاملة.. حركة قرص الهاتف تعني إضافة مبلغ لمديرية الهاتف، ورقم” التابعية” ولوحة السيارة لا يختلفان في التعريف عن اسمك عند أي مخالفة، أو إثبات هويتك..
المدنية أكثر الموجودات تثبيتا للأرقام، حتى حليب الأطفال صار (أس 26) وعلى الثدي الاصطناعي كمية الماء والحليب والسكر!
وإذا كانت الأسباب ليست كلها مخلوقة لغير ذاتها فإن اصطناع التفاؤل والابتسام، تشبه تمام من يشتري طقما للملابس الداخلية بثلاثمائة ريال لتكون واحدة من الأسباب الحضارية التقدمية!
الكاتب وحده الذي يمارس الغباء كل ثانية، ويحترف الاحتجاج ويعتقد أنه يضع من مركب الكلمة عنقود عنب لمريض عنده نقص كريات الدم الحمراء..
في المدينة يصطف الكتاب كالشحاذين في وابير على باب الغرفة التجارية، يبحثون عن وكالات للقصة والمسرح والرواية وديوان الشعر، والمارة يضحكون من هذه الطوابير التي لا تلبس السراويل، ولا الأقنعة الواقية من أشعة الشمس…! ولأنهم أغبياء، فإن التسعين بالمائة منهم مشردين وجياع، ويموت من بينهم أعداد معقولة من المرضى والمجانين، ويكتبون لأنفسهم أنهم شهداء الكلمة، وعلى الأرصفة والحدائق والغرف المظلمة يكتبون عن أنفسهم ويقرأون بهمس وجهر شعر (نيرودا) ولامية “الشنفري” وفصول من مسرحية “مكبث”..
والعلامة الفارقة والثابتة تسجل في الهوية وجواز السفر، كاتب أو أديب، والصورة ترتسم عليها ملامح شحاذ أو لص ومبتز.. وقافية الفقراء والمعاناة والركض وراء مساحة الخيال ” لا تساوي عرق عامل حفريات المجاري” كما قال أحد الزملاء…
فيا أيها الكتاب، والشعراء، والنظامون بيعوا الأحذية للمدينة، فإنها أكثر إيجابية من دفاتر شعركم وسطوركم العلمية…
وعلى الرسامين، ومحترفي الفن أن يلبسوا الأقنعة التنكرية لأن المدينة لا تريد المجسمات في الميادين، ولا صوت الموسيقى الهادئة، ولا تهجع إلا على صوت عجلات (البلدوزرات) و (بواري) السيارات…
المدينة تذبحنا كل يوم، ولم يعد طعم (للنعناع) مع الشاي السيلاني، فمعلبات المشروبات الغازية أطهر للمعدة وأحس بلذعتها للحلق..
بيعوا شواربكم؛ وحنوا أظافر أقدامكم فهي أسهل للسير والتعايش مع الناس.. أما المخزون من عواطفكم وخيالاتكم وأدوات الاستفهام والتعجب، وفواصل الكلمات وأقواسها، فهي قراءة قديمة في ذكريات التاريخ والحفريات الأثرية!!
ويا أيتها المدينة عفوا، فإنك الصداقة تمام مع الحركة وليس حصار الساعة الواقفة، إلا مرضنا لأننا الغير قادرين إلا على البكاء، وهو أضعف لغات الاحتجاج الهزيل….
وقفة للتنبيه
ظاهرة التلميع الإعلامي؛ صار يحترفها بعض المسئولين من أصحاب الشهادات العليا، أو أصحاب الشركات حديثة النشأة..
في السنوات الماضية كان بعض من هؤلاء، حين يذهب برحلة (للبر) أو المزرعة (بالغطغط) يذهب بالصحفيين ومصوري الجريدة والمجلة، وكان وقتها يقال أن هذا جزء من التدريب على الإعلام ورد على من يعتقد أن ذلك المسئول في غياب تام عن الناس، أو منطو على أوراق رسمية..
لكنها الآن صارت عملية تجميل للجريدة، أن تشاهد صورة المدير الفلاني كل صباح، وأن يدخل عليك في البيت مع الملابس الرياضية للطلبة، أو سلسلة مفاتيح السيارة..
هذا التظاهر مرض سار ومنتشر في الدول النامية ولكنه عندنا صار جزء من ديكور التقدم والحضارة!! وهذا برأيي (استزلام) من الجريدة إلى هذا المسئول..
الصورة جزء من حياة الجريدة والمجلة لكنها حين تأخذ صفة الإعلان الثابت تصير دلالة جهل من هذه الوسيلة الإعلامية…
وأن تشاهد رئيس تحرير، أو مدير تحرير؛ يفتعل مقابلة صحفية مع مسئول من الدرجة العاشرة، أو مدير شركة، ويظهرها بالصفحة الأولى يجعلنا لا نشك مطلقا أنها مادة إعلانية، ترتزق من ورائها الجريدة!! وظاهرة التلميع والانتشار جزء من خط نمارسه عن غباء متعمد…
فالإعلان – مثلا- في حياة الأمريكي جزء من الاعتمادات الثابتة لأي إنتاجية، ولذلك صار أغلى إعلان في العالم في القنوات التلفزيونية الأمريكية..
عندنا؛ وحتى الآن/ لا يدخل التلفزيون في هذه اللعبة التجارية، ولكنه بدأ يزحف على صحافتنا بشكل مثير.. ومثير للشفقة…
وإذا كانت بعض صحفنا تمتهن هذا الأسلوب، فإنه خلل في الالتزام الأخلاقي لهذه المهنة.. وإذا كان الصحفيون هم أقل الناس بالحصول على أي مميزات ولا حتى في أراضي ذوي الدخل المحدود أو الضمان الاجتماعي، فإنه لا يباح لهم أن يخطوا لهذا الطريق الزلق..
نحن نعرف أن لاعب كرة القدم والمغنى تباع صورهم في كل الأكشاك ودكاكين قطع غيار السيارات والبقالات، ولكن هذه تجارة خارجة عن نطاق الجهاز الإعلامي…
ونحن نعرف أن الحصول على هاتف، أو توصيل تيار كهربائي لا يأتي إلا بطرق متعرجة، فإننا أيضا لا نريد من ذلك الصحفي أن يشتم هذه المؤسسات لتعلن خشيتها من لسانه، وتلبي كل رغباته بالطرق غير المشروعة.!!
وبين ظاهرة التلميع، والانتقاد لغير وجه الله تتحرك أسماء كثيرة على جرائدنا لتحصل على ما تريد، وبطرق غير منظورة.. والحكاية تطول، ولكن هناك من لا يجهل هذا السلوك.. وقد تكون هذه مجرد ملاحظة تحتمل الشك واليقين، ونحن لا نهتم، ولكن ننبه أنها ظاهرة موجودة وعسى أن يكون ذلك جهل صاحب النية الحسنة…!
ذباب في قرعة
هذا المثل أورده الأستاذ عبد الكريم الجهيمان في كتاب الأمثال الشعبية.. ويعني أن صوت الذباب في (القرعة) لا يتعدى محيطها.. وهذا المثل يجسد أصوات مختلفة على الحياة.
فصوت المذيع الذي يتفق كل الناس على كره صورته وصوته في الإذاعة والتلفزيون، نوع يقلص الشهية للاستماع أو المشاهدة..
وهنا كان حذق بعض الشركات في انتقاء عامل الهاتف، ومدير العلاقات العامة الذي يخضع لمقاييس تندر أن توجد إلا في أشخاص موهوبين ويحملون هذا المؤهل بكفاءة منحها الله لهم..
لذلك صار صوت المؤذن والقارئ المرتل الجيد يسلبك أحاسيسك ويسيطر عليك جو من الالتحام التام بهذه النفحات الروحية…
أما الأصوات النشاز، وما أكثرها في الإذاعة والتلفزيون فهي تصطدم معك، وحتى لو لم تكن من هواة ما يطلبه المشاهدون، أو المستمعون، في كل ساعات البث اليومي…
عشرات من أصوات (المغنيين) لا أدري من أجاز لهم الغناء وسرق دقائق غالية من وقت راحتنا، وعشرات من الكلمات التي تغنى تضحك الأخرس الأصم..
وأرشيف (التعبانين) كل يوم يقذف لنا بوجه وصوت الرقيب، أو المجيز يمضغ لبانه تسد مسامعه..
الغناء عندنا صار حالة من الانجذاب إلى تحت، وعملية الذوق لا يباشرها أحد من المسئولين عن هذا الجهاز لأنهم بحقيقة ما جعلونا مجبرين على مشاهدته، أو سماعه يجعلنا نتأكد أنهم لا يملكون هذه الحساسية الذوقية!!
وربما أن كل الأصوات واحدة، فصوت (الكنار) مثل نعيق الغراب، لأنهما من ذوات الريش والطيران، وكم هو صادق هذا المثل (ذباب في قرعة) فقد سبق لأباءنا تقييم هذه الحاسة، وانتقاد الصوت بكلمات موجزة وهادفة، رغم قصر هذه الجملة، وكل مناسبة وأنتم مع ذباب (القرعة)…!
للشريف الرضى
أَقولُ وَقَد أَرسَلتُ أَوَّلَ نَظرَةٍ
وَلَم أَرَ مَن أَهوى قَريباً إِلى جَنبي
لَئِن كُنتُ أَخليتُ المَكانَ الَّذي أَرى
فَهَيهاتَ أَن يَخلو مَكانُكَ مِن قَلبي
وَكُنتُ أَظَنَّ الشَوقَ لِلبُعدِ وَحدَهُ
وَلَم أَدرِ أَنَّ الشَوقَ لِلبُعدِ وَالقُربِ
خَلا مِنكَ قَلبي وَاِمتَلا مِنكَ خاطِري
كَأَنَّكَ مِن عَيني نَقَلتَ إِلى قَلبي
التاريخ: 28 – 07 –1400 ه
0 تعليق