لم يعد للقرية ذلك الحلم الناعم، الذي يتغذاه الفلاح من معاناته وهو معلق برجاء أعم وأكرم..
القرية أصبحت عنيدة، وغير متوازنة الخطو والرؤية.. جغرافيتها لم تعد حدود المزرعة، وإن طالت بها النظرة لا تتعدى المحيط الدائري من الخضرة.. القرية تشوه من نزف المدينة، تتكسر أضلاعها الأربعة بفعل لا يحترس للقادم من المناخات الساخنة والباردة، لقد نسيت القرية تلك العلاقة البشرية الرائعة بين الكرماء والضعفاء، والتضحيات الأسرية، والأشكال التعاونية في أي عمل يهم أهل القرية، أو يتصل ببنائها أنات الساقية ومزمار الراعي، والجدول الصغير الذي تنحني إليه البدوية لتملأ قربتها، وصارت جزء من أسطورة يرويها البقية من المتقاعدين عن العمل والجالسين على سواري الأبواب….
…
_ وهو يهز كتفه قال لقد تخطيت الستين بعام واحد، ولكنني لا أشعر بمرارة الزمن، أري كل الأشياء محنطة أمامي، حتى أنتم شخصيات معلبة للتصدير بكافة ملامحكم ورؤاكم!!
أنا لا أختزن من الوقت إلا هذه الرؤية الساخرة التي أطل بها عليكم.. فأنتم بكافة فصائل الدم وأنواعها معلبون بالصفيح، ليس لأنه لا يوجد مشروع علاقة ترونها بين حركة أقدام راقصة ولسان خطيب مفوه مثلا، بل المهم أن التفريق بينهما هو القضية التي تحدد الجوانب المؤثرة على الحشد الحاضر من السلبيات والإيجابيات..
فالراقصة تؤدي نمرة محفوظة القيمة وحتى (التنقيط) فائض مالي من جيوب الأغبياء، ودخل غير منظور لكل أصحاب السوابق، ولذلك فهي تؤدي عملها بدافع غيرها ومن موقع مصلحتها!!
والخطيب يملأ حلقه بالكلمات الضخمة من كافة مخارجها، ويضغط على الكلمات (الأبطال)… ينتظر التصفيق، وهي حالة التنازع الذي يعرف كيف درجة حرارة تصفيق الناس، ومن تلك الأصوات يقيس درجة غباء كل فرد، رغم اعتقادكم أن كل من يصفق عشر مرات يخطو إلى الأمام مائة خطوة!!
قلت مازحا…..
_ لكن ليس من علاقة بين الرقص والتصفيق، وانكسار الأضواء على قريتكم، وانخفاض الابتسام بين سكانها، أنا لا تهمني هذه التعليقات الشاعرية بثياب فلسفية، أريد أن أفهم بعمق خطوط التوازي التي تريد أن تقولها في حوار القرية مع المدينة؟
تعرض ابتسامة على محيط وجه.. العالم من حوله لم يتغير، لأنه لا يريد أن ينطلق خارج تلك البيئة التي لم تتعرض للهدم في ذلك الركن الصغير من القرية، الراديو والساعة المعلقة على حائط الطين الخرب وبرميل (الزبالة) الذي كتب عليه لنظافة قريتكم، هي الأشياء الوحيدة التي تشعره بالارتباط بهذا الزمن..
وبحركة هادئة، وبعد أن عد الخرزة الواحدة والستين، وهي سني عمره، تحرك فيه الخاطر الجديد.
لا أطالب أن يبدع الناس طرقا متغايرة ومتنافسة في القضايا الأساسية العامة، لأن في هذا اختراق للتوازن، وخلط لنواميس الحياة، لكن قريتنا – وهي تنمو ببطء- إلا أنها تلبس مظاهر المبالغة الساذجة لسلبياتكم، فمثلما تنهجون تعليب أنفسكم خارج مدار الواقع، وتلتهمون مفاخر الأثاث والعطور، وأدوات عرض الأفلام، وتبحثون عن شبر في الأرض تعلق فيه أوسمة المظاهر القبلية في مدينتكم، فأصحابنا حشروا قريتنا بسلبيات السلبيات لكم، وبقينا المعدة التي تتوسط الجسم المريض!! أنا لا أريد أن أحكم غيابيا على كل شيء، لأن هذا افتراض في إيقاف العقل، والصوت في الإنان!! قديما كانوا يسمونني بائع (الطباشير)، لم يجزعني ذلك اللقب لأنني أعرف أن كل إصبع (طباشير) يحملها المدرس يعلم بها صفا كاملا من الطلبة لمادة العلوم أو الجغرافيا، ولم تكن تلك الأصابع المنتثرة داخل (الكرتون) الصغير للتوقيع في دفتر المعجبين لحضرة الراقصة!! في حالة أخرى كرهت هذه التجارة، لأنها أصبحت تتكاثر في دكاكين الآخرين، ولهذا السبب حولت رأسمالي كله في بيع رؤوس الغنم في قريتي.. تصور رؤوس الغنم… أرجو ألا يزعجك ذلك!! كالعادة ضحكوا مني وانتقل اللقب (أبو الجماجم) ومع أنهم يشترون مني بالسر هذه البضاعة إلا أنهم يسخرون بالعلن مني في كل حلقات مجالسهم، ومع هذا لم يدركوا أن الرأس هو مالك الحواس والمخ، وأخطر الأجهزة التي تدير باقي التصرفات؛ لم يدرك هذا المعنى وقيمته إلا منافس جديد صار يبيع البضاعة بشكل أكثر تقدما.. فقد عز العينين، واللسان، والمخ، وبقية جلدة الرأس، وصار يتناولها سكان قريتنا على شكل شطائر (ساندويتشات) وبذلك أغلق عليّ نافذة جديدة من أبواب العيش، ولكني غير آسف أن يطور المهنة واحد أشطر مني… قلت…. معنى هذا أنك لا تخشى على نمو قريتك البطيء لأنه يتمشى مع الظروف السليمة لهذا التقدم؟، لم يعجبه تداخل الصور عندي، أو اقتناص فرجة صغيرة في حديه الموزون لأنفذ منها إلى الطرف الأكثر سلبية… ضحك؛ وبكل ثقة واتزان عاد للحديث.. ليس الأمر هو بممارسة سلطة المدينة على القرية والإخلال في طابع المتأثر من المؤثر، الأمر هو أنه عندما تصلون إلى أول درجات التصحيح نكون نحن في أقصى حالات التمزق والانعدام، لأن الضابط مفقود..
فقريتنا تصدر كل شبابها للمدينة، وهم لا يريدون أن يتنازلوا عن مكتسبات حصلوا عليها بأفعال سليمة، أو دخلت المصادفات دزر التغيير في حياتهم…
فلو ولد – مثلا- (شكسبير) في (ماليزيا) وسط جمع من الأميين والفقراء هل يكتب له الشهرة والنماء؟، أنا لا أريدك أن ترد بأن مثل هذا العظيم لا يولد إلا في محيط اجتماعي متعلم يفرضه، لكني سأرد بقياس مماثل هو أن ابن خلدون ولد قبل زمنه وبظروف مشابهة!! لكنني أريد أن أصل إلى أن حلم كل أبناء قريتنا أن يصبحوا مشاهير جدد للمدينة، ولذلك يطاردهم هذا الأمل حتى ولو انسحقوا تحت عجلتها الرهيبة، فإن القرية تظل هي المنفى الذي لا يقبله أحد، ولا يحلم بالعودة أو الانتماء إليه أي مخلوق من هذه التربة…
من طرف آخر تنمو القرية، كما قلت؛ على متواز أخرق فهي تنقاد للتقليد بحكم الفرضية الثابتة لسلطة المدينة، ولذلك فقدت ذلك التماسك في توازنها وتقاليدها وغرقت في مسلسل التحديث – إن جاز التعبير- تغيرت نظرة الإنسان للأرض والنخلة، وحتى الحلم صار كابوسا رهيبا!!
تظاهرت باللامبالاة لحديثه، وكأنني عازف عن هذه المقارنات المتداخلة، وحين شعلات أن الحرج في الموقف سألته….
_ بين بائع (الطباشير) وأبو (الجماجم) لغة عميقة، وسلوك مباشر للحياة غير معقد قديما، ولكنني أجدك الآن تنطوي بحكم سنك على خلق معارضات تعتقد أنها إيجابية، ولكنها مضادة لناموس التطور، وحلقة في سلسلة الوقوف على سطح الحياة بسلوك من يقف منها بروح عدوانية؟!
_ أنا غير مضاد؛ ولذلك لم أكن في موقف المدافع، حركة الحياة لا يهمها كل هذه الثرثرة التي تسميها معارضات وجدل حاد بيني وبينك الآن..
قريتنا في الماضي لم تكن جنة السعادة، ولا أريد أن اتخذ من تاريخ الماضي كرمة (الكرخ) عند بن هاني أو ظلال الزيزفون، وهذا الكلام أسميه حوار نصف الطريق، لأنه لا يلتقي على نقطة ثابتة…
فمتغيرات الحياة تفرض نفسها حتى ولو بالحرب المدمرة بأسلحة الفتك الرهيبة.. لكن قريتنا لم تتصل بتاريخها بثبات خاص، وتعيش مع ظروفها بلغة منسجمة، كل جار في هذا الحي يملك مزارعين من خارج بيئة إقليمنا، وحتى الراعي صار يستخدم مربين للمواشي لا يعرف ما يتكلمون، ولا كيف يعد لهم رواتبهم وبأي عملة!!
هذا انقلاب في المقاييس التاريخية الإنسانية.. فهل تجد راعيا أو مزارعا في أمريكا يمتلك خادما؛ وطباخا ومربية في بيت الصوف؟
قلت لك أنه زحف المدينة، ومن هذا المنطلق لا زلت أتفرج وأضحك وأدون في مذكراتي صورة الإنسان المهزوم من الداخل…
قريتنا تملك تشكلها الحديث، ومن الصعب حدها عن الأفق الذي تتطلع إليه.. وهي جزء من هذا التحرك الكبير، ولكن أنبوبة الاختبار وفرز المكونات والألوان التي تريد تشكيلها تظل غربة عن إنسانها لأنها تحتفل بميلاد مجهول الصفات، ولذلك سأظل أقف شاهدا ولكن غير مؤثر، أو متأثر.. وهذا الطريق هو الذي جعلني أمنح لنفسي هذا التقاعد المبكر، فالمسرح أمامي يقوم بكافة المشاهد، ولكنني اعتبر نفسي المتفرج الأول الذي يجب ألا يفوته أي مشهد، إلى أن أرحل، وبعد ذلك ستوجد قصة أخرى!!
تحية البواري
في الماضي كان السائق يحمل مفاتيح كل القرى والمدن ويعرف كيف تطل الرؤوس من الشرفات الطينية على هذا المخلوق المتحرك من كومة حديد غريبة وعجيبة.. والسائق بذلك يمثل الفاتح المسالم، ولكنه باعتقادنا أنه أكثر الناس علما ووعيا، وأن من يدير هذه السيارة لابد أن يحمل عقلا يتفوق على كل الكائنات البشرية…
وبحكم الغياب عن العالم، كان السائق يحظى بكل كرم المدينة والقرية، ويتساوى أو يتفوق على أي ضيف تزفه المقادير…
فهو الذي يأكل البيض والدجاج، وينام بدون إزعاج الصبية، وتعرف كل خطوة يخطوها بأي اتجاه، لأن رقابة العيون لهذا الشخص النادر لابد أن تفهم السر أو السحر الذي استطاع به إذلال هذه الآلة الرهيبة..
لكن شهر العسل (للسواقين) ينتهي لأن السيارة أصبحت أداة معروفة ويصير السائق أخيرا جزء من وظائف خارج الهيئة أو – لا مؤاخذة- خادم متحرك خارج جدران المنزل أو المكتب!!
وتاريخ الحوادث في السيارات كانت ندرة، أو كأي حادث في الوقت الحاضر لتصادم قطارين، لكن الموت مزروعا بالبيوت من سوء التغذية، أو الأمراض السارية المعدية…
في الوقت الحاضر صارت السيارة أداة موت، وترفا ذاتيا هائلا… تصوروا طالبا في المرحلة الثانوية يملك سيارة (بتلفون وتلفزيون) وكافة وسائل التطريب والراحة…
…
السيارة واقفة بباب المدرسة اسأل مديرها…
_ لقد ارتفع مستوى مدراء المدارس في ممتلكاتهم بأكثر من مدراء التعليم؟!
رد ..
_ ماذا تقصد؟!
_ سيارة وهاتف.. وكل وسائل الاتصال والراحة.. قهقه طويلا… ضجت الغرفة…
_ إنها سيارة طالب في المرحلة الأولى!! ولكن هل تدري أن ولي أمر طالب آخر يوسطني هذا اليوم لابنه، أن يتنازل عن هدية النجاح بدلال من سيارة (مازدا) إلى (كابرس) وإلا لن يستمر بالدراسة!!
…
في كل زاوية شارع تجد القبلة الخشنة بين سيارتين.. لقد شاهدت اثنين تصادما بسيارتيهما، وعند مواجهة الأول للثاني، وقف بتحية مجاملة لطيفةـ وقبلة، وقال..
_ (ولا يهمك.. خيرها بغيرها.. ولا سلم العمر تفداك السيارة)!! تصافحا.. وانصرفا بهدوء قبل أن يصل شرطي المرور….
أغرب شيء في تاريخ السيارة أن تترجم إحساس الفرد إلى لغة جديدة…
تصوروا أن يكون المنبه وسيلة تحية.. أي أن تدق دقة واحدة معناه مرحبا.. واثنتان صباح الخير، أو مساء الخير.. وأن تسمع تلك المدينة ضاجة في كل أوقاتها وشوارعها بتحيات متلاحقة، بينما عالميا يحظر استعمال المنبه إلا في أقصى حالات الطوارئ، أو بسيارة طبيب يسعى إلى إسعاف ضعيف!!
لا تستعجلوا إن هذه من نتائج تقدمنا التكنولوجي…!!
…
لمحمد سعيد الحبوبي
بــلادك نــجــد والمــحــب عـراقـي
فـغـيـر التـمـنـي لا يكون تلاقي
ولو أن طـيـفـاً زار طـرفي ساهداً
لكــنـت رجـوت القـرب بـعـد فـراق
بـلى؛ قـد أرى تلك المغاني تعلةً
فـــأحـــســب أنــي زائر ومــلاقــي
أرى الدهر يأبى في تألف شملنا
كــأنــي أعــاديــه فـرام شـقـاقـي
هي الشمس في أفق السماء مقرها
فــكــيــف بــراقٍ نــحـوهـا بـبـراق
ألا هل أراني واجداً ريح وصلهم
وإن عــدمـونـي صـحـبـتـي ورفـاقـي؟
التاريخ: 05 – 08 –1400 ه
0 تعليق