الوظيفة وشاغلها، يطول عمر النقاش فيها، لأنها قضية تنمو تبعاً لنمو كيان الإدارة، وتطورها..
ولأننا لا نستطيع الخروج عن دائرة مشاكل الوظيفة وخاصة الحكومية منها بكافة فئاتها وتصنيفاتها، فإن الحديث عنها يتصل بهذه العلاقة السلبية الباردة بين الموظف كقوة عمل رديئة الإنتاج، وبين الوظيفة التي لا تزال تدور في فراغ النظرة القديمة للعقوبات لا الحوافز وإغلاق أي انطلاقة إيجابية يمكن أن تحدث للوظيفة وتعطيها دورها المقبول..
• • عن بعض هذه المشاكل وغيرها عقد اجتماع في شهر صفر الماضي نظمته الأمانة العامة لمجلس الخدمة المدنية بالتعاون مع معهد الإدارة العامة، وكان الموضوع عن (عزوف بعض فئات الخريجين الجامعيين عن العمل في الدولة).. وقد تركزت الموضوعات حول مجموعة من النقاط التي تصلح أن تكون أرضية مناسبة لبحث مشكلة الوظيفة من كافة أوجهها..
لقد تركز موضوع الاجتماع على نقاط رئيسية، وأخرى ربما ليست بالأهمية الكبرى، وكذلك هناك نقاط لم تبحث نهائياً، إلا إذا كان تطرق لها المجتمعون من زاوية العرض السريع، ولم تسجل ضمن التوصيات التي تقدم بها الأمين العام..
• • الموضوع الرئيسي في البحث تركز على عزوف الجامعيين من الوظيفة الحكومية بكافة قطاعاتها، وكان من بعض الأسباب التي عللها المجتمعون هي:
١ – (وجود حوافز مالية في القطاع الخاص تفوق الحوافز التي يقدمها القطاع في الدولة، فضلاً عن التسهيلات التي يمنحها لمنسوبيه، وخاصة من نواحي العلاج والنقل والسكن)..
2 – (أن القطاع الخاص يتيح للمنتمي إليه فرصاً أفضل للنمو، وزيادة في المعلومات عن طريق التدريب وغيره)..
۳ – (استغلال القطاع العام للموظف منذ التحاقه به وقتل طموحاته في تكوين حياته العملية والاجتماعية)..
4 – (أن الخريج يشعر بتجاوب أفضل من مراجعه القيادية ضمن إطار القطاع الخاص أكثر مما يتيحه له بيئة العمل في الدولة)..
5 – (سلبيات التنظيم في الإدارة الحكومية وعدم تحديد الصلاحيات بصورة دقيقة وانعكاسات ذلك على العلاقات الشخصية بين الموظفين).
6- (إلزام الخريج بالعمل في جهاز معين دون غيره في الدولة، ظاهرة لا تخلو من سلبيات خاصة اقترنت بتفضيل الخريج لجهاز على جهاز آخر)..
۷ ۔ (حصول المتعاقد غير السعودي على مميزات نقدية أو عينية معينة لا يتمتع بها الموظف السعودي، كبدل السكن مثلاً).
۸ – (المبالغة في أحكام الرقابة على الموظف في القطاع العام حيث يحاسب الموظف عن كل خطأ ولو كان نتيجة اجتهاد)..
ثم يعرج المجتمعون على إيجاد بدائل لحل مشاكل هذه الظاهرة، منها الحوافز المادية، وتعديل كادر الموظفين حتى يتناسب (والعرض والطلب) أمام منافسة القطاع الخاص.. و(إيضاح مزايا نظام التقاعد المدني في الدولة وعدم انقطاع المعاش التقاعدي لفترة طويلة وإعادة النظر في المعدلات التقاعدية بحيث تتناسب مع تكاليف المعيشة وتطلعات المستفيدين بها)..
كذلك معرفة ما إذا كانت كل التخصصات ملائمة للإدارة الحكومية وحكرها عليها..
ومن الحوافز التي طرحها المجتمعون إيجاد جمعيات تعاونية توفر بعض السلع والخدمات بتكاليف منخفضة..
ونقطة أخرى هامة جاءت حيية في فقرات توصيات تلك اللجنة هي الاستفادة من العنصر النسائي في الأعمال الحكومية!!
• • هذا ما أعتقد أنه أهم النقاط الرئيسية في الموضوع، وإن قصرت المعالجات، ونشوء المشكلة للجامعيين فقط، ويهمني هنا مناقشة تلك الفقرات من زاوية ما تتيحه التجربة اليومية للموظف، وما تسمعه صراحة من انتقاد موجه لبعض مواد نظام الخدمة، وسلبيات القيادة والقاعدة في الإدارة الحكومية..
إذا كان القطاع الخاص يملك وسائل الجذب للطاقات العاملة الوطنية برواتب مغرية، فان السبب يعود إلى أن هذا القطاع يملك القدرة على توظيف طاقات الإنسان بأقل العقد الإدارية والتنظيمية، وأن هذا القطاع وجد منافساً، رغم ساعات العمل الأطول في الدوام إلا أنه حل معضلة هذا العامل الوطني بأساليب الأخذ والعطاء كمقايضة إيجابية بين الطرفين، وعلى الرغم من وجود كفاءة المتعاقد التي إن لم تتساوى مع الكفاءة الوطنية فهي قد تكون أكثر مرونة في المعاملة والقيادة، أو لنقل بصريح العبارة أنه أسهل انقياداً لأي عمل يفرضه الأجر لكن التفضيل في معظم الأحيان للمواطن يأتي من موقف أخلاقي أكثر هو وجود الأمانة في العمل لظروف فرضتها ظروف المجتمع والبيئة..
الشيء الآخر أنه لا يجد الفوقية المتناهية في التعامل بين الرئيس والمرؤوس، واستغلال، أو إباحة النظام لكافة التصرفات السلبية والإيجابية، وانتظام الكفاءة الحسنة مع السيئة في إطار نظام ترقية واحد لا يفرق بين الحالتين ولذلك أشارت الفقرة الثالثة في هذا المقال في قتل طموح أي موظف في الإدارة الحكومية منذ تعيينه، وهذا ربما يكون عيباً مشتركاً بين النظام وبين الموظف، وإن كان النظام هو الذي فرض هذه السلبية..
العامل الأهم في الموضوع هو (سلبيات التنظيم في الإدارة)، وهذه النقطة صحيح أنها تشير للفوارق التي تنتج عن هذا الموقف بين موظف وآخر، إلا أن القضية لا تحدد فقط بالفوارق، إذ أن الإدارة الحكومية، تحولت إلى قطاع خدمات بدلاً من قطاع إنتاج، وهذه الخدمات تدور في محور الموظفين، أي أن الجيش الكبير من الموظفين ممن يشكلون ما يعرف بـ (البطالة المقنعة) هم الذين تقوم على خدماتهم إدارات الموظفين والشئون المالية، وإدارة الاتصالات وغيرها من قطاعات إدارات الخدمة فقط.
• • وطالما أننا بسبيل إدخال الآلية والبرمجة في الإدارة، فإن الأصل ليس فقط باختصار القوى العاملة الحالية، وتحويل الفائض منها إلى قطاعات أخرى، بقدر ما هو انتهاج تنظيم جديد، لا تخضع له فلسفة تكثيف المواد في النظام الواحد، ليصبح مثل (روشتة) الطبيب العام الذي يعطى المريض عدة أنواع من الأدوية حتى إذا أخطأ نوع، عالج النوع الآخر!!
إن ديوان الخدمة، لازال يفتي بقضية واحدة، بفتوى متناقضة بين الإدارة القانونية، وإدارة الموظفين، أو أي جهاز آخر يحق له إبداء الفتوى..
وإذا كنا في سبيل معالجة الإدارة المركزية في الوزارة بالذات دون فروعها، فإنها تقوم على مبدأ التماثل في النظام من حيث الراتب والعلاوة، ولكنها تختلف عند إتاحة الفرص بين العاملين عند الترقية، أو التدريب بالخارج مما جعل هذه المميزات تتركز إما في الوزارات، أو الإدارات الكبرى في المدن، وفي ذلك إضاعة الفرص على القرية، والمدينة الصغيرة..
• • أيضاً ليس من التوافق إطلاقاً عدم التفريق بين الإدارة المدرسية مثلاً، وقسم شئون الموظفين، أو المالية..
الإدارة المدرسية مملوء وقت شاغلها طوال ساعات الدوام الرسمي في العمل والحركة، وتثبيت الرقابة على العاملين من المدرسين.. ولهذا لا يتفق من يمضي ساعات عملة تحت ظروف الجو البارد، أو الحار، ويقود إدارة مختلفة في كل مرتكزاتها، وبين إدارة تنفذ نظاماً ثابتاً لا يتغير، ولا يتجدد، لذلك كان انحسار الإدارة المدرسية وضعفها جاء لهذا السبب، ولعدم خلق فرص جيدة تكون وسيلة جذب لهذا العمل الشاق..
أما المدرس فقد استعرضت جزءاً من وضعه في مقال سابق، وعللت بعض الحالات التي تتصف بها حياته ومعاناته..
نأتي للفوارق الأخرى بين الوظيفة الإدارية التي لا تتعدى مسئولياتها النظام المتفق عليه، والمعمول به.. هذه الفوارق نلمسها أكثر بين المتعاقد والموظف الخاضع لنظام الخدمة..
المتعاقد يحصل على مميزات الراتب الأكثر، وإجازة «45» يوما إلى جانب احتساب خدماته سواء قبل الشهادة الجامعية أو بعدها وكذلك تذاكر السفر وبدل السكن.. في حين أن الموظف الذي يتكافأ مع المتعاقد بكل الصفات المذكورة لا يحصل على هذا المميز.. ولأضرب مثلاً بالناسخ على الآلة الكاتبة العربي..
نحن ندرك أن هذه الوظيفة، رغم حساسية عملها، وأحياناً سريته لا نجد من يقبل عليها من الفئات الوطنية إلا النادر جداً، لأنه لو افترض أن هناك من يحمل شهادة الكفاءة المتوسطة إلى جانب شهادة إجادة النسخ على الآلة الكاتبة، فإنه لن يحصل بأحسن الفروض إلا على المرتبة الثالثة براتب قدره «1455» ولو حصلنا على حامل شهادة التوجيهية وإجادة النسخ على الآلة الكاتبة العربي والإنجليزي فلن يحصل إلا على مريوط المرتبة الرابعة الأول..
لكن لو وجد متعاقد بالشروط الأخيرة، فإنه سيجد راتباً لا يقل عن «۳۰۰۰» ريال مع مميزات العقد كله!!
نحن لا ننكر أننا بحاجة إلى الكفاءة العربية، أو الأجنبية ولكن ليس في الامور التي يمكن ملؤها بالمواطنين كوظائف الحسابات المالية أو النسخ أو تدقيق العقود وغيرها..
إن هذا التسابق على جلب المتعاقدين، أوقف حركة الإقبال على الوظيفة الحكومية، من منطق عدم المساواة بالأجر وغيره..
• • نرجع الى نظام التقاعد، وهو يظهر بعض المميزات، ولكنه يحتفظ بسلبيات كثيرة..
وإذا كان أعيد النظر في فصل العسكريين بنظام خاص بهم، فإن هذا بمنتهي الصدق مع الواقع، لأن العسكري فعلاً يعطى جهداً ميدانياً، وفكرياً للقيادات العسكرية أكثر مما يعطيه أي مدني يعيش في جو مريح وهادئ.. لكن ما أعنيه بسلبيات النظام، هو عدم تفريقه بين حقول مختلفة في فئات الوظائف المدنية نفسها..
مثلاً ليس من يعيش في المعامل والمختبرات أو يتعرض لمخاطر مختلفة مثل الأطباء وغيرهم، يقاس بمدير إدارة يمضي سنوات خدمته كلها تحت وسائل التكييف والهدوء النفسي، وحتى المدرس والموجه ينطبق عليه هذا التفريق لاختلاف الظروف التي يعمل بها كلا الطرفين.
الشيء الثاني، أن التقاعد يصرف للموظف طيلة حياته ولكن في حالة الوفاة يرثه أبناؤه، ولكن يسقط حق كل متزوج، أو من أكمل دراسته في حين أن الأساس بالتقاعد هو عن خدمة ذلك الموظف ولا أدرى لماذا يسقط حق الورثة في هذا الراتب؟!!
وإذا كان القطاع الخاص يوفر فرصاً أفضل من الوظيفة الحكومية فإن التأمينات الاجتماعية أيضاً وفرت مميزات إن لم تكن متساوية مع نظام التقاعد فهي أفضل بالمرونة وكفالة حياته مستقبلاً..
• • أيضاً هناك مواقف قد تكون غير ظاهرة ولكنها موجودة في كثير من القطاعات الحكومية وهي ما سبق أن اسميته ب «الوظائف الإرضائية» في مقال سابق!!
هذه الوظائف تجهز لفئة من الخريجين أصحاب المؤهلات العليا، كأن يقتطع عدة أقسام وتضم لبعضها، وتستحدث كإدارة الغاية منها كسب هذا المتخرج، وهذا ما يجعلنا فعلاً نعيد النظر في لزوم تشغيل هذه التخصصات ولعل أكثرها يختلف مؤهله بعيداً عن العمل الموكل إليه..
إن التسابق على احتواء أصحاب المؤهلات العليا في خلق هياكل إدارية يقلل من نسبة العطاء والطموح الذي يمكن أن يعطيه في مجال تتوفر به ممارسة اختصاصه الفعلي..
فليس كل من حصل على شهادة «ماجستير أو دكتوراة» يجب أن نخلق له ظروف عمل ولو كانت «إرضائیة»
إن مثل هذا التصرف يبنى على فرضية خاطئة، وما قيل من حرية اختيار الموظف للجهة الحكومية التي يرغب شغلها، فيها بعض الحل المؤقت، ولكن إذا فهمنا أن هذه الأعداد يتزايد، وأن فرص الابتعاث في الماضي كانت تتحكم بها المنفعة الذاتية على حساب المصلحة العامة، فإن تراكم هذه الأعداد سيخلق ذات المشكلة مستقبلاً ولذلك يمكن أن يعطي السابقون من خدموا الدولة منهم فرصة العمل في القطاع الخاص وإحلال مكانهم المستجدين، دون التزام بنص «أن يخدم المتخرج في القطاع الحكومي بعدد سنوات دراسته».
إن هذه الشروط خلقت ظاهرة معاكسة هي هروب كثير من الدارسين قبل التخرج إلى ترك الدراسة للبحث عن وظيفة في القطاع الخاص، والهروب من شرط «الخدمة بعدد سنوات الدراسة».. وما نخشاه أن تكون هذه الظاهرة قادمة حتى على أصحاب الشهادات العلمية من مهندسين وأطباء ومتخرجي كليات العلوم بكل تخصصاتها..
تبقى مسالة تكييف التعليم حسب حاجة خطط التنمية.. هذا الموضوع وإن أشير إليه في خطة الدولة الحالية، إلا أنه لا يزال في مراحل التصورية، ولم يدخل نطاق الدراسة والتجربة لتحقيق معدلات من القوى العاملة مناسبة لتنفيذ مشاريع المستقبل.
مثلًا تشغيل المرأة وإن كان أساسياً وهاماً في كسب طاقة مهملة، فإن كان كل من يريد مناقشة هذا الموضوع يرى أنه يمس حالة خطرة إلا في أمور محدودة جداً كالتدريس، والتمريض.
هذا الموضوع، لا أدري لماذا لا يناقش على نطاق واسع سواء من قبل المرأة أو رجل الدين، أو رب الأسرة أو العمل، ولا نكون بغفلة عن الواقع أو تناسى ظروفه.
إن المرأة – بحد ذاتها – ليست مشكلة، ولكن المشكلة تنبع من مجمل التحفظات الزائدة التي يفرضها الرجل وهذا الافتراق بالنظرة لا يحل المشكلة إطلاقاً.
فتكييف شروط العمل وحدها، على المرأة دون مراعاة العائد من عطائها، سيعطل جوانب كبيرة من قدراتها إلى جانب إضافة أعداد كبيرة من حالات «البطالة المقنعة».
فهي تملك الإمكانات التي يمكن أن تعطى في جو من الفرضية الإيجابية التي نراها بها كقوة محسوبة، ولكن دون إخلال بالموازين الاجتماعية التي نتفق على عدم تجاوزها في سبيل نظرة التحديث أو الرغبة في قتل مواهبها.
فالعوامل التي تؤثر بالرجل، هي ذاتها التي تؤثر بالمرأة، ولأن العامل النهائي هو الرؤية للقضية الأخلاقية من موقع المؤثرات الاجتماعية كلها، دون حصرها على المرأة وحدها، أو جعلها مدار السلبية الاجتماعية في أي ظاهرة جديدة.
وإذا كانت الوظيفة ترتبط بمجمل الرغبات، والطموحات، وأنها لا تنفصل إطلاقاً عن مجمل تناقضات المجتمع بكل علاقاته الثابتة أو المتحركة، فإنها باتت واحدة من الهموم الملحة في قبولها كواقع، ولكن غير سلبي دائماً.
إن ما ينقصنا هو مواجهة مشاكلنا بشيء من الشجاعة والاطمئنان إلى مستقبلنا، لأن النتائج لا يمكن أن تأتي بغير المتوقع إلا إذا تراكمت الأحاسيس، والتصورات الخاطئة بأنه لا مجال للحل.
هذه مجرد رؤى تحتاج إلى كثير من التركيز والتخصص ولكنها صدى لما يدور في عقل الموظف ولكن يبقى الجهة التي تنظم هذه العلاقة لننتقل إلى جعل الوظيفة انتماءً للعمل، وبالتالي جعل المواطن قوة عطاء تؤكد شخصيتها كل يوم.
التاريخ / 26 – 8 – 1400هـ
0 تعليق